الطريق الوحيد للحصول على الحياة الأفضل ـ 7
بناهیان: إن الحياة لنعمة قلّ ما يشكر الناسُ عليها/ علينا أن نعشق الحياة إذ إن الله قد جعلنا في هذا المناخ/ على الرغم من أن الدين قد ذمّ حبّ الدنيا لكنّه قيّم حبّنا للحياة/ إن من قيمة الحياة وشأنها هو أنه وُصّينا بأن نعيش على وضوء وبطهارة/ إن الحياة مركّبة من ثلاث عمليّات
بعد ما ألقى سماحة الشيخ بناهيان سلسلة محاضراته في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» ونالت إعجابا من قبل الشباب، بدأ بطرح موضوع «الطريق الوحيد للحصول على الحياة الأفضل» ليجيب عن سؤال «كيف نحظى بحياة أفضل؟» فإليك أيها القارئ الكريم نصّ أهم المقاطع من محاضرته في الجلسة السابعة:
على الرغم من أن الدين قد ذمّ حبّ الدنيا لكنّه قيّم حبّنا للحياة/ إن لبعض الناس خصومةً مع الحياة!
- إن حبّ الناس للحياة صفة محترمة كما أن الدين قد قيّم هذا الحب. فإن اللّه قد أولى اهتماما واعتناءً بالحياة. لقد سُئِل أهل البيت (ع) بتعابير مختلفة أن: قد ذممتم حبَّ الدنيا ولكننا نحبّها فهل نحن على سوء؟ فكان أهل البيت (ع) يستفسرون عن حبّهم ويبرّرون لهم هذا الحب. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِی یَعْفُورٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع وَ اللَّهِ إِنَّا لَنَطْلُبُ الدُّنْیَا وَ نُحِبُّ أَنْ نُؤْتَاهَا. فَقَالَ: تُحِبُّ أَنْ تَصْنَعَ بِهَا مَا ذَا ؟ قَالَ: أَعُودُ بِهَا عَلَى نَفْسِي وَ عِیَالِي وَ أَصِلُ بِهَا وَ أَتَصَدَّقُ بِهَا وَ أَحُجُّ وَ أَعْتَمِرُ فَقَالَ ع: لَیْسَ هَذَا طَلَبَ الدُّنْیَا هَذَا طَلَبُ الْآخِرَةِ. [الكافي/ج5/ص72] وقال رسول الله (ص): «مِن فِقهِ الرجُلِ أن یُصلِحَ مَعِیشَتَهُ و لیسَ مِن حُبِّ الدنیا طَلَبُ ما یُصلِحُكَ و مَن طَلَبَ الدُّنیا حَلالاً اِستِعفافا عَنِ المَسأَلَةِ و سَعیًا عَلى أهلِهِ و تَعَطُّفا عَلى جارِهِ لَقِیَ اللّه و وَجهُهُ کَالقَمَرِ لَیلَةَ البَدرِ» [جامع الأخبار/139]
- إن خلق الإنسان وحياته الدنيويّة موضوع جميل ومحبوب ومهمّ جدّا. فلا يجوز لنا أن نسيء التعامل مع الحياة. ولكن كأنّ لبعض الناس خصومةً مع الحياة.
علينا أن نعشق الحياة إذ إن الله قد جعلنا في هذا المناخ/ إن الحياة لنعمة قلّ ما يشكر الناسُ عليها
- لا ينبغي أن نخاصم الحياة، بل يجب أن نعرفها ونتقبّلها، وإن هذين الخطوتين تمثّل مرحلةً راقية للإنسان. افترضوا شابّا يدرس لامتحان القبول في الجامعة. ولا شكّ في أنه لا تخلو هذه الدراسة من صعوبة ومعاناة إذ تعيقه بالطبع عن اللعب والنزهة، ولا سيما إن كان يرى أصدقاءه يلعبون ويمرحون ولكنه مجبور على الدراسة. فإن استمرّ بدراسته على مضض وأخذ يقرع كتبه بين الحين والآخر متبرّما من كثرتها وعدم انتهائها، فهل بإمكان هذا الطالب أن يُصبِح عالما؟ وهل يصبح عالما مفيدا؟ من البعيد جدّا! فترى بعض الناس يتعاملون مع حياتهم بهذا الأسلوب. وكأنهم منزعجون من فعل الله وجعلهم في هذا الظرف.
