شرح خطبة المتقين (الجلسة الاولی)
هذا الذي بين يديك أيها القارئ العزيز هو سلسلة أبحاث سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ علي رضا بناهيان في شرح خطبة المتقين لأمير المؤمنين(ع) حيث ألقاها في مسجد جامعة طهران.
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا وحبيبنا أبي القاسم المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
- عبر النظرة العامّية إلى المفاهيم الأخلاقية، يعتقد كثير من الناس أنهم بغنى عن التعلّم، بيد أن ساحة الأخلاق تنطوي على دقائق كثيرة لا ينبغي إهمالها. لقد تمّ اختيار خطبة المتقين في نهج البلاغة نصّا لهذه الجلسة العلمية، ولابدّ لي في البداية أن أقصّ عليكم حكاية هذه الخطبة.
قصة هذه الخطبة
- كان «هَمّام» واحدا من الزهاد الثمانية الذين اشتهروا بالزهد في صدر الإسلام. كما كان أويس القرني أيضا أحد هؤلاء الزهاد والذي اشتهر صيته في عشقه للنبي الأعظم(ص). وبالإضافة إلى زهده كان همّام أحد أصحاب أمير المؤمنين(ع)، ونادرا ما يُذكر أحد أصحاب أمير المؤمنين(ع) ولا نجد فيه فضائل تميّزه عن غيره.
· في إحدى الجلسات التي اجتمع فيها همّام ونفر آخرون بأمير المؤمنين(ع)، قام همام إلى أمير المؤمنين(ع) وقال له: «صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِم»؛ يعني ارسمهم لي بدرجة من الوضوح والنصاعة حتى أستطيع أن أجسمهم وأصورهم في ذهني كأني أنظر إليهم. علما بأن رجلا مثل همّام لم يكن بعيدا عن التقوى والتمقين. إنه كان من الأتقياء وفي قمّة درجات الزهد الذي يمثّل أحد أهمّ عناصر التقوى. ولكن مع كل هذا أبدى هذا السؤال. إنه لم يطلب استماع وصف المتقين حتى يصبح متقيا، بل أراد بهذا الوصف أن ينظر إليهم. ولكن ما هي الثمرة الحاصلة من هذه المشاهدة؟ هذا ما لابدّ أن نقف عنده. الميزة الثانية الكامنة في سؤال همام، هو أنه لم يسأل وصايا في التقوى، بل أراد وصف المتقين. وهناك بون شاسع بين هذين.
· على أي حال سأل أمير المؤمنين(ع) أن يصف له المتقين كأنه ينظر إليهم بما يحظونه من روحانية ومعنوية، ولكن تثاقل أمير المؤمنين(ع) عن جوابه وقال له: « يَا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَ أَحْسِنْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون». ولكن لم يقنع همّام بهذا الجواب وأصرّ وألحّ على أن يتفضل عليه بما سأله وطالبه، حتى أنه أقسم عليه وقال: « أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَكْرَمَكَ وَ خَصَّكَ وَ حَبَاكَ وَ فَضَّلَكَ بِمَا آتَاكَ لَمَّا وَصَفْتَهُمْ لِي».
· بعذ هذا الإصرار الشديد بدأ أمير المؤمنين(ع) خطبته بمقدمة لا علاقة لها بوصف المتقين. بدأ بخلق الخلق، وتطرق إلى العاصين والمطيعين. تحدث عن أهمّ نتائج الصالحات والسيئات، وذكر أمهات المعارف من نقطة الصفر إلى أن انتهى بشرح فضائل المتقين. فقال: «فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِل...» وانطلق من هذه العبارة إلى ذكر 114 فضيلة من فضائل المتقين.
· وحري بالذكر هنا أن كلام أمير المؤمنين(ع) لم ينته، إذ أثناء حديث الأمير اعترت همّام حالة لا أعرف حقيقتها. إنه صعق صعقة كانت فيها نفسه. ولا يخفى أنه لم يكن همّام المستمع الوحيد لهذه الكلمات الرائعة بل كان معه آخرون، ولكن لم تؤثّر هذه الخطبة بهم هذا التأثير. ولهذا قال أمير المؤمنين(ع): «هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا».
