حب الحسين وعلاقته بالفطرة (5)
بين يديك عزيزي القارئ هو ملخص الجلسة الخامسة من سلسلة محاضرات سماحة الأستاذ الشيخ بناهيان في العشرة الأولى من محرم في عام 1434هـ. في موضوع «حب الحسين وعلاقته بالفطرة» حيث ألقاها في جامعة الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران بين مجموعة من طلاب وأساتذة الجامعة وباقي شرائح المجتمع.
ضرورة النظرة الشمولية إلى معارف الدين
- لقد حاول طغاة العالم منذ سنين أن يديروا ثقافة المجتمع البشري بالنحو الذي لا تطّلع فيه الشعوب على الإدارة الشمولية للعالم. وهناك الكثير من الناس قد قنعوا بالحدّ الأدنى من الحياة الإنسانية طلبا للراحة وحبا باللذة وتأثّرا ببعض النزعات المادية. وكأنهم يرغبون أن لا يتعرفوا على شيء من القضايا المتربطة بالإدارة الشمولية للعالم، وليس همّهم سوى تعاطي القضايا الجزئية.
- فإذا كان الإنسان عاجزا عن إلقاء النظرة الشمولية إلى مختلف القضايا ولا يهتمّ سوى بالقضايا الجزئية، يدخل في زمرة العبيد. وحتى في مسار التديّن لا نصبح عبادا لله ما لم ندرك القضايا الدينية العامّة واكتفينا بالقضايا الجزئية، بل قد نصبح عبيدا لغير الله بهذا الأسلوب في التديّن. إذن النظرة الشمولية إلى الدين ضرورة. فهذا الذي يهتمّ بجزئيات الأحكام ومفردات المسائل الدينية واحدة واحدة بلا أن يلقي نظرة إلى القضايا العامة فهو ليس بمتديّن جيّد.
- إن عبادتنا وحياتنا مرهونة باتخاذ نظرة شمولية تجاه قضايا إدارة العالم. فإذا كانت تحظى الولاية في منظومة ديننا بهذه الأهمية البالغة بحيث لن تقبل الصلاة وسائر أعمال الإنسان بدونها؛ (قَالَ الصَّادِقُ ع إِنَ أَوَّلَ مَا یُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ إِذَا وَقَفَ بَیْنَ یَدَیِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ الصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتِ وَ ... وَ إِنْ لَمْ یُقِرَّ بِوَلَایَتِنَا بَیْنَ یَدَیِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ لَمْ یَقْبَلِ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْهُ شَیْئاً مِنْ أَعْمَالِهِ؛ الأمالي للشيخ الصدوق/256). فلعلّ أحد أسباب هذه الأهمية هي أنّ موضوع الولاية يرتبط بإدارة العالم. فهذا الإنسان الذي يمرّ من هذا الموضوع العام والمصيري مرور الكرام ثم يذهب ويعكف على الصلاة والعبادة فيا ترى كم لصلاته وعبادته من ثمن؟!
- إن العقل أمر مهم جدا. فقد جاء رجل إلى الإمام الصادق(ع) وأخذ يمدح أحد الرجال في عبادته ودينه وفضله. فسأله الإمام(ع): كيف عقله؟ قال: لا أدري. فقال الإمام: «إِنَّ الثَّوَابَ عَلَى قَدْرِ الْعَقْل» ثم حكى الإمام(ع) له قصة عابد من بني إسرائيل في جزيرة خضراء، فقال: «إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ خَضْرَاءَ نَضِرَةٍ كَثِيرَةِ الشَّجَرِ ظَاهِرَةِ الْمَاءِ وَ إِنَّ مَلَكاً مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَرَّ بِهِ فَقَالَ يَا رَبِّ أَرِنِي ثَوَابَ عَبْدِكَ هَذَا فَأَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فَاسْتَقَلَّهُ الْمَلَكُ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنِ اصْحَبْهُ فَأَتَاهُ الْمَلَكُ فِي صُورَةِ إِنْسِيٍّ فَقَالَ لَهُ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا رَجُلٌ عَابِدٌ بَلَغَنِي مَكَانُكَ وَ عِبَادَتُكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ فَأَتَيْتُكَ لِأَعْبُدَ اللَّهَ مَعَكَ فَكَانَ مَعَهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ الْمَلَكُ إِنَّ مَكَانَكَ لَنَزِهٌ وَ مَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ فَقَالَ لَهُ الْعَابِدُ إِنَّ لِمَكَانِنَا هَذَا عَيْباً فَقَالَ لَهُ وَ مَا هُوَ قَالَ لَيْسَ لِرَبِّنَا بَهِيمَةٌ فَلَوْ كَانَ لَهُ حِمَارٌ رَعَيْنَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ هَذَا الْحَشِيشَ يَضِيعُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الْمَلَكُ وَ مَا لِرَبِّكَ حِمَارٌ فَقَالَ لَوْ كَانَ لَهُ حِمَارٌ مَا كَانَ يَضِيعُ مِثْلُ هَذَا الْحَشِيشِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَكِ إِنَّمَا أُثِيبُهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ.»(الكافي/ج1/ج12) هكذا تتأثر قيمة عبادة الإنسان بمدى عقله ونظرته الشموليّة. فهذا الذي يعجز عقله عن استيعاب قضية عامّة كالولاية، كم لصلاته وعبادته من قيمة؟
- إن استيعاب القضايا العامة في ما يخصّ بإدارة العالم ليس بأمر عويص جدا ولا بحاجة إلى تخصصات عالية، وأساسا إن القضايا العامّة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية ليست بخارجة عن الأفهام ولا هي قضايا تخصصية. ولابدّ أن تدرّس هذه المواضيع العامة كوحدات دراسية عمومية لجميع الجامعيين كما ينبغي أن يتمرّن الناس على الحديث في هذه المواضيع.
لماذا نسمح لبعض سفّاكي الدماء من الصهاينة أن يقرروا في الإدارة العامة للعالم؟
- نحن اليوم وبصفة أشخاص معنيين في الإدارة العامة للعالم، نريد أن نعرف كم نستطيع أن نحقق تحولا في العالم من خلال اسم الحسين(ع) وذكر الحسين(ع) والعواطف والمشاعر الحسينية.
لماذا لا تبدون آراءكم أيّها المؤمنون بشأن قضايا عامة مرتبطة بإدارة العالم، ثم تأتي السيدة رايس بصفتها وزيرة الخارجية لأمريكا وتلقي نظرات شمولية إلى العالم وتعطي تحليلا عن مفهوم الشهادة وأبي عبد الله الحسين(ع) وتقول: «ما دام هؤلاء يتحدثون عن الشهادة فهم إرهابيون جميعا!». لماذا هي تفهم العلاقة القائمة بين «الحديث عن الشهادة» وبین «زوال أمن الدكتاتورية الأمبريالية»، بيد أنكم الذين تلطمون على الحسين(ع) لا ينبغي أن تنتبهوا إلى هذه القضية المهمّة ولا يجب أن تلطموا على صدوركم بنيّة أن تزلزلوا دعائم آخر مستكبر وطاغوت في العالم؟! لماذا ينبغي لنا أن نسمح لبعض سفّاكي الدماء الصهاينة أن يقرروا في الإدارة العامة للعالم؟
لماذا نجد الصهاينة يبرمجون لإدارة العالم بينما لا نملك نحن برنامجا لإنقاذ العالم؟
- اقرأوا بروتكولات زعماء صهيون لتروا كيف اجتمع نفر من اليهود قبل أكثر من مئة و ست عشرة سنة في جلسلة وأعدّو ا خطّة مئوية للهيمنة على العالم. ثمّ لاحظوا أوضاع العالم في هذا القرن الأخير حيث قد أنجزوا جميع الأهداف التي كانوا قد أقرّوها في هذه الوثيقة وحققوها في جميع العالم. فلماذا يأتي الصهاينة ويعدّوا خطة على مدار مئة سنة لإدارة العالم ونحن لا نعدّ أي برنامج لإنقاذ العالم؟
- لقد أنجز الصهاينة أهدافهم القذرة هذه بقوّة المال والاقتصاد، بينما نحن نحظى بقدرة الفطرة والتسديد بالقدرة الإلهية. فلماذا لا يجب علينا مع ما نحمل من أفكار أسمى أن نقرّر للعالم؟ طبعا نحن لسنا مثلهم فلا نريد اكتساح العالم لنهبه، فإذا أردنا أن نبرمج للعالم ونتخذ قرارات بشأنه فإنما ذلك في مسار إيصال شعوب العالم إلى مصالحهم.