- علينا أن نعشق الحياة لأنها محلٌّ قد اختاره الله لنا وجعلنا فيه. علينا أن نحبّ الحياة، فإنها خلقٌ من خلق الله وهو الذي جعلنا في هذا المناخ. لقد جعلنا الله في مخيّم الحياة هذا، ولكنّ بعض الناس يشتمون جدران المخيّم وأبوابه! وكأنهم لا يرغبون أساسا بالحضور في هذا المخيّم! في حين أن الله سبحانه قد منحنا هذه الحياة. ترى بعض الناس وللأسف لا يشعرون بالسعادة من حياتهم ولا يشكرون الله عليها. والحقيقة هي أن الحياة ومناخها وأجواءها لنعمة قلّ ما يشكر الناسُ عليها. كما قال الله سبحانه: (وَ قَلیلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّکُورُ» [السبأ/13]
إن كان الإمام الحجة (عج) قد حدّد لك جانبا من حياتك، فكيف يكون تعاملك مع ذاك الجانب؟/ لقد حدّد الله بنفسه حياتنا بجميع جوانبها
- لو كان الإمام الحجّة (ع) قد أشار عليك أن «ادرس في هذا الفرع، أو ادرس في هذه المدرسة، أو اسكن في هذا البيت وفي هذا الحيّ، أو اختر هذه الزوجة أو باشر بهذه المهنة» لامتثلت أمرَ الإمام واخترتَ ما أشار عليك به من مهنة أو مدرسة أو زوجة أو بيت، وستعيش عمرك كلّه مغتبطا بما أشار عليك الإمام (ع). فلو اشتريت بيتا على هذا الأساس لصبرت على محاسنه ومساوئه، وإن جاورت جارَ سوءٍ بشرائك هذا البيت، صبرتَ وقلت: «بما أن الإمام أشار عليّ بشراء هذا البيت، إذن فلأتحمل أذى هذا الجار هو جزء من امتحاني...»
- لو كان الإمام المهدي (عج) قد حدّد لك جانبا من حياتك، لاختلف تعاملك مع هذا الجانب بشكل أساسي. فالآن فلنتأمّل؛ من الذي أعدّ لنا أسباب الحياة برمّتها؟ ومن الذي قدّر لنا أن نواصل حياتنا الحافلة بالأحداث لكي نصل إلى نقطةٍ ما؟ إن الله هو الذي قد قدّر لنا حياتنا كلّها، وهو الذي قدّر لنا أصل الحياة وجعلنا فيها. وكذلك الأحداث التي أحاطت بحياتنا فكلّها مما قدّره الله لنا؛ لا إبليس! إن الله هو الذي قدّر كلّ هذه الأحداث فعلينا أن نُقَبِّل يدَ الله شكرا على هذه الحياة.
ينبغي أن نعشق الحياة؛ ولكن من دون أن نغفل عن الله سبحانه!
- ينبغي للإنسان أن يعشق الحياة، ولكن قد يبالغ في حبّ الحياة حتى يغفل عن الله! كما قد يعشق الإنسان صلاتَه ويغفل عن الله! فعلى سبيل المثال قد يأمرنا الله بتأخير الصلاة لفعلٍ أهمّ، ولكننا نرفض ذلك ونعصي ربّنا وَلَهاً بالصلاة واهتماما بها! كشأن إبليس الذي كان قد عشق الصلاة ولكنّه لم يسجد لآدم!
- ليس من الصواب أن يعشق الإنسان حياته حتى يغفل عن الله، أو يعشق جوانبا من حياته ممّا يؤدّي إلى نفوره من الله وأوليائه، ولكن حبّ أصل الحياة بالشكل المعقول، وبقدرٍ يمنح الإنسان حيويّة وبصيرة هو شيء مطلوبٌ جدّا.
إن من قيمة الحياة وشأنها هو أنه وُصّينا بأن نعيش على وضوء وبطهارة/ كون الإنسان دائم الطهارة يعني أنه يريد أن يعيش ويحيى على وضوء وطهارة
- إن من قيمة الحياة وشأنها هو أنه وُصّينا بأن نعيش على وضوء وطهارة. أحد أسباب عدم فساد الجسم في القبر هو أن يكون الإنسان دائم الطهارة. فما معنى دوام الطهارة الذي قد وصّى ديننا به كثيرا؟ يعني أريد أن أعيش وأحيى على وضوء وطهارة، وهذا لمعنى رائعٌ جدّا. يعني أريد أن آكل وأتحدث وأعمل على وضوء.