· فقال رجل: « فَمَا بَالُكَ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِين»؛ يعني إن كان في هذا الكلام مثل هذا الأثر، فلماذا لم يؤثر عليك كما أثر على همّام؟! فقال أمير المؤمنين(ع): لكلّ أجل معلوم لا يسبقه ولا يتأخر عنه، ولكنه كان قد أشار في أوائل خطبته إلى أن المتقين على استعداد من الموت والطيران إلى السماء في كل آن، ولكن الله قد حبسهم في هذه الدنيا بالأجل الذي قدره لهم. إن الله قد قضى لهمّام أجله في تلك الساعة، ولكن جعل من فضائل همّام واستماع حديث أمير المؤمنين(ع) سببا في رحيله.
خصائص هذه الخطبة
1ـ وضوح مناخها
· تنطوي هذه الخطبة على بعض الخصائص النادرة التي قلّ ما نجدها في خطبة أخرى من نهج البلاغة أو في سائر الروايات الأخلاقية. الخصيصة الأولى في هذه الخطبة هو الهدف والغاية من إلقائها، حيث قد بلغتنا قصتها وعرفنا السبب من إلقائها. بيد أن كثيرا من الروايات الأخرى قد وصلت إلينا بدون إشارة إلى مقام صدورها والقرائن المحيطة بها، فنقرأها ونستفيد منها دون علم بأسبابها ودوافعها. وهذا ما قد يسبب سوء فهم الروايات. إن فهم أحاديث أهل البيت أو فهم كلام العلماء العظام وحتى فهم آيات القرآن بشكل صحيح، بحاجة إلى الإحاطة بمناخها وقرائنها وهذا هو الذي يعبّر عنه في خصوص آيات القرآن بشأن النزول. بينما قصة هذه الخطبة قصة واضحة وصريحة وراقية جدا، فقد بلغنا مقام صدورها ودوافع إلقائها والأحداث التي أحاطت بها وهذا ما يمكّننا من استلهام دروس وحقائق كثيرة من هذه الخطبة.
· الخصيصة الأخرى في هذه الخطبة هو أن المخاطب ومستوى الكلام معلومان أيضا. فتارة ينقل عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: «اتَّقِ اللَّهَ بَعْضَ التُّقَى وَ إِنْ قَلَ وَ اجْعَلْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ سِتْراً وَ إِنْ رَقّ».[1] فلابدّ أن نعرف من يخاطب في هذه الوصيّة. إن كلام الأمير(ع) يختلف باختلاف مستوى مخاطبيه، فتارة كان يخاطب أهل الكوفة، وتارة كان يخاطب ولده. أما هنا فالمخاطب معلوم، وهذا ما يعيننا كثيرا على فهم مغزى الكلام. إن مستوى المخاطب عال جدا، وبطبيعة الحال لابدّ أن نفترض مستوى الكلام عاليا أيضا، وعليه فلا مجال لأحد أن يستغني عن معارف هذه الخطبة.
2ـ شموليتها
· الخصيصة الأخرى في هذه الخطبة هي شموليتها. فقلّ ما نستطيع أن نعثر على كلام يحظى بشمولية هذه الخطبة، بحيث يتطرق إلى العلاقات الاجتماعية ويخوض في علاقة الإنسان مع ربّه، بلا أن يغفل عن علاقة الإنسان مع نفسه، ويتناول العبادات الفردية والمعاملات الاجتماعية ومختلف المواضيع الروحية والنفسانية والصفات التي لا ينفك عنها الناس في كل شؤون حياتهم. إن شمولية هذه الخطبة لأمر عجيب.
· ولا يفوتنا هنا أن نعبّر عن أسفنا الشديد من موت همّام المفاجئ الذي حرمنا من باقي معارف هذه الخطبة، فيا ليت عليّاً كان قد واصل كلامه لنرى إلى ماذا ينتهي حديثه وما هي المعارف الرائعة التي تشرق عن فمه وشفتيه، فما من كلمة نطق بها أمير المؤمنين(ع) قد أخذت مأخذا من قلوبنا وأنارت دربنا وأتحفتنا بفوائد جمّة.
3ـ أثرها
· ومن الخصائص العالية جدا في هذه الخطبة، هو ما ذكرناه في قصتها. وهي أثرها العظيم والمشهود على المستمع. لقد تحدث أهل البيت(عليهم السلام) كثيرا ولكن لم يأتنا خبر أثر حديثهم على المستمع، بيد أن أثر هذه الخطبة قد ظهر على المستمع فورا، كما أن أمير المؤمنين(ع) نفسه قد أشار إلى نوعية أثر كلامه. هذه بعض خصائص هذه الخطبة التي قلّ ما نجدها في غيرها من الخطب والروايات.
· بالإضافة إلى هذه الخصائص التي تمتاز بها هذه الخطبة عن غيرها، هناك خصائص أخرى في هذه الخطبة تشترك بها كثير من الخطب والكتب و الروايات الأخرى. وحري بنا أن نقف عند هذه الفئة من الخصائص أيضا قبل الدخول في شرح الخطبة.
4ـ صبغتها العرفانية
· إحدى هذه الخصائص هي صبغتها العرفانية. فقد نسجت هذه الخطبة من الكلمات والأبحاث الأخلاقية وبصبغة عرفانية. وهناك بون شاسع بين الأبحاث الأخلاقية ذات الصبغة العرفانية وبين التي تفتقد هذه الصبغة. فتارة توصي أحدا وتقول له: إن شئت أن تحفظ عزتك بين الناس، لا تمدّن يدك إلى أحد أبدا. إنها وصية أخلاقية بلا صبغة عرفانية. وتارة تطرح بحثا عقديا كما لو تحدثت عن عدل الله وتقول: ليس الله بظلام للعبيد وغاية الأمر هو أن تقتضي حكمته أن يفعل أمرا ما. لا سبيل للظلم إلى الله، إذ إن الظلم ضرب من النقص وسبحان الله عن أي نقص... هذا بحث عقدي، وهو دفاع عن عدل الله، ولكنك تارة تتحدث عن الله والمسائل الأخلاقية بصبغة عرفانية.
· ومن نماذج الصبغة العرفانية في الأبحاث الأخلاقية هو أن يقول أحد: من القبيح جدا أن نمدّ أيدينا إلى أحد سوى الله غافلين عن كونه ربنا وصاحبنا ومالك رزقنا. وأساسا إن مدّ اليد إلى الغير بمرآى رب الأرباب ورب العالمين هي غاية الخزي والعار الذي يمكن أن يحيط بالإنسان. إن هذا الكلام هو نفس الوصية الأخلاقية الأولى التي مرّ ذكرها، ولكن قد صحبته صبغة عرفانية.
· وكذلك الأمر في هذه الخطبة فقد نسجت عباراتها بصبغة عرفانية، وهذه من الخصائص الممتازة التي لا تخفى عليكم مواطن فائدتها، ولا سيما في هذا العصر الذي بات ينزع الإنسان فيه إلى الأبحاث المعنوية والعرفانية. فمن شأن هذه الخطبة أن تحلّ عقدا كثيرة في مثل هذه الأجواء.
5ـ عدم تقيدها بنطاق محدود
· ومن خصائصها الأخرى هي أنها غير محدودة في نطاق زمني أو مكانيّ خاص. فهي لم تختص بهمّام ولا تختصّ بزمانه ولا بفئة معينة من المؤمنين. إنها تجري في كل زمان ومكان. طبعا نوعية معارفنا الدينية هي أنها غير محدودة بموقع خاص، ولكن يبدو أن هذه الخطبة تفوق كثيرا من النصوص والمعارف من هذا الجانب. فكن من شئت واصب إلى ما شئت واختر ما شئت من عمل ومهنة، فإنك لست بغنى عن الكمال في الإنسانية، ولست بغنى عن التقوى في حياتك، فلابد أن يصوّر لك الإنسان المتقي وهذا ما ينفع كلّ من يجرّب العيش والحياة.
6ـ لحنها وموسيقيتها
· من الخصائص الأخرى في هذه الخطبة هي أنها بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من حكم رائعة، ذات لحن وموسيقية جميلة أيضا. فإن أمير المؤمنين(ع) قد نظم هذه الخطبة ونسج عباراتها بلحن ووزن جميل، ولم يطرح بعض المفاهيم وحسب. فإن ألفتموها وأنستم بها سوف تجدون حلاوة لحنها وجمال موسيقيتها ونظم نسقها الرائع.
· من هذا المنطلق بودّي أن أقدم وصية لكم وهي أن احفظوا هذه الخطبة واقرأوها باللحن والطور الذي تفتضيه روحكم. وسوف تشعرون بمدى حاجة روحكم إلى أمثال هذه الموسيقى العذبة وسوف ترون كم تنتعش نفسكم بهذه الأغنية الطويلة، وسوف تسقط من أعينكم باقي الأغاني والأشعار الطفولية وتفقد رونقها وموقعها في نفوسكم وقلوبكم بعد ما احتلتها هذه الخطبة واستأنستم بها بدلا عن باقي الألحان والأطوار.