إن ظاهرة تقديس الديمقراطية في جامعاتنا متمخضة من مرض «افتقاد النظرة الشمولية»
- لماذا لا نكون شموليّين في رؤانا؟ إنّ افتقاد النظرة الشمولية يمثل حالة مرضية في أوساطنا. وإثر هذه الحالة المرضيّة باتت الديمقراطيّة تُقَدّس في جامعاتنا. إذ لا يتحدّثون في جامعاتنا عن نتيجة الديمقراطيّة في هذا القرن الماضي، بل خاضوا في تفاصيل الديمقراطيّة وحسب.
- تقول بروتكولات زعماء صهيون: «كيف يجب أن ندير العالم حتى يقع تحت سلطة الصهاينة». واليوم وبعد مضيّ مئة عام أصبحنا نشاهد نتيجة هذه البروتكولات في القوانين الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية وفي مختلف المجتمعات. يقول البعض أن هذه البروتكولات كاذبة ومزيّفة. فإذا هي كاذبة فلابدّ أن يكون هذا الإنسان الذي كتبها ونسبها زورا لزعماء صهيون قبل 108 سنة إنسانا رهيبا، فإننا ومنذ مئة عام نرى العالم جميعا يدار على أساس هذه الوثائق! لقد تمّ إعداد المناهج الدراسية في الجامعات وكذلك القوانين والأنظمة الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية في مختلف البلدان على أساس هذه الوثائق، فكيف يمكن أن تكون وئائق مزوّرة ومفتراة على زعماء صهيون.
مخاطر وتداعيات افتقاد النظرة الشمولية تجاه إدارة العالم
- إن النظرة الشموليّة مهارة لابد من اكتسابها وهي ضرب من أنواع الحياة كما هي قرار لابدّ أن نتخذه يوما لأنفسنا ونبدأ بحياة جديدة بنظرة شمولية إلى العالم. فإن لم نكن شموليّي النظرة في المواضيع المرتبطة بإدارة العالم، قد نصبح من مخالفي الثورة، حيث إننا وبهذه النظرة التجزيئية إلى العالم سوف لا ندرك مسار حركتنا ولا نرى إلا أمام رجلينا، فلا نعي المخاطر الكامنة أمامنا ولا نعرف طريق الخلاص منها بطبيعة الحال.
- إن لم نكن شموليي النظرة لن نستوعب مواقف الإمام(ره) وقد نخرج بنتيجة أنّ حكم ارتداد سلمان رشدي قد أضرّ بنا! وإن لم نكن شموليي النظرة قد نقول إن التفاوض مع أمريكا يعطينا مهلة لنستردّ فيها أنفاسنا! بينما لو استطعنا أن نرى وراء ذلك قليلا، لأدركنا التداعيات المفجعة التي قد تؤول إليها هذه الممارسات. كما أننا إن لم نكن شوليي النظرة قد نشك في صوابيّة طريقنا.
يجب أن نجد دورنا البارز في أمر الظهور
- نحن الذين نعدّ اللحظات لهفة لأمر الظهور، لابد أن نجد دورنا العالمي تجاه هذا الأمر. فإن إحدى قواعد الظهور المستوحاة من السنن الإلهية الحاكمة على حياة البشر هي «تبلور فراغ نظري في العالم على أعتاب الظهور» ونحن اليوم نشاهد علامات هذا الفراغ النظري والطرق المسدودة التي انتهت إليها حياة الشعوب الغربية. فلابدّ لنا وبنظرة شمولية أن نحدّد الدور المهمّ الذي بإمكاننا أن نؤديه في هذه الظروف.
- في هذه الغضون، نجد بعض الناس ينكرون قرب تحقق الظهور من الأساس، ويقول بعض آخرون: بدلا من أن نهتمّ بقضية الحسين(ع) بهذا القدر وهي قضيّة متعلقة بزمن الماضي، حري بنا أن نكثر الحديث والعمل حول الإمام المهدي(عج)، ولعلهم لا يعرفون أن من يدّعي العمل والنشاط في سبيل الإمام المهدي(ع) ولا يعمل للحسين(ع) شيئا، فمدعاه باطل لا أساس له.