- فلا يهتمّ الدين بساعة وقوفك للصلاة وحسب، ويهمل باقي ساعات حياتك! فكأنه يقول: صحيح أنك لا تصلي الآن، ولكنك تعيش وتحيى، فيحسن أن تتوضأ وتواصل حياتك على طهارة.
ليست أصل الحياة بشكل عام محترمة وحسب، بل كل تفاصيلها محترمة أيضا
- ليست الحياة محترمة لدى العوامّ المتعلّقين بالدنيا، بل هي محترمة لدى المؤمن العارف بالله أيضا لما يحظى به من روح الشكر لله ولمعرفته بحكمة ربّ العالمين. وليست أصل الحياة بشكل عام محترمة وحسب، بل كل تفاصيلها محترمة أيضا. فلابدّ أن يكون انطباع الإنسان للحياة انطباعا إيجابيّا.
- لقد احترم الله حياة الإنسان كثيرا. فعلى سبيل المثال أحد مقاطع الحياة المحترمة جدّا هي فترة الشيخوخة والكبر التي یهن فيها الجسم. وإن الشيخ الكبير من الاحترام بمكان حتى قال النبي (ص) في حقّه: «الشَّیْخُ فِي أَهْلِهِ کَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِه» [جامع الأخبار/92]
العرس والزواج يحظى باحترام وقداسة عاليين في الدين، حتى أصبح دعاء العريس والعروس في ليلة زفافهما مستجابا
- أحد مقاطع الحياة المحترمة جدّا عند الله سبحانه هو الزواج. فعلى سبيل المثال دعاء العريس والعروس في ليلة زفافهما مستجاب، ولذلك حري بالضيوف المدعوّين في حفلة الزواج أن يوصوا العروس والعريس بالدعاء. أ فتعلمون لماذا لم ينتشر بيننا هذا العرف، فلم يوصِ أحدٌ العروسَ والعريسَ ليلةَ الزفاف بالدّعاء؟ لأننا نزعم أن الدين لا يولي اهتماما بالحياة! ولكن كيف يمكن يا ترى أن لا يكون الدين مهتمّا بهذا الجانب السعيد والحسّاس والمهم في الحياة؟! قال رسول الله ص: «یُفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ بِالرَّحْمَةِ فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَ عِنْدَ نَظَرِ الْوَلَدِ فِي وَجْهِ الْوَالِدَیْنِ وَ عِنْدَ فَتْحِ بَابِ الْکَعْبَةِ وَ عِنْدَ النِّکَاحِ» [جامع الأخبار/101]
- كثير من الناس حتى لا يخطر ببالهم كون الله قد أولى هذا الاحترام لأمر الزواج، بحيث يستجيب دعاء الزوجين في ليلة الزفاف! وهذه لظاهرة مؤسفة جدّا، وتدل على مدى خشونة الصورة التي يحملها البعض عن الدين! إذ قد آمنوا بدين لا يحضر في أفراحنا وأعراسنا! لأنهم زعموا أن هذا الدين لا يعير أي قيمة للحياة.
إن كان الطعام محترما لدى امرءٍ ما، فإنه سيراعي آدابه
- إن الدين يحترم الحياة كثيرا، ولذلك ينبغي أن تكون محترمة لدينا أيضا. ترى بعض أجزاء الحياة قد أعطاها الله حرمة في الدين، بحيث وضع لها آدابا. فعلى سبيل المثال لقد ذُكِرَت للطعام آداب كثيرة. فإن كان الطعام محترما لدى امرءٍ ما، فإنه سيراعي آدابه ويبتدؤه بالبسملة.