7ـ كونها وصفا لا توصية
· وإلى جانب هذه الخصائص، تتصف هذه الخطبة بكونها وصفا لا وصية. إن الوصية لا تنفع من لم يستعدّ لاستماعها وقبولها. إنها بحاجة إلى ظروف أصعب. طبعا وبالتأكيد إنها مفيدة وضرورية جدا، ولكن قلّ ما تتوفر مع شرائطها وأسبابها. ولكنّ الكلام بصيغة الوصف لا يحتاج إلى شروط معقدة وبالإضافة إلى ذلك إنه أسهل نفوذا وأعمق تأثيرا في القلب ولا ينجلي أثره سريعا. وإن هذه الخطبة لخطبة وصفية في فضائل المتقين فتصف المتقين ولا توصي بالتقوى. ولهذا فلا يملّ الإنسان منها أبدا.
نصيحتان أقدمها لكم
· النصيحة الأولى هي التي قدمتها حين البحث وهي أن احفظوا هذه الخطبة. أما النصيحة الثانية هي أن فرّقوا بين فهم هذه الخطبة وبين التأثّر بها. فحاولوا أن تفهموها وتدركوها عبر هذه الأبحاث، ولكن إلى جانب هذه الأبحاث أعدّوا برنامجا للتأثّر بها والانتفاع من منهلها. فاخلوا بهذه الخطبة ساعة، واسمحوا لأمطار فضائل كلام أمير المؤمنين(ع) أن تمطر على قلوبكم وتذهب بكم إلى ما تشاء من الحسن والفضل والكمال.
· لابدّ من قراءة خطبة المتقين في جلسة واحدة، إذ ليس في تقطيعها وتقسيطها تلك الفائدة الرئيسة المترتبة على قراءة الخطبة كاملة. اخلوا إليها وأنسوا بها ساعة واسمحوا لها أن تترك أثرها العميق في نفوسكم. هذه في الواقع هي وصفة استعمال هذا الدواء. فلا يكفي فهم هذه الخطبة بل لابدّ من تذوّقها، بعد إدراك معانيها. فأرجوا أن تكون هذه الأبحاث مقدمة لهذا الأمر إن شاء الله.
منهجنا في شرح الخطبة
1ـ تجنب الشرح التبليغي الخطابي
· نسعى في هذه الأبحاث أن نأخذ منحى الشرح والتبيين لا التبليغ. فلا نريد أن نرتقي منبرا أو نلقي محاضرة، كما لسنا بصدد استخدام أساليب الجذب حين طرح الأبحاث. نحن نسعى أن نواجه عبارات هذه الخطبة بكل موضوعية، فنتناول النقاط والمضامين الكامنة بين أحشاء عبارات الخطبة.
2ـ تجنب الشرح الاستطرادي
· النقطة الثانية هي أننا نحاول أن نبتعد عن منهج الشرح الاستطرادي. فقد شرح بعض الشارحين هذه الخطبة بهذا الأسلوب. فلما قال أمير المؤمنين(ع): «منطقهم الصواب»، استعرض جميع إيجابيات وسلبيات اللسان فابتعد تماما عن سياق الخطبة وروحها. طبعا إن هذا الأسلوب لا يخلو من النفع والفائدة، ولكنه ليس شرح خطبة المتقين، بل هو طرح مجموعة كبيرة من المفاهيم الأخلاقية بحِجّة خطبة المتقين. منهجنا هو الاختصار على ما يمتّ بهدف الخطبة بصلة، وعليه فسوف نجتاز كثيرا من العبارات بشرح مختصر بلا أن نشير إلى بعض المفاهيم المشهورة.
3ـ الالتفات إلى تركيب العبارات مع بعض
· النقطة الأخرى التي لابدّ أن نهتمّ بها في مقام شرح الخطبة هي أنه يقتضي المقام نوعين من التأمل والإمعان، تأمل في تجزئة الكلام، وتأمل في التركيب. نحن سوف نقف عند مفردات الخطبة بشكل موجز، ولكن الأمر الذي بودّي أن لا نغفل عنه هو التأمل في تركيب هذه الفضائل مع بعض. فلابدّ أن نرى كيف نظم الإمام هذه المنظومة لفضائل المتقين، فبأي فضيلة بدأها وبأيهم ختمها ومتى جعل كل واحدة منها. وكذلك لوقوف الإمام وابتدائه أثناء إلقاء الخطبة شرح وكلام لابدّ من الوقوف عنده ولعلنا نتطرق إلى بعض زواياه، إذ قد خفيت معان كثيرة في هذه الرؤية إلى خطبة المتقين.
