الطريق الوحيد للحصول على الحياة الأفضل ـ 5
تعریف الحياة في سبعة مراحل
بعد ما ألقى سماحة الشيخ بناهيان سلسلة محاضراته في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» ونالت إعجابا من قبل الشباب، بدأ بطرح موضوع «الطريق الوحيد للحصول على الحياة الأفضل» ليجيب عن سؤال «كيف نحظى بحياة أفضل؟» فإليك أيها القارئ الكريم نصّ أهم المقاطع من محاضرته في الجلسة الخامسة:
تعریف الحیاة في سبعة مراحل/ المرحلة 1. الحياة تعني «الحركة صوب الرغبات»
- ننطلق في تعريف الحياة من رؤية عقلانية لتحظى باتفاق جميع الناس عليها. لأننا إن أردنا أن نعرّف الحياة على أساس الأبحاث والمعارف الدينيّة فلا يروق كثيرا من الناس. فلو قلا مثلاً: إن الحياة هي بيئة لتنفيذ الأحكام الإلهيّة، نقيم فيها الصلاة ونؤتي فيها الخمس والزكاة... فعندئذ يقول الكثير: «إنكم وبهذا التعريف بصدد فرض دينكم علينا». لذلك ننطلق في تعريف الحياة من رؤية متوسطة ومنطقيّة لكي يقتنع بها أكثر المنصفين وفقا لعقلهم ومنطقهم.
- فعلى أساس هذه الرؤية نقدّم تعريفنا عن الحياة خلال سبع مراحل. فنقول في المرحلة الأولى من تعريفنا عن الحياة: «الحیاة هي حركة صوب الرغبات». وكما تشهدون لم نستخدم في هذا التعريف شيئا من عناصر العلم والمعرفة، إذ لابدّ لنا في حركتنا صوب الرغبات من استخدام المعرفة.
تنطوي الحياة على عنصرين رئيسين: الحركة والرغبات/ إن ما يحرّكنا ويدفعنا هو الرغبات
- تنطوي الحياة على عنصرين رئيسين، أحدهما «الحركة» والآخر «الرغبات». لأنّ من لا حركة له، فهو في الواقع ميّت لا حياة له. ثمّ عندما يأتي ذكر الحركة، ينقدح هذا السؤال مباشرة وهو «حركة إلى ماذا؟» فما هو الهدف الذي تستهدفه كلّ حركات الناس جميعا من الإنسان الطالب الكمال إلى السطحي أو المجرم وغيرهم؟ إن «الميول» أو «رغبات الإنسان» هي ذاك الهدف الذي يتحرك إليه الإنسان أيّاً ما كان. ومحرّكنا بالطبع هو ميولنا ورغباتنا ونزعاتنا.
- إن للميول دوراً رئيساً في حياة الإنسان، فإنّه يتحرّك إلى ميوله ورغباته. إنه يَحيى من أجلها ويتخيلها في أوهامه ويجنّد لها أفكارَه. كما وإن رأيتم إنسانا مفكّرا باحثا عاقلا، فهو أيضا يتحرّك صوب رغباته، إلا أنّ رغبته هي «كشف الحقيقة» أو «البحث العلمي». فهو لم يُستثنَ عن تعريفنا هذا.
- لا يَسَعُ أحداً أن يقول: «أنا لا أسعى وراء أميالي، بل أطلب ما هو أسمى منها!» فنقول له: «طيّب، فإنّ رغباتك أسمى من الرغبات السطحيّة. إذن فلك ميلٌ إلى هذه الأمور الأسمى وأنت راغب فيها، ولولا ذلك لما سعيت لها سعيا.»