- عندما تأكل الطعام فإنه يتكامل في وجودك، ولذلك فإن اللحم أو النبات الذي تأكله سعيد إذ يأكله إنسان، وسعيد لكونه يفديك. إن كمال الخروف الذي أعدتَ بلحمه "ماء لحم" هو أن تأكله أنت ويُستهلَك في حياتك. فإن أنت ألفيت حياتك تحظى بهذا الاحترام عند الكائنات، تبدأ ببسم الله وتراعي آدابَ الطعام. فيا ترى لماذا لا نراعي الآداب في حياتنا؟ ذلك لأننا لا نرى حياتنا محترمة.
مرور على تعريف الحياة/ إن لم تقم بإدارة رغباتك، سيبادر آخرون إلى إدارتها حتى تضيّع نفسك
- لنَعُد إلى تعريف الحياة ونستعرضه مرّة أخرى. بودّي أن نتطرّق إليه من جهات أخرى ثم نحدّد معنى الحياة الأفضل على أساس هذا التعريف. وفي الواقع نستنبط معنى الحياة الأفضل من تعريف الحياة.
- التعريف الذي قدّمناه للحياة هو أن «الحياة عبارة عن إدارة الرغبات». فإن الميول والرغبات هي محور حياة الإنسان ومحرّك الإنسان وهي التي تحسم موقف الإنسان. إن الحياة هي إدارة الرغبات، ولكن لماذا قلنا أنها «إدارة»؟ لأنكم قادرون على تغييرها، كما يتدخّل غيرُكم فيها ويغيّر رغباتكم. فإن لم تبادر أنت إلى تغيير رغباتك، سيأتي آخرون فيغيّرونها أو يفرضون عليك رغبات وأهواء.
تُفرَض الرغبات على الناس في الغرب عبر وسائل الفن والإعلام
- ذات مرّة حضرت في إحدى الجامعات الغربيّة ليكون لي حوارٌ مع عددٍ من مخالفي الثورة. فقلت لهم: «إن كنتم تتمتّعون بحرّية السلوك وحرّية الكلام أو حرية الفكر في الغرب ـ وطالما رُفِع شعار الحرّية في الغرب ـ لكنّكم لا تتمتّعون بحرّية الرغبة، بل تفرض عليكم الرغبات عبر وسائل الإعلام ويُستخدَم الفنّ في هذه الوسائل لغرض إقحام الرغبات في القلوب.» ففي تلك الجلسة التي كان بعضهم يتجاسرون عليّ، لم يردّني أحد على هذه الكلمة. حتى قال لي بعضهم بعد انتهاء الجلسة: إننا نقرّ بصحّة كلامك.
- فإن لم تتكفّل أنت بإدارة رغباتك، ستفرض عليك رغبات ما. إنك مُجبَر على إدارة رغباتك وإلّا فسيأتي آخرون ويقومون بذلك حتى تضيّع نفسك؛ أي تمسي متحيّرا لا تدري ماذا تريد، لأنك قد صببت اهتمامك كلّه في أن تجد نفسك في رضا الآخرين وأهوائهم.
إن الحياة مركّبة من ثلاث عمليّات: 1ـ التحرّك باتجاه الرغبات 2ـ تغيير الرغبات والسيطرة عليها 3ـ التسليم بالمحدوديّات
- الحياة هي إدارة الرغبات وسعي وجهاد لنيل الرغبات. ولكنك تختار من بين رغباتك الأسمى. وهناك جزء آخر في الحياة وهو «التسليم بالمحدوديّات». وبعبارة أخرى إن الحياة مركّبة من ثلاث عمليّات: 1ـ التحرّك باتجاه الرغبات 2ـ تغيير الرغبات والسيطرة عليها 3ـ التسليم بالمحدوديّات التي تعترض دربك إلى الرغبات.
- إن الحياة سعي وجهاد في سبيل نيل الرغبات وإدارتها، مع التسليم بالمحدوديّات. ولكن كل هذه العمليّات تقع في ظرف المقدّرات الإلهيّة. وقد اعتبر الله سبحانه وتعالى كلّ هذه المقدّرات وسيلة للامتحان؛ (الَّذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَیاةَ لِیَبْلُوَکُمْ) [الملك/2] إذن بوسعنا أن نقول «في ظرف الامتحانات الإلهية» بدلا من «في ظرف المقدّرات الإلهية». إذن «الحیاة سعي وجهاد لنيل الرغبات وإدارتها مع التسليم بالمحدوديّات في ظرف الامتحانات الإلهيّة».
