"الهوى" مطلوب في مقام واحد فقط وهو "هوى آل البيت(ع)"/ كان دعاء النبي ابراهيم(ع): «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَیْهِم»/ زيارة الأربعين هي أعلى مصداق لـ"تعظيم شعائر الله"/ ماذا نفعل لنحظى بأعظم فائدة من رحلة الأربعين؟
الهوية:
ألقى سماحة الشيخ بناهيان محاضرة حول "قيمة الحنين لزيارة آل البيت(ع)"، في موكب الإمام الرضا(ع) قرب العمود رقم 286 المستقر في طريق مشاية الأربعين من النجف الى كربلاء. وإليكم فيما يلي مقاطع من هذه المحاضرة:
ماذا نفعل كي نحظى بأعظم فائدة من رحلة الأربعين؟ إحدى الممهّدات لهذا الأمر هي أن نعلم "ماذا يجري هنا"
- إن إحدى الفروق بين جسم الإنسان وروحه هي "طريقة تأثير الغذاء المادي والمعنوي" على كل منهما. فحين يلجأ المرء الى الدواء لشفاء دائه الجسدي لا يحتاج الى معرفة طريقة تأثير الدواء على جسمه. فسواء كنت تعلم ما التأثير الذي يتركه "المضاد الحيوي" على جسمك أو لا تعلم، فإنه سيفعل في جسمك فعله. أما بالنسبة للروح فإن عِلمَك بما للغذاء الروحي، أياً ما كان، من تأثير وفوائد على روح الانسان سيزيد من تأثيره ويحسّنه كذلك.
- ماذا نفعل كي نجني أعظم الفائدة من رحلة الأربعين؟ إحدى المقدمات الهامّة لذلك هي أن نعلم ماذا يجري هنا وما هي البركات والفوائد المترتبة أساساً على هذه الزيارة المؤدّاة مشياً على الأقدام؟ كما ينبغي أن نعلم أين نحن وما الذي سنكافَأ به؟ مجرد معرفتنا بهذه الأمور سيزيد من الفائدة التي نكتسبها. كما أن جهلنا بهذه الأمور سيقلل من تلك الفائدة المرجوة.
- إن تأثير هذه الحركة يتعلق الى حد كبير بـ"علمنا" و"معرفتنا". ومنذ القِدم قالوا: "زوروا قبر الامام الحسين(ع) عن معرفة". وهناك جوانب عديدة لهذه المعرفة، وإحدى هذه الجوانب هو أن نعلم ما هو الطريق الذي مضينا فيه؟ وأن نعلم أقوال أولياء الله حول زائر كربلاء والأدعية التي تشيّعنا الآن في هذه الزيارة. هذه المعرفة تهبك سعة وجودية وهذه السعة بدورها ستجذب النور والبركة والرحمة في هذا الطريق وتمنح المرء قابلية الانتفاع من هذه البركات.
- فالله سبحانه يولي اهتماماً كبيراً لفهم الناس. وباتّساع فهم الإنسان وازدياد معرفته ستحدث له أمور رائعة. إذن من الأعمال الجيدة في مسيرة الأربعين هذه هي أنه كلما توقف الشخص وسط الطريق لأخذ قسط من الراحة فليطالع كتاباً، أو فليسمع شيئا مما يقوله العلماء والخطباء، أو فليتعلم شيئاً ما بأي وسيلة متاحة. فمحطّات التوقف هذه أثناء الطريق هي فرصة مناسبة للتعلم واكتساب المعرفة وينبغي أن يصبح هذا الأمر تقليداً يُتّبَع.
- المواكب التي تقدّم للزوّار غذاء معرفياً في طريق مشاية الأربعين تُعتبر من المحطات الهامة جداً، ذلك لأن الاستعداد العقلي والروحي للمرء لتقبل الحقائق وهو يمشي في هذه المسيرة، يكون أكثر حتى من الأيام العشرة الأولى من محرم وليالي القدر وليالي شهر رمضان المبارك وهو في الوطن. هذه تجربتي خلال عشر سنين؛ فعقل المرء متفتّح في هذه المسيرة أكثر من أي وقت آخر.