المرحلة 2. الحياة هي «السعي» لنيل «الرغبات»/ ليست الحياة بحركة بسيطة، بل هي حركة مصحوبة بالجُهد والسعي
- كان تعريفنا عن الحياة في المرحلة السابقة هو أن: «الحياة حركة للوصول إلى الرغبات»، ولكنّها ليست بحركة بسيطة، وإنّما هي حركة مصحوبة بالجُهد والسعي. فعلى سبيل المثال إن طلبنا ماءً، فليس الأمر ببالغ الهون والبساطة بحيث يكون الماء في متناولنا ونحصل عليه بأدنى حركة! بل لابدّ من حفر الآبار أو تجميعه من الأنهار ثم تصفيته ثم مدّ شبكة أنابيب الماء في البيوت. ولذلك استبدلنا بكلمة «الحركة» كلمةَ «السعي» في تعريفنا عن الحياة.
- عادةً ما لا تخلو حركتنا صوبَ الرغبات من صعوبات ومتاعب، فلابدّ أن نسميّ هذه الحركةَ سعياً وجُهدا. إذن فاسمحوا أن نكمّل تعريفنا عن الحياة بما يلي: الحياة هي حركة وسعي لنيل الرغبات. كما يسعنا حذفُ «الحركة» والاكتفاء بكلمة «السعي» فقط. فيُصبح تعريفنا في المرحلة الثانية هكذا: الحياة تعني السعي لنيل الرغبات.
- لقد تحدّث الإمام الصادق(ع) في حديثه مع مفضّل بالتفصيل عن سبب تصميم الحياة بهذا النحو بحيث لابدّ للإنسان فيها من السعي والتعب، وأنّ احتياجات الإنسان لم تُهيَّأ كاملةً بلا حاجة إلى عمله وكدّه، ولولا ذلك لسئم الإنسان وملّ الحياة. «اعْتَبِرْ يَا مُفَضَّلُ بِأَشْيَاءَ خُلِقَتْ لِمَآرِبِ الْإِنْسَانِ وَ مَا فِيهَا مِنَ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ خُلِقَ لَهُ الْحَبُّ لِطَعَامِهِ وَ كُلِّفَ طَحْنَهُ وَ عَجْنَهُ وَ خَبْزَهُ وَ خُلِقَ لَهُ الْوَبَرُ لِكِسْوَتِهِ فَكُلِّفَ نَدْفَهُ وَ غَزْلَهُ وَ نَسْجَهُ وَ خُلِقَ لَهُ الشَّجَرُ فَكُلِّفَ غَرْسَهَا وَ سَقْيَهَا وَ الْقِيَامَ عَلَيْهَا وَ خُلِقَتْ لَهُ الْعَقَاقِيرُ لِأَدْوِيَتِهِ فَكُلِّفَ لَقْطَهَا وَ خَلْطَهَا وَ صُنْعَهَا وَ كَذَلِكَ تَجِدُ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ فَانْظُرْ كَيْفَ كُفِيَ الْخِلْقَةَ الَّتِي لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِيهَا حِيلَةٌ وَ تُرِكَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَوْضِعُ عَمَلٍ وَ حَرَكَةٍ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّلَاحِ لِأَنَّهُ لَوْ كُفِيَ هَذَا كُلَّهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَشْيَاءِ مَوْضِعُ شُغُلٍ وَ عَمَلٍ لَمَا حَمَلَتْهُ الْأَرْضُ أَشَراً وَ بَطَراً وَ لَبَلَغَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَتَعَاطَى أُمُوراً فِيهَا تَلَفُ نَفْسِهِ وَ لَوْ كُفِيَ النَّاسُ كُلَّمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لَمَا تَهَنَّئُوا بِالعَيْشِ وَ لَا وَجَدُوا لَهُ لَذَّةً أَ لَا تَرَى لَوْ أَنَّ امْرَءاً نَزَلَ بِقَوْمٍ فَأَقَامَ حِيناً بَلَغَ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَطْعَمٍ وَ مَشْرَبٍ وَ خِدْمَةٍ لَتَبَرَّمَ بِالْفَرَاغِ وَ نَازَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى التَّشَاغُلِ بِشَيْءٍ فَكَيْفَ لَوْ كَانَ طُولُ عُمُرِهِ مَكْفِيّاً لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ فَكَانَ مِنْ صَوَابِ التَّدْبِيرِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي خُلِقَتْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ جُعِلَ لَهُ فِيهَا مَوْضِعُ شُغُلٍ لِكَيْلَا تُبْرِمَهُ الْبِطَالَةُ وَ لِتَكُفَّهُ عَنْ تَعَاطِي مَا لَا يَنَالُهُ وَ لَا خَيْرَ فِيهِ إِنْ نَالَه.» [توحيد المفضل/ 86]
أولئك الذين يدعون عبر دعاياتهم إلى «حیاة دون كدّ»، فهم يكذبون على الناس/ إن جذور الفساد عدم توعية الأطفال على حقيقة الحياة، لا القنوات الفضائيّة
- إذن فأحد أجزاء تعريف الحياة، هو السعي والكدّ لنيل الرغبات. ولذلك فأولئك الذين يدعون الناس عبر دعاياتهم إلى «حیاة بلا كدّ» ويصوّرون لهم حياةً كهذه، فهم في الواقع يكذبون على الناس. وإذا أردتَ أن تربّي ولدك وفقا لمقتضيات الحياة، فلابدّ لك أن توطّنه على الجُهد وتقول له: «أيّا ما أردته في هذه الدنيا فلابدّ لك أن تسعى له سعيا». ولا أدري كم يُنجَز هذا المهمّ في مدارس التربية والتعليم. فهذا ما يجب إنجازه من السنة السابعة من عمر الطفل، وإن لم نفعل فهنا تكمن جذور الفساد، لا القنوات الفضائية التي سرعان ما يمكن التقاطها وبسهولة عبر الهواتف الجوّالة.
- تكمن جذور الفساد في كوننا لا نعرّف الطفل على حقيقة الحياة. فإن لم يتعرّف الطفل على حقيقة الحياة، فلا جدوى بعد من عملنا نحن المبلّغين إن أردنا أن نعلّمه العبوديّة. وكيف نريد أن نعلّمه العبوديّة وقد أفسدنا رؤيته عن الحياة؟!
لا تتحدّثوا عن عبادة اللّه إلى من لم يعِ حقيقة الحياة/ إنّ تعليمَ العبودية من دون تعليم الحياة لا يخلو من خطورة
- لا يمكن اكتساب العبوديّة إلا بعد اكتساب تعريف صحيح عن الحياة. فلا تحاولوا أبدا أن تتحدّثوا عن عبادة اللّه إلى من لم يعِ حقيقة الحياة. ولا تُتعبوا أنفسكم إذ لا فائدة من ورائه ولا أظنّكم تَزيدونه بحديثكم هذا إلا نفورا!
- إنه لَعملٌ خَطِر جدّا وهو أن نعلّم العبوديّة من دون تعليم الحياة. إذ تبدو العبادةُ حينئذ «ثِقلا إضافيّا» على عاتق الإنسان ويكون لها مردود سلبيّ في نفسه. ليس من الضرورة أن نمارس نشاطات دينية كثيرة في المدارس، ولا أن نملأ المدارس بدروس العقائد الدينية، كما لا داعي إلى أن نكثر في المدارس من تعليم القرآن والروايات والأخلاق الإسلامية، ولكننا إذا ربّينا الطالب إنسانا طبيعيّا متعادلا، سيتجه هو بنفسه إلى ربّه وإمامه.
المرحلة 3. الحياة تعني السعي و «صراع» لنيل الرغبات
- إذا أردنا أن نتقدّم خطوة في تكميل تعريفنا عن الحياة فلابدّ أن نقول: لا تصل هذه الحركة في سبيل نيل الرغبات إلى غايتها عبر السعي فحسب. إذ تارةً ما تتحرّك ساعيا صوب رغباتك، إلا أنّك تواجه في دربك موانع وأعداءً أشدّاء، فما عليك حينئذ؟ عليك أن تصارع بالطبع. فإنّ الحياة لصراع في كثير من الأحيان. فاسمحوا أن نكمّل تعريفنا في المرحلة التالية فنقول: «إن الحياة حركة وسعي وصراعٌ لنيل الرغبات».