إن أسرار عاشوراء هي التي تبين لنا مراحل الظهور
- طبعا نحن سوف نتحدث عن الإمام الحجة(ع) في محله، ولكن لابدّ لنا أن نصل إلى الإمام الحجة(عج) عن طريق الإمام الحسين(ع). فالإمام الحسين(ع) هو الذي يأخذ بأيدينا إلى شاطئ الظهور. من الذي يصلح لأن يكون معلمنا في التمهيد لعصر الظهور غير أبي عبد الله الحسين(ع)؟ فلا أحد في العالم يستطيع أن يقوم بدور المعلم في هذا الطريق غير الحسين(ع).
- لابد أن نستوعب أسرار عاشوراء فإنها تنطوي على أوضح رسالات النبي الأعظم(ص) وأكثرها صراحة. إن أسرار عاشوراء هي التي تبيّن لنا مراحل الظهور. فإن هذه القضية ليست بطريق حلّ للمجتمع وحسب، بل حتى إذا أردنا نحن كأفراد أن نرتقي معنويا وأخلاقيا في هذا الزمان، فالطريق هو الإمام الحسين(ع) ومعرفة أسرار ورسالة عاشوراء.
الحسين محور للوحدة
- نظرا إلى الظروف التي يعيشها العالم اليوم، إن شبابنا ومجتمعنا والعالم الإسلامي بأجمعه في أمسّ الحاجة إلى موضوع أبي عبد الله(ع) أكثر من أي موضوع آخر، فلابد أن نستوعب ملحمة عاشوراء، ونستشفّ أسرارها ورسالاتها بعمق.
- روي عن رسول الله(ص) أنه قال: (إِنَّ حُبَّ عَلِیٍّ قُذِفَ فِی قُلُوبِ الْمُؤْمِنِینَ فَلَا یُحِبُّهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَ لَا یُبْغِضُهُ إِلَّا مُنَافِقٌ وَ إِنَّ حُبَّ الْحَسَنِ وَ الْحُسَیْنِ قُذِفَ فِی قُلُوبِ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُنَافِقِینَ وَ الْکَافِرِینَ فَلَا تَرَى لَهُمْ ذَامّا؛ مناقب آل ابیطالب/ج3/ص383). ولهذا لا يوفّق كل امرء لحبّ أمير المؤمنين(ع) ولكن بإمكان أي إنسان أن يحبّ الحسين(ع) حتى وإن كان كافرا أو منافقا.
- إن أبا عبد الله(ع) هو محور الوحدة ولكن أخذ الأعداء يصرفون مليارات الدولارات ليجعلوا منه محورا للفرقة، فيجب علينا أن لا نسمح لهم بتحقيق ما يهدفون إليه. إن الحسين(ع) يحظى بهذه القابلية فبإمكانه أن يستهوي الجميع ولكننا في حال تضييع هذه الفرصة. ومن جانب آخر نجد الصهاينة يسعون لتحريض بعض المسلمين ضدّ الحسين(ع)، في حين أن المقاتل التي ألفها أهل السنة لأبي عبد الله(ع) لا تقلّ عن مقاتل الشيعة.
إن للحسين(ع) موقعا في فطرة الإنسان يقدر بها على إنعاشها
- إن شبابنا ومجتمعنا والعالم الإسلامي وحتى العالم البشري برمّته في أمسّ الحاجة إلى أبي عبد الله(ع). وهمزة الوصل بين هذه الفئات الأربع وبين الإمام الحسين(ع) هي الفطرة. حيث إن للحسين موقعا في فطرة الإنسان يقدر بها على إنعاشها.
- إن الفطرة بمعنى العشق الشديد المصحوب بالحماس المطلق والقويّ تجاه «الله والأعمال الصالحة والصالحين بأجمعهم». الفطرة يعني أنّني في ذاتي وضميري ـ الكامن والخفي طبعا ـ أعرف الله أبرار والبرّ وأعشقهم بشدّة. فإن أزيح الحجاب عن فطرتنا، لرأينا أننا نعشق الله أشدّ عشق ولا نريد شيئا غيره، حتى ولو قطّعونا بالسيوف ألف قطعة كل يوم. وكذلك لرأينا شدّة تعلقنا برسول الله(ص)، فإنّها أشدّ من تعلّق الطفل الرضيع بأمّه.