- يعبّر الكثير من زوار الامام الحسين(ع) قائلين: "لا نعلم سبب هذا الهوى، اجتاحنا الحنين للزيارة فجأة، فشددنا الرحال!". يتبين أنه كم قلوب هؤلاء الأشخاص نقية صافية حتى أُلهِمَت أنه "ثمة في هذا المكان شيء ما مميز! "
كلمة "الهوى" في القرآن والروايات عادة ما تعني "محبة الأمور التافهة"
- جاءت مفردة "الهوى" في القرآن وهي تستخدم باللغة الفارسية أيضاً بمعنى "الرغبة الملحة والنزوة". قال تعالى في كتابه العزيز: «أَفَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواه» (الجاثية/23) فهؤلاء هم عبَدَة الهوى.
- ولـ"الهوى" في رواياتنا معنى سيء في العادة؛ وهو النزوة وحب الأمور التافهة العديمة القيمة. لكن هذه الكلمة، أي "الهوى"، اكتسبت في آية قرآنية وحيدة معنى عجيباً وهو أسمى معنى يمكن تصوّره للحبّ البشري.
- يخاطب سيّدُنا ابراهيم(ع) ربَّ العالمين في هذه الآية الشريفة: «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ .... فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» (ابراهيم/37)؛ أي: "ربِّ هيّئ الأسباب حتى تحنّ قلوب الناس إلى أسرتي وذريتي" واللطيف في هذه القضية أنه لم يستخدم لا لفظة "الحبّ" ولا لفظة "الودّ" اللتين جاءتا في آيات قرآنية أخرى.
«فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» مفهوم هذه الآية هو: "ربِّ اجعل أفئدة الناس تهوَى أهل البيت(ع)"/ "الهوى" جيد في حالة واحدة فقط وهو "أن يهوَى المرءُ أهلَ البيت(ع)"
- وفي حديث له أشار الإمام الباقر(ع) إلى أن المقصود من الذين "تهوي إليهم" أفئدة الناس في دعاء النبي ابراهيم(ع) هم نحن آل البيت(ع): «.. ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآیَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ فَقَالَ آلُ مُحَمَّدٍ آلُ مُحَمَّدٍ ثُمَّ قَالَ إِلَیْنَا إِلَیْنَا» (تفسير العياشي/2/234). فإن هذا الدعاء للنبي إبراهيم(ع) يعني: "يا رب اجعل قلوب الناس تهوَى أهل البيت(ع) وتحنّ إليهم".
- مَن يتّبع هوى نفسه فلا منطق لديه لأنه يقول: "يعجبني أن أفعل هذا!"، أي إنه لا يصغي الى الكلام المنطقي من الآخرين ولا يفكّر ولا يستخدم عقله أيضاً. وهذا التصرف خاطئ بالطبع ولذلك لا تحمل كلمة "الهوى" معنى حسناً بل تُستخدم عادة لعبَدَة الهوى.
- لكن استعمال مفردة "الهوى" جيد في موضع واحد، وهو مودة آل البيت(ع). كما يطلب سيدنا ابراهيم(ع) من الله تعالى أن "اجعل هوى ذريتي في أفئدة الناس"، أي اجعلهم يأتون إليهم "بشغف وشوق" بحيث يُقال عنهم "كأنهم جُنّوا!" على أنه بالنسبة لمحبة أهل البيت(ع) ولاسيما حبّ الحسين(ع) ينبغي أن نذعن بأنه "ما عاقلٌ مَن بحبّك لم يُجَنّ هوىً، بل عاقلٌ مَن بحبّك باتَ مجنونا" (شعر).
متى ما شعرت بالحنين الى زيارة كربلاء فاعلم أنه إلهام
- يقول المرء: "أهوى السفر الى كربلاء، يعجبني ذلك، يحن قلبي لزيارة الحسين(ع)...". متى ما شعرت بالحنين الى زيارة كربلاء فاعلم أن هذا الشعور إلهام. يبدو في الظاهر وكأنه ضرب من الهوى، لكنه يخبّئ كلاماً عميقاً خلف ظاهره.
- كان هناك أشخاص يحبون الإمام الحسين(ع)، لكن ليس الى درجة الهوى والجنون! لقد كتبوا له الرسائل :"هلّم إلى الكوفة يا حسين(ع)، نحن باقون على العهد معك ومستعدون لنقدم أرواحنا فداء لك". وكان الكثير منهم صادقين، لكن بعد أن توقف الإمام الحسين في كربلاء جعَلَ الكثيرُ منهم يعيد حساباته ويدرس الموضوع: أيهُبّ لنصرته أم لا؟! فطال تردّدهم إلى أن دخل الرأس الشريف للإمام الحسين(ع) إلى الكوفة! فقاموا وثاروا بوصفهم "توّابين" وقُتلوا جميعاً، لكنهم لم يكونوا في كربلاء، ولذا ستبقى الحسرة واللوعة في قلوبهم الى الأبد. كانت مشكلتهم هي أنهم لم يُجّنوا من أجل الحسين(ع) ولم يهبّوا لقتال عدوه معه.