- وأظن أن هذا التعريف يقتنع به كلّ إنسان منصف أيّاً كانت ثقافته. إذ كلّ امرء قد عاش في طيّات حياته صراعات ومواجهات وشعر بالموانع بكلّ وجوده. طبعا تارة قد يكون هذا الصراع ظالما وغشيما، وأخرى يكون مظلوما عاقلا كيّسا وعادلا. ولكن كلاهما سواء في كونهما صراعاً.
- إن طبيعة حياتنا تفرض علينا في سبيل نيل الرغبات، الحركة المصحوبة بالسعي والصراع. فلیت الناس یوطّنون أطفالهم على هذه المعارف في السنين السبع الثانية وفي المرحلة الابتدائية على هذه الحقيقة ويقولون لهم: «لیست الحياة بدار راحة ودعة»! إن الحياة لجهاد تُهزَم فيها تارةً وتنتصر أخرى.
المرحلة 4. الحياة تعني السعي والصراع لنيل «الرغبات المختارة والأسمى»/ إن نقطة بدء الإنسان في حركته صوب الكمال هو معرفته بضرورة الانتقاء بين خضمّ الرغبات
- لا شك في أن الحياة سعي وصراع في سبيل نيل الرغبا. ولكن الإنسان ينتقي رغباته الأفضل والأسمى من بين رغباته. إذ أنّ رغباتنا متنوعة ومتعدّدة وقد تتعارض بعضها مع بعض. فعلى سبيل المثال إن جيئ بنا عدّة ألوان من الطعام وكنا نحبّها جميعا، فلابدّ لنا عندئذ من اختيار بعضها دون بعض، إذ ليس في ميسورنا الإتيان على كلها جميعا. فإنها لرغائب متزاحمة في ما بينها. وقد تتعارض بعض رغباتنا مع بعض. فعلى سبيل المثال نودّ أن تخلو بطننا للعبادة وفي الوقت ذاته، نودّ أن نملأَها خشية الجوع. فإنها رغبات متعارضة. ولا يزال الإنسان يواجه هذا الموقف من تزاحم الرغبات وتعارضها في حياته.
- ليست الحياة مجرّد سعي وصراع لنيل الرغبات وحسب، بل لابدّ لنا من تقييد «الرغبات» بـ «الرغبات المختارة» أو «الرغبات الأسمى». إذن فالحياة تعني السعي والصراع لنيل الرغبات المختارة والأسمى. طبعا كلّ امرء يحدّد الأسمى من رغباته بحَسَبه. وسواء في هذه المرحلة أأصاب المرء في تشخيص الأسمى من رغباته أم لم يُصِب، فلسنا بصدد الخوض في هذا البحث الآن.
- تبدأ حركة كمال الإنسان من معرفته بأمر «الانتخاب» ووقوفه على اضطراره إلى ذلك، وحين لم يجد بدّا من أن يغضّ الطرف عن بعض رغباته لصالح بعض رغباته الأخرى. لذلك يجب أن نقف وقفة الإجلال والتقدير لأولئك الذين يوطّنون أطفالنا على تقبّل هذه الحقيقة من كونك «مضطرّا إلى اختيار بعض رغباتك دون جميعها وسوف تقوم بذلك لا محالة». لا يسع الإنسان إلا أن يختار جزءاً من رغباته، وهذا ما سيتحقق في حياته بلا مناص. فلابد أن نعيَ هذه الحقيقة جيّدا ونوطّن أنفسنا على مواجهتها. ليس بإمكان أحد أن يقول: «أنا أسعى لكل ما أهواه وأنال رغباتي جميعا!» كلا! إذ ليس لك إلا أن تختار شيئا من رغباتك وهذه النقطة هي منطلق الكثير من الحقائق.
