ضبط الذهن على طريق التقرب (المحاضرة1)
"ضبط الذهن" هو أهم التمارين لزيادة قوة الروح
من الأمثلة المهمة على ضبط الذهن "النيّة"
حتى لو كان أصل النية في القلب فإن "ملقاطَها" هو الذهن
أفعال الإنسان على نوعين: ظاهرية وباطنية. / الأهم من بين أفعال الإنسان، حسنةً وقبيحةً، هي أفعاله الباطنية. / التصرفات الباطنية أو القلبية أكثر ما يسيطَر عليها عن طريق ضبط الذهن. / هناك في ثقافة مجتمعنا ونمط حياته عوامل تمنع التحكم في الذهن / هناك في أعمالنا الدينية تقنيات لضبط الذهن / لقد أولى الله لقدرتنا على ضبط الذهن قيمة ومهّد الأرضية لها في عباداتنا / عن الصادق(ع): «إِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ لأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ خُلِّدُوا فِيهَا أَنْ يَعْصُوا اللهَ أَبَداً»
- تنقسم الأفعال التي باستطاعتنا إنجازها إلى نوعين أساسيين: النوع الأول هي الأفعال الظاهرية التي نأتي بها بواسطة أيدينا، وألسنتنا، وأعضائنا، وجوارحنا (مثل التصدُّق وما إليه). والنوع الثاني هي الأفعال الباطنية وما يحصل في داخل نفس الإنسان من أمور، وهي أنه: بِمَ نفكّر؟ وبأيّ شيء نهتَمّ؟ وما الذي نُحب؟ وإلامَ تهفو قلوبُنا؟ فهذه من الأفعال الباطنية.
- ومع أن تصرفات الإنسان الظاهرية تحظى بأهمية بالغة إلا أن الأهم من بين أفعال الإنسان، سواء الحسنة منها أو القبيحة، هي الأفعال التي تحصل في باطنه وروحه. وأفعال الإنسان الباطنية هي الأخرى على نوعين: فهناك التصرفات التي يكون أكثر ارتباطها بعواطف الإنسان وأحاسيسه، وإنّ التحكّم بمثل هذه التصرفات غاية في الصعوبة. وهناك الأفعال المتصلة بفكر الإنسان وحيّزِ ذهنِه، وإنّ ضَبْطَ هذه الأخيرة أسهل، بل إن الإمساك بزمام التصرفات القلبية هو أكثر ما يكون عن طريق هذا النوع من السيطرة على الذهن؛ فمثلاً بماذا نفكّر، وبماذا لا نفكّر، أو كيف لا ندع فكرَنا يتشتّت. وهذه القوة التي بواسطتها يستطيع الإنسان التسلّط على ذهنه هي أعظم قوى الإنسان.
- ومثلما يعمل الإنسان على تقوية عضلات بدنه عبر التمارين الرياضية، فإن أهم تمرين رياضي لتقوية "عضلات الروح" هو السيطرة على الذهن. فالتحكم بالذهن هو، بحقّ، رياضة! بل إن نمطَي التمرين، البدني والذهني، يمتزجان معاً في بعض الرياضات الشرقية (كالكونغ فو) التي يتم التأكيد فيها أيّما تأكيد على التركيز الذهني. أما في الثقافة المليئة بالتهتّك والتحلّل التي تَفِدُ علينا من الغرب فعلى العكس؛ فهي تخلو من شيء اسمه "السيطرة على الذهن"، بل يُلقَّن الناس هناك أنهم مسلوبو الإرادة تماماً. وإن بعض ما تفعله الموسيقى هو أنها تنتزع من يد الإنسان زمامَ ذهنِه.