تعريف الحياة من وجهة نظر أخرى/ إن الحياة عمليّة للفهم
- بودّي الآن أن ننظر إلى الحياة من وجهة نظر أخرى. لقد كانت «الرغبات» هي المحور في التعريف السابق، ولكن ثمّة مصطلحات أساسيّة أخرى في حياة الإنسان، مثل «المعرفة والعلم». فلنقف هنا عند تعريف الحياة من زاوية أخرى تحدّد علاقتنا بالعلم في الحياة.
- هناك تعريف آخر للحياة وهو: «أنّ الحیاة عمليّة للفهم». فمن أجل فهم بعض الحقائق السامية في الوجود، كان لابدّ لنا من المجيئ إلى الدنيا ونعيش عمليّة الحياة المعقّدة والمضنية والشيّقة في نفس الوقت. إذ يقتضي فهم بعض الحقائق مضيّ عمر كامل.
- إن قال امرءٌ: «كلّ الحياة من أجل المعرفة»، فاقبلوا منه هذا التعريف، فإنه لا يتعارض مع تعريفنا عن الحياة. ولا يزال المحرّك في هذه الحياة هو الرغبات ولكن السؤال هو «إن رغبتي هذه تجرّني إلى طريق وتسوقني إليه ثم تنتهي بي إلى طريق مغلق لأصطدم وأرجع، فما الذي يراد لي أن أفهمه وأعيه من هذه الصدمة؟ وما الذي يجب أن أصنعه غدا بعد هذا الفهم؟»
إن الحياة بيئة لفهم المعارف السامية والحقائق الأصيلة لا المعلومات الابتدائية
- ليست الحياة من أجل أن ندرك أن «الدنيا يومان»! أو أن الإنسان لا يدرك شعور الأم ما لم يصبح أمّا. أو ما لم يطعن المرء في السنّ، ولم يكن له ولد شابّ لا يفهم مدى أهمية احترام الوالدين. فإن هذه الإدراكات هي من المعلومات الابتدائية ويجب أن نعيها في أسرع وقت. ترى بعض الناس يمضي من عمره سبعون سنة حتى يفهم أنّه «أيّاً ما تحببت إليه، فإنه لن يعرف قدرك». فهو قد صرف عمره كلّه ليعرف هذه المعلومة، ولكن كان بإمكانه أن يدركها بقراءة بِضْعِ روايات من أهل البيت (ع). فإن تحرّرت روح الإنسان من الأغلال أمكنه فهم هذه الحقائق في ثماني عشرة سنة لا أن يضيّع سبعين سنة من عمره لفهمها. كما أن الإمام الخميني (ره) كان يرى في وصايا الشهداء من أبناء الثماني عشرة سنة حقائق ومعارف بحيث قال في حقهم: إنهم قد طووا مسافة مئة عام في ليلة واحدة.
- إن الحياة هي من أجل الوصول إلى المعارف السامية التي لا سبيل إلى نيلها إلّا الحياة. فلا يقدر كتاب أو أي معلومة عادية على منح الإنسان مثل هذه المعارف. فالحياة هي عمليّة للفهم، ولكن من أجل فهم الحقائق الأصيلة في عالم الوجود؛ لا حفنةٍ من المعلومات العاديّة التي يمكن اكتسابها بسهولة.
الحياة تعني الفهم، ولكن فهم ماذا؟
- لقد وصف أمير المؤمنين (ع) هدف بعث الأنبياء كالتالي: «وَ یُثِیرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُول» [نهج البلاغة/ الخطبة1]. الحياة تعني الفهم، ولكن فهم ماذا؟ فعندما ننظر إلى عظمة الخلق وتعاقيد الحياة نقول: «جلّ الخالق! فيا ترى أيّ فهم يريد الله أن يمنحه الإنسان عبر هذا الخلق العظيم؟ وماذا يريد اللهُ أن نفهم؟ ومن أجل فهم أيّ حقائق، أُعِدّ عالمُ الوجود هذا وحياتُنا هذه؟» وهل يمكن صياغة هذه الحقائق في كلمات، حتى نتحدّث بها أو نكتبها؟!