المرحلة 5. الحياة تعني «إدارة الرغبات» والسعي والصراع لنيل الرغبات الأسمى/ بإمكاننا أن نغيّر رغباتنا مضافا إلى اختيار بعضها
- من أراد أن يقف على حقيقة الحياة فلابدّ أن يعي أنه يتحرّك ويسعى ويصارع من أجل رغباته المختارة والأسمى. وذلك يعني أن الإنسان لا يسعى وراء كل رغبة وليس ذلك في ميسوره أساسا، وإنما يختار من بينها بعضا. ولكن ليس شأننا هو أن نختار هذه الرغبات وحسب، بل هناك أمر آخر يقع في حياتنا جدير به أن نأخذه بعين الاعتبار في تعريفنا عن الحياة، وهو أننا نستطيع أن نغيّر رغباتنا. فقد يعزّ على بعضنا أن نُحرَم من رغبةٍ ما، ولكن في ميسورنا أن نغيّر هذه الرغبة ونحذفَها من قائمة رغباتنا. يعني أننا قادرون على تغيير رغباتنا.
- تصبّ بعض نشاطاتنا في الحياة في إدارة رغباتنا، يعني تغييرها، أو تقليلها وزيادتها أو تضعيفها وتعزيزها. كما أن جزءاً من بصمات التأثير التي يتركها الناس في حياتنا هو ما يقومون به من تغيير رغباتنا. إذن فلنمسك نحن بزمام إدارة رغباتنا. فإن اقتنعنا بذلك نستطع أن نكمّل تعريفنا عن الحياة فنقول: «الحياة تعني إدارة الرغبات والسعي والصراغ لنيل الرغبات الأسمى»
لابدّ للإنسان وفي سبيل تحسين حياته من تغيير بعض رغباته
- لا يخفى أننا نتحدث عن حياة الإنسان، وإلا فحياة الحيوانات عصيّة على التغيير، فلا يُحدث الحيوانات أيّ تغيير في رغباتهم وإنما يواصلون حركتهم حتى آخر المطاف بنفس الرغبات التي انطلقوا بها منذ البداية. أمّا الإنسان فيختلف تماما. فأيّ امرءٍ عاش حياةً حقيقيّة؟! هو ذاك الذي أحدث تغييرا في رغباته.
- سل نفسك: ماذا غيّرت من رغباتك حتى الآن؟ وماذا غيّرت من صفاتك الوراثيّة أو الأسريّة؟ فلابدّ لنا أن نغيّر شيئا من رغباتنا، كما أنه تصبّ جزء من حياتنا في تغيير رغباتنا شئنا أم أبينا. إذ في مسار حياتك سوف تُضطرّ أحيانا إلى تغيير بعض رغباتك، وذلك من أجل أن تحيى بعد ذلك حياةً أيسر وأفضل. وما أكثر الصدمات التي تتلقّاها فيما إن لم تُحدث هذا التغيير.
إن التحدي الرئيس الذي يواجه حياة الإنسان هو «إدارة الرغبات» أو تغييرها
- قد يُضطَرّ الإنسانُ أحيانا إلى تعزيز رغبة ما في نفسه. فعلى سبيل المثال قد يكون بصدد الاستعداد للامتحان الوطني، ولكنه لا يحظى بالحافز الكافي للدراسة، أو لا يستطيع التركيزَ على المادّة، ويشرد باله إلى اللهو واللعب. لذلك فهو مضطر إلى مضاعفة رغبته في الدراسة وتنقیصها في اللهو واللعب ليتسنّى له التركيز على المادّة الدراسيّة. فهنا يقع في التحدّي الجادّ في حياته وهو «إدارة الرغبات» أو تغييرها.
- كان رجل قد ارتكب القتل وغيره من الجرائم مرات عديدة وقد أطلق عليه اسم «خفاش الليل». فسئل قبل إعدامه: «ألم تكن تتألم أو يؤنّبك ضميرك بعدما كنت ترتكب هذه الجرائم؟» فقال: «بلى؛ لقد كنت أتألّم في الليالي الأولى ولم أقدر على النوم الهنيئ في حينها، ولكن قد استعدلت بمرور الأيّام ولم أعد أتألّم شيئا!». يعني حتى هذا الرجل كان يعالج رغباته وضميره، وقد بذل جهدا جهيدا لسحق ضميره والقضاء عليه. فلم يكن ذلك بأمر هيّن، بل قد قتل ثلاثة أشخاص أو أربعة حتى نجح! يعني حتى ذلك التعيس قد أحدث تغييرا في رغباته، إذ لم يولد الإنسان قاتلا من بطن أمّه!