- وإننا لقادرون على التحكّم بأذهاننا أثناء النوم، بل والتحكّم بالنوم نفسه أيضاً، بل إننا مطالَبون بمثل هذه القدرات الروحية. وجميع أشكال التسلط على البدن إنما هي لتقوية عملية ضبط الروح. وحينما يدور الكلام حول "ضبط الروح" و"قوة الروح" فإنه يُراد به عادةً "ضبط الذهن"، ذلك أن الإنسان غير قادر على التحكم بقلبه كثيراً؛ فإذا أراد قلبه أن يميل إلى شيءٍ ما فلا يكون ذلك بإرغامٍ من صاحبه بأن يأمره: "مِلْ إلى هذا الشيء!" ومن هنا فإن المراد من التوصية "بضبط القلب"، في الواقع، هو "ضبط الذهن". فباستطاعتك، مثلاً، أن تتحكّم في أنه بماذا لا تفكر، أو بماذا تفكر، ويمكننا أن نُدرج كافة ما هو من نوع التصرفات الباطنية في خانة عملية "ضبط الذهن".
- أجرى علماء النفس اختباراً لمعرفة مَن الذين سينجحون في منع أنفسهم من القيام بفعلٍ ما مع أنهم يحبّونه؟ فوضعوا بضع قطع حلوى أمام بضعة تلاميذ وقالوا لهم: "لا تأكلوا الحلوى لمدة ساعة". فلاحَظوا في التجربة أن الطفل الذي كان ينظر باستمرار إلى الحلوى لم يستطع في النهاية ضبط نفسه، فأكل الحلوى، أما ذاك الذي لم يكن ينظر إليها فقد أفلح في الإمساك بزمام نفسه، فلم يأكلها؛ بمعنى أنه استطاع التسلط على رغباته من خلال السيطرة على ذهنه (أي: إن الذين لا يفكرون في الموضوع يستطيعون ضبط أنفسهم).
- يساعد الحجاب أيضاً على عدم تشتت ذهن الإنسان، فحيثما اتّجَه ذهنُك اتّبَعَه قلبُك ثم لا تستطيع السيطرة على قلبك، أما الذهن فتستطيع السيطرة عليه.
- هناك في ثقافة مجتمعنا ونمط حياته عوامل تمنع السيطرة على الذهن. فقد اتّسعَت أوقات الفراغ في الحياة المَدنِيّة وازدادت وسائل اللهو؛ أي الأسباب التي تشغل أذهاننا على نحو موصول وتجذب انتباهنا في كل آنٍ (كالتلفاز، والجوال، وشبكات التواصل، وما إلى ذلك). وليس مهمّاً كثيراً أنها إلى أي شيء تجذب انتباهنا، بل المهم هو أنه عندما يعمل الآخرون دوماً على توجيه اهتمامك إلى هذا الشيء وذاك فإنك ستُفلتُ – شيئاً فشيئاً - زمام ذهنك، وستملأ هذه الأشياء ذهنَك بالتفاهات وتُحطّم قدرتَك على ضبطه والسيطرة عليه.
- ترتبط عملية ضبط الذهن بالسلوك الباطني للإنسان ونتيجتها هي "قوة الروح". والإنسان إذا قويَت روحُه صار في حقل العلم عالِماً، وأصبح في ميدان العمل مُبدعاً، وما من لذة للإنسان كلذة الإبداع.
- لقد أولى الله تعالى لقدرتنا على التحكّم في الذهن أهمية بالغة وقيمة عليا، والأرضية لمثل هذا التحكم في الذهن مُهيّأة في عباداتنا؛ فلقد أوصينا، مثلاً، بالاستيقاظ في السحر للعبادة، ومن الطبيعي أن يكون ذهن الإنسان عند السحر خالياً، وهي فرصة صالحة لأن يجلس المرء فيفكر ويستجمع ذهنَه.
- ولقد أُدخلَت في أعمالنا الدينية تقنيات للسيطرة على الذهن؛ فهل تدري، مثلاً، لماذا جُعلت الصلاة بهذه الروتينية؟ لقد جعل الله روتينية الصلاة هذه من أجل ضبط الذهن؛ فغرضُه تعالى هو أن لا تعمل عواملُ خارجية على جذب انتباهِك، بل أن تلتفت أنت إلى الشيء بقوة ذهنك فتزداد بذلك قوة تحكّمك بذهنك. فالمهم هو أن يستطيع المرء التركيز على موضوعٍ ما بنفسه، لا أن يعمل الآخرون، أو تعمل بعض العوامل الخارجية الأخرى، على مساعدة ذهنه في التركيز على هذا الموضوع.