حركة الأربعين العظيمة هي أسمى مصداق لـ"تعظيم شعائر الله"
- لقد تجمّع اليوم ملايين الأشخاص - الذين جُنّ جنونهم من حبّ الحسين(ع) حسب تعبيري - إحياءً لأربعينية الحسين(ع) وباتوا يجعلون اسم الحسين(ع) عالمياً. وإن أسمى مصداق لقوله تعالى: «یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ» (الحج/32) على مدى تاريخ البشرية هو زيارة الأربعين هذه بالذات.
- إن تعظيم شعائر الله على هذا المستوى هو أفضل من أي شكل آخر، فهو أفضل مثلاً من أن تقيموا موكباً بألفي شخص في مدينتكم. فاللطم في حسينية إلى أي مدى بوسعه أن يعظّم اسم الامام الحسين(ع) عالمياً؟ لكن انظروا الى حركة الأربعين العظيمة هذه كيف أنها تجعل اسم الإمام الحسين(ع) مدوياً في الآفاق! لذلك فإن زيارة الأربعين هذه هي المصداق الأعلى لـ"تعظيم شعائر الله".
دعاء الإمام الصادق(ع) لزائري الحسين(ع)
- كان الإمام الصادق(ع) يخاطب ربه وهو يبتهل إليه: «اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَصَّنَا بِالْكَرَامَةِ وَوَعَدَنَا بِالشَّفَاعَةِ وَخَصَّنَا بِالْوَصِيَّةِ وَأَعْطَانَا عِلْمَ مَا مَضَى وَعِلْمَ مَا بَقِيَ، وَجَعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْنَا، اغْفِرْ لِي وَ... وَزُوَّارِ قَبْرِ أَبِيَ الْحُسَيْنِ، الَّذِينَ أَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَشْخَصُوا أَبْدَانَهُمْ رَغْبَةً فِي بِرِّنَا، وَرَجَاءً لِمَا عِنْدَكَ فِي صِلَتِنَا، وَسُرُوراً أَدْخَلُوهُ عَلَى نَبِيِّكَ، وَإِجَابَةً مِنْهُمْ لأَمْرِنَا، وَغَيْظاً أَدْخَلُوهُ عَلَى عَدُوِّنَا...» (كامل الزيارات/ ص116)
- وبعد أن انتهى الإمام(ع) من الدعاء والابتهال، قال له رجل من أصحابه: أظن أن من تشمله هذه الدعوات التي سمعهتا منك لن تمسه نار جهنم أبداً! فأجابه (ع): «مَنْ یَدْعُو لِزُوَّارِهِ فِی السَّمَاءِ أَکْثَرُ مِمَّنْ یَدْعُو لَهُمْ فِی الْأَرْض» (كامل الزيارات/ ص117)
الإمام الصادق(ع) يحذّر من ترك زيارة قبر الحسين(ع) مخافةَ أحدٍ أو أمرٍ ما
- ثم قال الإمام الصادق(ع): «لا تَدَعْهُ لِخَوْفٍ مِنْ أَحَدٍ فَمَنْ تَرَکَهُ لِخَوْفٍ رَأَى مِنَ الْحَسْرَةِ مَا یَتَمَنَّى أَنَّ قَبْرَهُ کَانَ بِیَدِهِ، أَمَا تُحِبُّ أَنْ یَرَى اللهُ شَخْصَكَ وَسَوَادَكَ مِمَّنْ یَدْعُو لَهُ رَسُولُ اللَّهِ(ص)؟! أمَا تُحِبُّ أَنْ تَکُونَ غَداً مِمَّنْ تُصَافِحُهُ الْمَلائِکَةُ؟! أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَکُونَ غَداً فِیمَنْ رَأَى وَلَیْسَ عَلَیْهِ ذَنْبٌ فَتُتْبَعَ؟! أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَکُونَ غَداً فِیمَنْ یُصَافِحُ رَسُولَ اللهِ(ص)؟!» (ثوابالأعمال/96).