- لنراجع أنفسنا؛ فلعلنا كنّا نتألّم في بداية الأمر إن استغبنا مؤمنا، ولكن بعد ذلك بذلنا جهودا وسعينا سعيا حتى بلغ بنا الأمر إلى عدم المبالاة بالغيبة وعدم التألم منها! إذن فنحن أيضا قد صنعنا تغييرا. فلا تحسبوا إدارة الرغبات عبارة عن استبدال رغبة حسنة برغبة سيئة وحسب، وإنما إن استبدلنا السيئة بالحسنة فقد قمنا بإدارة رغباتنا أيضا. إذن فاسمحوا أن نكمّل تعريفنا عن الحياة بهذا النحو ونقول: «الحياة تعني تغيير الرغبات أو إدارتها والسعي والصراع لنيل الرغبات الأسمى».
المرحلة 6. الحياة تعني إدارة الرغبات والسعي والصراع في سبيل نيل الرغبات الأسمى مع «القبول بالمحدوديّات» / إن القبول بالمحدوديّات والخضوع لها جزء من الحياة
- نضيف في المرحلة السادسة من تعريف الحياة قيدا آخر: الحياة تعني إدارة الرغبات والسعي والمحاربة لنيل الرغبات الأسمى مع «القبول بالمحدوديّات». لقد أضفنا في هذه المرحلة من التعريف قيد «القبول بالمحدوديّات»، إذ تواجه الحياة في مسار حركتها هذا التحدّي بحيث يُضطَرّ الإنسان فيها إلى القبول ببعض القيود والمحدوديّات، لأنها جزء من حياته. فالموت ـ مثلا ـ هو جزء من حياتنا، والكِبَر والمشيب جزء من حياتنا، وكذا الشبع والامتلاء جزء من حياتنا، فإن محدوديّة معدتنا واستيعابها المحدود واقع وجزء من حياتنا.
- إن القبول بالمحدوديّات يشكّل مرحلة من الحياة. فإنّ جزء من الحياة هو انتهاء الإنسان إلى الطرق المغلقة، فعندها لا يُهزَم وإنما يستسلم لبعض المحدوديّات. إذن أحد أجزاء حياتنا هو الاستسلام للمحدوديّات والموانع التي لا سبيل إلى محاربتها ولا معالجتها.
- من الذين هم أقل حظّا من الحياة؟ هم أولئك الذين أبطأوا في إدراك هذه الحقيقة وهي أنه يتمثّل جزء من الحياة في الاستسلام للمحدوديّات. أفلم نتأخر فيما إذا لم نلقّن أطفالنا في الابتدائية على هذه الحقيقة ونؤجّلها إلى بعد كِبَرِهم؟! لقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق(ع) أن حسب الإنسان للرشد والكمال ثماني عشرة سنة؛ «وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْکُمْ ما یَتَذَکَّرُ فِیهِ مَنْ تَذَکَّرَ فَقَالَ تَوْبِیخٌ لِابْنِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً» [منلایحضرهالفقیه/1/186] يعني إن أعطى الله امرءاً ثماني عشرة سنة، فبوسعه أن يصل الكمال في هذه الفترة. طبعا من يصل إلى الكمال خلال ثماني عشرة سنة، فإنّه سيرتقي ويتكامل ويصبح من الكُمّلين إن طال عمره، ولكن بوسعه أن ينال ما يشاء في ثماني عشرة سنة وبإمكانه أن يفهم كل ما يريد.