- ليس من المحبَّذ أن يعمل شخص آخر على إدارة أذهاننا. نعم، إن كان هذا الشخص هو الله عز وجل فهذا – بالمناسبة – جيد جداً. إذن سَلّم عِنانَ ذهنك بيد ربك، لأنه تعالى إذا اشتغل على ذهنك فسيزيد من قدرته. ودع القرآن يستقطب انتباهَك، وانظر ما سيحصل! فهو يُلفت نظرك إلى الجنة تارةً، ويجذب انتباهك إلى النار تارةً أخرى، و...الخ. فتعالوا نتلهّى بالقرآن، ولندَع القرآن يوجّه أنظارنا إلى هذا وإلى ذاك!
- بل إني أنصحك أن لا تُكثر من الجلوس عند منابر الذين يستولون على حواسك كل الاستيلاء! بل ليكن لديك "واعظ من نفسك"، ولتصعد أنت – بين الحين والحين – منبراً لنفسك. فإذا اعتَدتَ على أن يعمل شخص آخر على لفت انتباهك (حتى ولو للأمور الحسنة) فمتى إذن تعمل أنت على لفتِ انتباه نفسك؟!
- يحظى موضوع ضبط الذهن والأفعال الباطنية بقدر من الأهمية والتأثير بحيث إن الذي يلتفت إلى شيءٍ ما سيؤثر على التفات المحيطين به أيضاً، ومن هنا جاءت التوصية بمعاشرة أهل الالتفات والتنبّه.
- من الأمثلة المهمة على ضبط الذهن "النية". ونصف النية يتعلق بالذهن ونصفها الآخر بالقلب. فليس كل النية في الذهن، بل هناك مشيئة القلب أيضاً، لكن مشيئة القلب هذه تتم مراجعتُها في الذهن.
- النية خليط من الفكر والهوى (أي الذهن والمَيل)، فحتى لو كان أصل النية في القلب ففي وسعنا القول – على الأقل - إن "ملقاطَها" هو الذهن. فبعض ميول الإنسان تكون ضعيفة أحياناً، لكن باستطاعة ملقاط الذهن هذا التقاطَها وانتشالَها؛ بمعنى أنك تستطيع - بواسطة ذهنك - أن تعثر على ما ضاع بين طيّات نفسك من الميول الجيدة، فتعمل على تقويتها.
- فانظر إذن كم في مقدور الإنسان أن يشتغل، بواسطة ذهنه، على نيّته، بل وعلى ذلك الجزء القلبي من نيّته! حقّاً ما أعجب هذا! قل مثلاً: ليصل أجر رثائنا في شهر محرم هذا إلى روح الإمام الراحل(ره)، وأرواح الشهداء، وإلى آبائنا وأمهاتنا.. قُم بذكرهم. إن بإمكانك، بنيتك هذه، أن تؤثر في العالَم كله. فذهنك هذا نفسُه، ونيّتك هذه نفسُها يتحوّلان لك إلى مزار ومحراب، ومحل للثواب والعقاب!
- عن أبي عبد الله الصادق(ع) في أهمية النية قال: «إِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ لأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ خُلِّدُوا فِيهَا أَنْ يَعْصُوا اللهَ أَبَداً». فلماذا يُخلَّد بعضُهم في عذاب جهنم يا ترى؟ لأنه كان قد نوى أن يدوم على المعاصي ما بقي في الدنيا! «وَإِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ لأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ بَقُوا فِيهَا أَنْ يُطِيعُوا اللهَ أَبَداً، فَبِالنِّيَّاتِ خُلِّدَ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ، ثُمَّ تَلا قَوْلَهُ تَعَالَى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شاكِلَتِهِ» (الإسراء/84)، قَالَ: عَلَى نِيَّتِهِ» (الكافي/ ج2/ ص85).