- لم يخلق الله الإنسان كإناء فارغ، بل قد أودع في ضميره كثيرا من الحسن والجمال ولكنها كامنة، فلابدّ للإنسان أن يسعى طيلة حياته لإزاحة الستار عنها من أجل ازدهار الفطرة.
- أما كيف تزدهر الفطرة؟ الواقع هو أن لا يمكن بيان لذّة ازدهار الفطرة حتى نتحدث عنها مع الجميع ونحفزهم على العمل في سبيل تجربة ازدهار فطرتهم. فمن أجل إدراك لذتها لابدّ للإنسان أن يعيش هذه التجربة ويشعر بحرارة نار الفطرة، وإنها لممكنة الحصول في مجالس أبي عبد الله الحسين(ع). فعندما يدخل الإنسان في مجلس أبي عبد الله(ع) يشاهد حرقة قلبه واحتراق غيره من الموالين ثم يرجع إلى نفسه متسائلا من أين أتى هذا؟ ثم يكتشف أنه حدث فطري وإنه نموذج من مصاديق ازدهار الفطرة في وجود الإنسان.
إن عشقنا الحسين(ع) من معاجز الفطرة
- كوننا قادرين على الاندفاع نحو الحسين(ع) بهذا العشق الشديد ومن دون تزكية النفس، فهذا من معاجز الفطرة، حيث إن الله قد أرانا زاوية من زوايا الفطرة بمدد الحسين(ع).
- فعندما نقول: قد حان وقت الرجوع إلى الفطرة والطريق لذلك هو الحسين(ع)، فبسبب أن الحسين(ع) هو أكثر أقسام الفطرة ازدهارا. وإذا أراد أحد أن يرتقي في هذا المسار لابدّ أن يسقي هذه الفسيلة المزدهرة في فطرته. يقول العلامة الطباطبائي(ره): «لم يصل أي أحد إلى أي درجة ومقام معنوي إلا في حرم الإمام الحسين(ع) أو عن طريق التوسل به». [سيل أشك(باللغة الفارسية)/ص50]
- إن الحسين(ع) يفعّل فطرتنا. وهذا هو تجربتنا الفطرية الأولى، فإننا قد عشنا هذه التجربة وشاهدناها لدى الآخرين أيضا وحتى لدى غير المسلمين.
- لقد ذكرت الكتب العقائدية طرقا ونماذج للإيمان بالله عن طريق الفطرة، وهي أن يكتشف الإنسان فطرته. بيد أن شروط كشف الفطرة في كثير من هذه المصاديق مما لا تتوفر بسهولة. ولكن الحصول على حبّ الحسين(ع) في الفطرة أمر يسير. فمن السهولة بمكان أن يذهب الإنسان إلى أحد مجالس الحسين(ع) ويتعرف عليه قليلا لكي يرى كيف يحرق الحسين(ع) قلب الإنسان، وبعد ذلك يتأمل أن لو اتصل قلب الإنسان بإله الحسين(ع) ماذا يفعل حب الله بقلب الإنسان بعد ذلك...
لا تلبّى غرامية الشباب وحماسهم إلا بحبّ أبي عبد الله الحسين(ع)
- لا تلبّى غراميّة الشباب وحماسهم إلا بحبّ أبي عبد الله الحسين(ع). لا تستطيع أي تسلية من رقص ولهو وغناء أن تلبّي هيجان الشباب بقدر ما يستطيع الحسين(ع). ثم أين المعرفة ومدى العمق الكامن في ذاك الهيجان الذي يلبيه الحسين(ع) من دناءة غيره من الهيجانات. فإني أعتذر نيابة عن الفنانين المسلمين إذ لم يصوّروا للعالم هذا الهيجان والحماس الحسيني الذي يشتمل في ذاته على معرفة فطرية.
- كما أعتذر نيابة عن جميع الفنانين المؤمنين من أبي عبد الله الحسين(ع) وجميع شباب العالم المتعطشين لرؤية هذا الحماس الحسيني الرهيب كي يدعوا رقصهم ولهوهم بعد ما يقارنون بين عشاق الحسين(ع) وما يتمتعون به من لذة حرقة القلب عليه والحماس تحت رايته والهيجان في مجالسه، وبين مجالسهم الميّتة وقلوبهم الباردة. فيقولون: إن كان ذاك هو الهيجان والحماس فإن نحن إلا أموات! وإن كان هناك محطّ العشق والغرام، فعلى من نغني نحن وننشد؟!