المرحلة 7. الحياة تعني إدارة الرغبات والسعي والصراع لنيل الرغبات الأسمى مع القبول بالمحدوديّات في ظرف مقدّرات حياة الإنسان
- والآن فقد انتهينا إلى آخر المطاف في تعريف الحياة فلنشرح الجزء الأخير من هذا التعريف. أين تريدون أن تحيون وتعيشون؟ على سطح القمر؟ أم في عالم البرزخ؟ إذ لابدّ لنا من ظرف نعيش فيه. ولا يخفى أننا لا نعيش في الخلأ. ففي أي ساحة نريد أن نلعب؟ وما هي القواعد المحيطة بهذه الساحة؟ إن الحياة حركة وكدّ وإدارة في داخل الإنسان وسعي في خارجه من أجل الوصول إلى الرغبات المختارة والأسمى، ولكن لا في مكان غير معلوم، بل في «ظرف حياة مقدَّرة» أي في الظرف الذي صمّمه لنا الله سبحانه.
- إن ما عليك أن تمارسه وتباشر به من سعي وصراع وتغيير الرغبات والقبول بالمحدوديّات، كلّه سيكون في نطاق هذه الساحة أي في ظرف المقدّرات الإلهيّة. فليست حياتنا بخارجة عن نطاق المقدّرات الإلهيّة، وإنها لجزء من حياتنا. ثم إن محور المقدّرات الإلهية هو «الامتحان» كما قال الله تعالى: (الَّذی خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَیاةَ لِیَبْلُوَکُمْ) [الملك/2]. إذن فتصبح الحياة برمّتها لعبةً للإجابة عن هذه الامتحانات. وفي الحقيقة إن شأنك في هذه الحياة وما تقوم به فيها ـ سواء أشعرت أم لم تشعر ـ هو الإجابة عن أسئلة الامتحان التي صممّها وأعدّها ربّ العالمين!
«الحياة تعامل مع المقدرات الإلهيّة»/ نحن لا نعيش في فسحة غير ذات مدى من الإمكان والاختيار
- الحياة تعني الحركة في ظرف المقدّرات الإلهيّة؛ لا الحركة في نطاق غير محدود من الإمكان! فيا ترى كم هي إمكاناتنا؟ وكم بوسعنا أن نختار؟ فعلى سبيل المثال كم تستطيع الفتاة أن تختار من بين الخطّاب وكم بوسع الفتى أن يختار من بين البنات ليخطِبَهن؟ أفهل أمامهما مليونُ خَيارٍ!
- إن هذا القيد الأخير الذي أضفناه إلى تعريفنا عن الحياة من الأهمية بمكان بحيث في ميسورنا أن نتخلّى عن كلّ ما سطّرناه في ما سبق في تعريف الحياة ونلخّص التعريف هكذا: «الحياة تعامل مع المقدّرات الإلهيّة». طبعا وبالتأكيد يتمثّل تعاملنا مع المقدّرات الإلهيّة في المثابرة من أجل نيل الرغبات المختارة والأسمى.
- لقد صُمّمت لنا هذه الظروف فهي ليست صنيعةَ الصدفة، وإنّما هي تحت إدارة الله. ولذلك ليس في ميسور أيّ إنسان سافل في هذه الدنيا أن يرتكب أيّ موبقة، لأنّ يدَيه مغلولتان في كثير من الأحيان وليس هو مطلقَ العنان في كلّ ما يشاء. فما أكثر الأشخاص الذين سيحشرون مع شمر بن ذي الجوشن إلا أنهم لم يقتلوا الإمام الحسين(ع)، إذ لم يفتح لهم الله تعالى سبيل ذلك من حيث الإمكان. فعلى سبيل المثال قد يحشر رجل مع شمر بن ذي الجوشن لشدّة ظلمه لزوجه، على الرغم من كونه لم يشهد كربلاء ولم يقتل الإمام الحسين(ع)، ولكن لو كان قد تسنّى له ذلك لكان جديرا بارتكاب هذه الجرائم كلّها. ومن جانب آخر بإمكان قصّاب أن يجاور موسى بن عمران(ع) في الجنان.
الحياة مسرح مصمَّم نُمتَحَن فيه
- الحياة تعني السعي والمثابرة والصراع لنيل الرغبات، ولكن في ظرف المقدرات الإلهيّة. وأمّا المقدّرات الإلهية فقد تمّ تصميمها على أساس «أصل الامتحان». يعني يريد الله أن يمتحنك من خلال هذه المقدّرات. إنْ حياة الإنسان إلّا امتحان، فإنها مسرح مصمَّم نُمتَحن فيه.