4ـ التطرق إلى طرق الوصول إلى كلّ من الفضائل
· النقطة الأخرى التي نسعى للتطرق إليها باختصار، هو طريق الحصول على كل فضيلة يشير إليها أمير المؤمنين(ع)، كما سوف لا نترك منهج الإيجاز في ذكر الطرق أيضا. وبهذا المنهج سوف يتجهّز القارئ الكريم بأمهات الطرق والأصول الرئيسة التي يحتاجها الإنسان في تكامله المعنوي.
5ـ نظرة إلى الرذائل الأخلاقية
· وهناك أمر لم يقم به الإمام أمير المؤمنين(ع) في خطبته، ولكن لا مناص لنا من إهماله، وهو نظرة خفيفة إلى الرذائل الأخلاقية المضادّة لما طرحه الإمام من فضائل. لقد أشار أمير المؤمنين(ع) إلى الفضائل، ولكن في سبيل بيان هذه الفضائل وفهمها لابدّ لنا من الإشارة إلى الرذائل كي نزداد كرها لها ونفرّ منها إلى الفضائل.
السؤال والسائل
· بقدر ما يكون السؤال جيدا، قد يكون سيئا. وبقدر كون السؤال الجيد علامة الشوق، إنه علامة النفرة. إن السؤال بقدر ما يدفع الإنسان إلى الأمام، يرجعه إلى الوراء. وبقدر ما ينتج السؤال علما، ينتج جهلا.
· ولعلّ من هذا المنطلق قال رسول الله(ص): «حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْم».[2] ليس السؤال بجيد في كل مقام. ولكن السؤال الجيد أفضل من السكوت بكثير. السؤال الجيد عينٌ تفور منها المعارف. وحري بالذكر هنا أن السؤال الجيد يلقي الحكمة في قلب من خوطب بالسؤال فضلا عن السائل.
قيموا أسئلتكم
· ينبغي لنا أن نطرح أسئلتنا على إنسان واع فاهم ليقوم بنقدها وتقييمها. فلنعرض عليه أسئلتنا ونقول له: لدينا أمثال هذه الأسئلة، فكم هي علامة لنقصاننا؟ وكم هي علامة لكمالنا؟ وكم هي تدل على اعتدالنا الفكري والروحي؟ وهكذا...
· إن السؤال باب واسع وفيه كلام كثير. إن سؤال همّام قد فتح علينا هذه الآفاق المباركة. إنه كلام أمير المؤمنين(ع)، ولكن كل من وقف عند هذه الخطبة وانتفع ببركاتها وعلومها وآثارها فقد أشرك همّام في ثوابه، إذ هو الذي سأل أمير المؤمنين(ع) هذا السؤال الخالد. نحن لم نسمع باسم همّام ضمن باقي أصحاب أمير المؤمنين(ع) في مواطن أخرى ولكن هذا السؤال العظيم قد خلّده في صفحات التأريخ.
يحكي السؤال عن ضمير السائل
· تنطلق بعض الأسئلة من مصدر روحي، بينما تنطلق بعضها الأخرى من منشأ فكري. فما هي الأسئلة الناشئة من مصدر روحي؟ وأنا أعتقد أن الله يقيّمنا وينعم علينا على أساس ما يختلج في نفوسنا من أسئلة ومطالبات. فهناك بون شاسع بين من يسأل الله أن يرزقه بيتا مَهْما كانت مواصفاته، وبين من يسأله بيتا جيّدا. ففي بعض الأحيان طلب القليل لا يحكي عن قناعتنا بل يحكي عن دناءتنا. فقد يدل على عدم الإيمان بسخاء الله، فنخفف عليه السؤال كي يعطينا المراد.
· وكذا الحال في الأسئلة العلمية، فإنها تحكي عن ضميرنا. فما هي أسئلتنا وأي مجهول يؤلمنا. فمن جملة ما كان يريد أمير المؤمنين(ع) معرفته، هو أنه هل قد رضي الله عنه أم لا؟ أو لماذا خلقه الله، هل خلقه للجنة أم خلقه للنار؟ أطيلوا الوقوف عند السؤال وأسأل الله أن يفتح عليكم أبواب السؤال التي هي بمثابة عيون الحكمة في القلوب.
· وقد قال شراح نهج البلاغة: أحد أسباب تثاقل أمير المؤمنين(ع) عن جواب همام هو أن يبلغ الذّروة في عطشه. فقد أجابه أمير المؤمنين(ع) بجواب مختصر ليذهب عنه، ولكنه بقي ملحّا ونال بإلحاحه كل شيء.
· أسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح علينا أبواب السؤال التي هي أبواب رحمته، وأن يثير في قلوبنا تلك الأسئلة المؤدية إلى أحسن الأجوبة في العالم وأهنئها لقلوبنا الضمآنة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.