إن مواكب العزاء هي من أروع المشاهد في المجتمع
- في مواكب العزاء يتسنّى لنا مشاهدة المشاعر الحسينية المستقاة من معين الفطرة. ولكن عندما يستولي نفر من العولميين على مقدرات ثقافة المجتمع، تصبح مواكب عزاء الحسين(ع) من أقل الظواهر قيمة فيه. بينما إذا جاء أناس متدينون وثاقبو الفكر حيث قد استقت معرفتهم من وحي الفطرة، وأخذوا بزمام الإدارة الثقافية للمجتمع في مختلف أبعادها، عند ذلك ترى أن مواكب العزاء هي من أروع الظواهر رونقا في المجتمع.
- وهؤلاء هم الذين يعون حديث الإمام الخميني(ره) حيث قال: «إن كل مدرسة هي بحاجة إلى ضجّة، فلابد من اللطم دونها، لا يمكن لأي مدرسة أن تحفظ ما لم يلطموا ويبكوا ويلطموا على الرؤوس والصدور تحت [رايتـ]ها». (صحيفة الإمام/ج8/ص526)
إن التفرج في سبيل ازدهار الفطرة هي مشاهدة صلحاء العالم والصالحات من الأعمال وآثار الله وآياته
- أحد الطرق المؤدية إلى ازدهار الفطرة هي أن يذهب الإنسان إلى تفرج بعض المظاهر. والتفرج في سبيل ازدهار الفطرة هو أن نشاهد المبرّات والصالحات، ونشاهد صلحاء العالم ونشاهد آثار الله سبحانه. ولما تحظى هذه المشاهدة من أهمية قال الشيخ بهجت(ره): إن ما هو أهم من درس الأخلاق في مسار تزكية النفس هو مطالعة حياة الصالحين.
- إن بعض الناس لم تدفن فطرتهم إلا بغشاء وحجاب رقيق، ولهذا عندما يشاهدون الصالحين تهشّ أفئدتهم إلى ما هم عليه فيشتهون مقاماتهم ونعمهم. وبهذه السهولة تنفرج الحجب عن قلوبهم وتزدهر فطرتهم.
- واحدة من الآيات التي دعانا فيها الله إلى المشاهدة هي هذه: (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ یَنْعِهِ إِنَّ فی ذلِکُمْ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ)[الأنهام/99]. ففي واقع الأمر يقول الله سبحانه انظر وشاهد عسى أن تزدهر فطرتك.
إن تلاوة القرآن هي نوع من المشاهدة والتفرج
- لقد عبر القرآن عن رسالة الأنبياء بأربع كلمات وهي التلاوة والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة: «یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ»(آلعمران/164) وقد تكرّر هذا المعنى في آيات القرآن بأشكال مختلفة، إلا أن في كل هذه الآيات قد تقدمت التلاوة على التزكية والتعليم، كما أن في بعض هذه الآيات جاء ذكر التلاوة دون التزكية والتعليم. فما معنى هذه التلاوة ويا ترى ما هو سرّها؟
- قبل أن يباشر النبي(ص) بتزكية الإنسان، يتلو عليه آيات من القرآن إذ لعلّ فطرته على استعداد لتقبّل الهدى وتقبل كلّ شيء في الخطوة الأولى. أحد طرق ازدهار الفطرة هي مشاهدة هذه الآيات القرآنية. والتلاوة هي ضرب من أنواع المشاهدة. فشاهد الآيات الآفاقية كما دعاك القرآن إلى مشاهدتها، وانظر جيدا فعسى أن تزدهر فطرتك بهذه النظرة. وعسى أن يكون قلبك قد اشتهى الطيبات وحنّ إليها.
إن ذكر مصائب الحسين(ع) هي تلاوة القرآن الناطق
- لقد رفع القرآن مرتين على الرماح؛ إحداهما في صفين والأخرى في كربلاء. بيد أن القرآن الذي رفعوه في كربلاء لم يكن القرآن الصامت، بل كان القرآن الناطق. فذكر الحسين(ع) يمثل أروع حالات تلاوة القرآن الناطق وإن الحسين(ع) هو الذي يأخذ بأيدينا إلى التفرج والمشاهدة.