- إن القبول بالمقدرات الإلهية في حياة الإنسان هو مقتضى العقل، وعدم القبول بها مخالف للعقل. فليس لامرء أن يدّعي أن حياته كلّها كانت صنيعة الصدفة. أفتعلمون أيّ هرج ومرج يعمّ العالم بأسره فيما لو كانت حياة الناس صنيعة الصدفة؟! إنها لحقيقة يمكن إدراكها عبر التجربة أيضا، وكذلك يأبى عقل الإنسان أن يُقِرّ بتحكّم الصدفة في حياة الناس فردا فردا. ومضافا إلى ذلك، من كان يتصف بأدنى إيمان بوجود الله، لا يسعه إطلاقا أن يقول: «إن حياتي عبارة عن صُدَف تقع بعضها تلو بعض!»
- فلا يسمح الله لنا بارتكاب كلّ سيئة، كما لا يطلق أعنّتنا للقيام بكلّ حسنة. فحتى لو وددنا القيام بعمل صالح ما، لا يمكّننا الله منه بالضرورة. فإن أردنا برجل خيرا، أو أردنا به شرّا، فلسنا في فسحة غير ذات مدى من الحرّية والإمكان، لأن الله ربّ العالمين هو الفعال بما يشاء وهو مُخرِج هذا المسرح. فهو سبحانه يفوّضنا زمام بعض الأمور، ويمسك بزمامها في نفس الوقت، فكأننا نتحرّك سويّة وبقاعدة لا تخلو من دقّة رائعة. فيا له من فعلٍ دقيق ولطيف، يدير به الملايين من الناس الأحرار الذين يعيشون معا.
إن الغفلة عن أيٍّ من عناصر تعريف الحياة المهمّة، توقعنا في هاوية أخطاء فظيعة/ يخدعنا الشيطان في معرفة «متن الحياة» لا «هدف الحياة»
- الحياة حركة صوب الرغبات في ظرف المقدرات التي أعدّها اللّه سبحانه لكلّ فرد. الحياة صراع لنيل الرغبات في الظرف الذي حدّده الله تعالى للإنسان. إنها القبول بالمحدوديّات. إنها إدارة الرغبات. وهي اختيار الرغبات في الظرف الذي قدّره الله تعالى للإنسان. وإن استطاع إبليس أن يصرف أنظارَنا عن أيٍّ من عناصر تعريف الحياة المهمّة، نقع في هاوية أخطاء فظيعة.
- إن استطاع الشيطان أن يحذف من ذهننا واهتمامنا ووعينا أيّاً من هذه العناصر الرئيسة في تعريف الحياة، فقد استطاع أن يخدعنا ويوقعنا في الأخطاء. فإنّ منطلق غَيّ الإنسان هو أن يخدعه الشيطان في معرفة «متن الحياة» لا هدفها. فعلى سبيل المثال إن توهّمنا أنه بإمكاننا الحياة من دون سعي وصراع، فقد انحرفنا عن الصواب. وهنا يغوي الشيطانُ الإنسانَ ويوقعه في ورطة التوهّمات. فإن دسّ فينا هذا التوهّم فقد قضى علينا ولم يعد بوسع أيّ دين أن ينقذنا.
- قد يُطَمّعنا الشيطان أحيانا في أن نَغنَم شيئا على الرغم من المقدّرات الإلهية! وقد يهمس في أذنينا ويقول: «إنك لن تشيب! فليس من الضروري لك أبدا أن تخضع لبعض المحدوديّات! ولماذا تستسلم للمحدوديّات؟» إنما عمل الشيطان هو هذا. فقد كذب حتى على نبينا آدم وخدعه.
- إن تعرّفنا على حقيقة الحياة، تصبح الحياة لنا مطارا توفّر لنا قاعدة نقلع منها ثم نرتفع ونحلّق. فإن الحياة قد صَمّمت نفسها مستوية ليتسنّى لك السير والتحليق بسرعة ومن دون مانع.