- وهل أن الحياة هذه مع كلّ ما صَحِبَها من عظمة وتعقيد، خلقها وصمّمها جبّار السماوات والأرض، من أجل فهم هذه الحقائق العادية والبسيطة التي نعرفها؟! كلّا؛ فلم يكن هذا الخلق العظيم من أجل فهم هذه الأمور وحسب.
- لقد قلنا أن الحياة من جانب هي «سعي من أجل نيل الرغبات وإدارتها والقبول بالمحدوديّات»، ولكن إن نظرنا إلى الحياة من جانب آخر، يصبح مغزاها الرئيس هو «عمليّة للفهم» ولكن فهم ماذا؟ ومن أجل فهم أيّ حقائق خُلِقَ الإنسان؟ ولنرَ بعد ذلك أننا نفني حياتنا من أجل فهم ماذا؟ وسيسأل ملائكة الله كلّ إنسان: «ماذا فهمت طوال حياتك كلّها؟» وبالتأكيد يسعنا في حياتنا أن ندرك غير قليل من الحقائق التي قد لا يرقى الملائكة إلى مستوى فهمها.
الحياة تعني أن تَحدُثَ أحداثٌ ما ليفهم الإنسان شيئاً ما
- الحياة تعني أن تَحدُثَ أحداثٌ ما ليفهم الإنسان بعدَها شيئا ما. لقد شاهدنا في أيام الدفاع المقدّس كثيرا من الشباب الذين قد وصلوا إلى فهم عميق، حتى قال الإمام الراحل لبعض طلبة الحوزة: «لقد عبدتم الله خمسين عاما ـ فتقبّل الله أعمالكم ـ ولكن اقرأوا يوماً إحدى هذه الوصايا وتفكّروا فيها» [صحيفة الإمام (الفارسية)/ ج14/ص491] يعني انظروا إلى أين قد وصل هؤلاء حيث لم يبلغ مستواهم كثيرٌ من الكبار والوجهاء. لقد كان الإمام يومذاك يرى في وصايا الشهداء ما لم نكن نرى. وكذلك قال سماحة السيد القائد: «لهذا السبب كان يقول الإمام: «اقرأوا هذه الوصايا» فلأني كنت أقرأ هذه الوصايا وما زلت أقرأ ما يأتيني منها، أدركت السبب من كلام الإمام. وذلك لأنها قد تتضمّن بعض المعارف التي هي بمثابة عالَم كبير من العرفان الحقيقي والأصيل. يعني حتى العرفاء الذين يحظون بالعلوم الدينية والظاهرية وهم بذلك أرفع عروجا وأكثر تكاملا وأطهر بلا شكّ، خلافا للعارف السالك الذي لا معرفة له في العلوم الدينية، فكلّ ما يجدونه ويرونه بعد ما ناهزوا السبعين أو الثمانين وبعد مجاهدة لمدّة أربعين سنة أو خمسين، ترى هذا الشاب قد ناله كلّه ببركة تضحياته المخلصة في أشهر قصار. إنه لأمر عجيب! فانظروا كيف قد انساقت النعمة الإلهية بغزارة إلى هذه القلوب المخلصة» [في لقائه بقادة ومسئولي الحرس الثوري ـ 26/6/1376]
- أنا كنت قد تعرّفت على أحد الشهداء الكرام باسم «أبوالفضل ميرزائي» وشاهدت بعض حالاته. فإنه كان ينظر إلى الحياة من موقع الرفعة وكان من المعرفة وفهم الحقائق بمكان بحيث كان ينظر إلى العالم كلّه بازدراء. وكان حينما يتحدّث إليك، يحدّثك كأنّه شيخ تسعيني عارف وبكلّ تواضع طبعا. كأنه كان قد شاهد ما قرأناه في الكتب، وكان قد شاهد ما لم يكن في ميسوره أن يحدّثنا عنه.
- لو لم يكن الإمام الصادق (ع) قد اعتبر الثماني عشرة سنة كافية للكمال؛ «وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْکُمْ ما یَتَذَکَّرُ فِیهِ مَنْ تَذَکَّرَ فَقَالَ تَوْبِیخٌ لِابْنِ ثَمَانِیَ عَشْرَةَ سَنَةً» [من لا يحضره الفقيه/ج1/ص186] لما صدّقنا أن هؤلاء الشباب ـ بتعبير الإمام ـ قد طووا مسافة مئة عام في ليلة واحدة.