- إن زيارة كربلاء الحسين(ع) واستذكار مصائب الحسين(ع) هي بمنزلة تلاوة آيات العترة على قلبك. فتكرار المصائب هي تلاوة آيات الحسين(ع) ومشاهدته.
- فعندما نقول اذهبوا وشاهدوا مواكب عزاء الحسين(ع) أثناء ما يلطمون على صدورهم بحماس، فذلك لما تترك هذه المشاهدة من أثر كبير على الفطرة. إن مشاهدة لقطات ازدهار فطرة الناس من خلال روعة حماس مواكب العزاء، تؤدي إلى انتعاش الفطرة وانفتاح نوافذ القلب.
- فإذا كان هذا أثر مشاهدة اللاطمين ومقيمي عزاء الحسين(ع) فما بالك بأثر الحسين(ع) نفسه إن أشرق على قلبك؟!
- عَنْ مِسْمَعِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كِرْدِينٍ الْبَصْرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع يَا مِسْمَعُ أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَ مَا تَأْتِي قَبْرَ الْحُسَيْنِ ع قُلْتُ لَا أَنَا رَجُلٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَ عِنْدَنَا مَنْ يَتَّبِعُ هَوَى هَذَا الْخَلِيفَةِ وَ عَدُوُّنَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ القَبَائِلِ مِنَ النُّصَّابِ وَ غَيْرِهِمْ وَ لَسْتُ آمَنُهُمْ أَنْ يَرْفَعُوا حَالِي عِنْدَ وُلْدِ سُلَيْمَانَ فَيُمَثِّلُونَ بِي قَالَ لِي أَ فَمَا تَذْكُرُ مَا صُنِعَ بِهِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَتَجْزَعُ قُلْتُ إِي وَ اللَّهِ وَ أَسْتَعْبِرُ لِذَلِكَ حَتَّى يَرَى أَهْلِي أَثَرَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَأَمْتَنِعُ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَسْتَبِينَ ذَلِكَ فِي وَجْهِي قَالَ رَحِمَ اللَّهُ دَمْعَتَكَ- أَمَا إِنَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ مِنْ أَهْلِ الْجَزَعِ لَنَا وَ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا وَ يَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا وَ يَخَافُونَ لِخَوْفِنَا وَ يَأْمَنُونَ إِذَا أَمِنَّا أَمَا إِنَّكَ سَتَرَى عِنْدَ مَوْتِكَ حُضُورَ آبَائِي لَكَ- وَ وَصِيَّتَهُمْ مَلَكَ الْمَوْتِ بِكَ وَ مَا يَلْقَوْنَكَ بِهِ مِنَ الْبِشَارَةِ أَفْضَلُ وَ لَمَلَكُ الْمَوْتِ أَرَقُّ عَلَيْكَ وَ أَشَدُّ رَحْمَةً لَكَ مِنَ الْأُمِّ الشَّفِيقَةِ عَلَى وَلَدِهَا. (كامل الزيارات/ص101)
صلى الله عليك يا أبا عبد الله
- ساعد الله قلب الحسين على أعظم المصائب التي شاهدها يوم العاشر من المحرم. عندما كان الحسين(ع) يتلقّى أشدّ المصائب يوم عاشوراء واحدة تلو الأخرى ويصبر عليها محتسبا، كان يزداد قربا إلى الله لحظة بعد لحظة، ومن جانب آخر نعلم أنّ كل ما ازداد الإنسان مقربة إلى الله ازداد بلاء وعظمت مصائبه. إذن فآخر مصائب ذاك اليوم هي أعظم ما تلقّاه الحسين(ع) من مصائب. فأي مصائب الحسين(ع) كانت هي الأخيرة؟ فلا هي مصيبة وداعه أهلَ بيته، ولا هي مصيبة مقتل الطفل الرضيع، ولا هي مصيبة استشهاد أبي الفضل العباس(ع) وما أكبرها من مصائب على قلب الحسين(ع)، ولكن أعظم مصائب الحسين(ع) هي تلك المصيبة التي شاهدها في حفرة المقتل حيث فتح عينيه وإذا بيتيم أخيه (عبد الله بن الحسن) قد ألقى بنفسه على صدره...