۹۸/۰۳/۰۷
ما هو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟ (المحاضرة6)
ما هي الخطوة الأولى للاقتناع بالكف عن المحارم؟/ ينبغي أولاً أن تُقرّ بأن "عليك أن تُمَنهج حياتك"/ التأدّب ومراعاة الآداب هو عنوان المنهجَة في السلوك/ المدرسة الابتدائية هي مقرّ التأدّب
-
المكان: طهران، مسجد الإمام الصادق(ع)
-
الزمان: 11/أيار/2019 ـ 05/رمضان/1440
-
الموضوع: ماهو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟
-
A4|A5 :pdf
الخطوة الأولى على طريق إقناع الناس بالتديّن والكف عن المحارم هي أن تنشئ الأفراد على التخطيط، والتدبير، والدقة في السلوك، والتنظيم. وما لم يقتنع المرء بأنه "لا يمكن العيش دون برنامج وتدبير" فسوف لا يؤثر فيه حتى إقناعه بالله عز وجل؛ فهو غير قادر على طاعة هذا الربّ لأنه يشُقّ عليه أن يُؤمَر ويُنهَى!
ما هي الخطوة الأولى لإقناع الناس بالتديّن والكف عن المحارم؟
- ما المراحل التي ينبغي للشخص تخطّيها ليُقنع نفسه بالدين وينخرط في سلك المتدينين؟ يمكننا أيضاً صياغة السؤال بالشكل التالي: كيف السبيل إلى إقناع امرئ بأن لا يذنب؟ ذلك أن محور التديّن هو ترك المعصية! وترك المعصية يشمل أيضاً طاعة الله وامتثال أمره ونهيه، لأن عدم امتثالك لأوامر الله ونواهيه يُدعى ذنباً؛ ومن هنا فإننا نعتبر الذنب محور التديّن.
- الخطوة الأولى على طريق إقناع الناس بالتديّن والكفّ عن المحارم هي أن تُنشئ الأفراد على التخطيط، والتدبير، والدقة في السلوك، و"التنظيم". ويتشابه الأشخاص في مختلف مراحلهم العمرية في أصل هذا الموضوع، لكن من الواضح أن الإنسان في سِنِيِّ صباه أكثر تقبُّلاً، ولذا فإننا نشدد هنا على سنين الطفولة والمراهقة.
علينا أولاً أن نقنع الطفل بأنه: "من المتعذّر إدارة الحياة دون منهج ونظام"
- عليك أن تعمل لدى تربيتك الطفل أثناء أعوامه السبعة الثانية (فترة الابتدائية) على أن يخرج من حالة الحرية وعدم البرمجة التي كان عليها خلال سنواته السبع الأولى، حيث كان دائم اللهو واللعب، وكان ابن ساعته؛ يفعل ما يحلو له ويمتنع عما لا يحلو له.
- لكن يتوجّب عليك، في الأعوام السبعة الثانية من عمر الطفل، أن تُخرجه من هذه الحالة محاولاً إقناعه - في بداية الأمر - بأن "علينا أن نكون مُنَظَّمين، وأن نخطط لنتمكّن من إدارة حياتنا". وأن تجعله يدرك بأن الحياة لا تُدار اعتماداً على الصدفة، بل إننا بحاجة لكسب كل منفعة إلى التدبير والاجتهاد المنظّم.
- إن من المتعذر العيش دونما تدبير! وما لم يقتنع المرء بأنه "لا يمكن العيش دون برنامج وتدبير" فسوف لا يؤثّر فيه حتى إقناعه بالله عز وجل؛ فهو لا يستطيع أن يطيع هذا الرب، لذا تراه يُنزل الله من عرشه – رويداً رويداً – قائلاً: "من قال أصلاً أن الله موجود؟!" فشخص كهذا يشقّ عليه أن يُؤمَر ويُنهَى، لأنه لا يستطيع العيش بالأوامر.
- الجزء الأول من العيش بالأوامر هو أن "يمنهج المرء حياته"، والجزء الثاني هو "أن تتخذ هذه المنهجة صبغة الأوامر". فالذي لم يصبح من الذين يحيون حياة مُمَنهجة وكان دائماً مخلوقاً انفعالياً يحرَّض على القيام بهذا الفعل أو ذاك (فقد يكون فَعَل الكثير لكن بشكل انفعالي) لا يكون متديّناً جيداً.
أول عناصر الأدب هو "السلوك المُمَنهج"
- تكرر في الأحاديث التأكيد على أن الفترة من السابعة حتى الرابعة عشرة من العمر هي فترة تأديب الصبي؛ إذ رُوي عن الإمام الصادق(ع): «دَعِ ابْنَكَ يَلْعَبْ سَبْعَ سِنِينَ وَيُؤَدَّبْ سَبْعَ سِنِين» (من لا يحضره الفقيه/ ج3/ ص492). كما روي عن أمير المؤمنين(ع) قوله: «يُرَبَّى الصَّبِيُّ سَبْعاً، وَيُؤَدَّبُ سَبْعاً، وَيُسْتَخْدَمُ سَبْعاً» (من لا يحضره الفقيه/ ج3/ ص493).
- وللأدب بضعة عناصر، أولها التصرف وفق تعليمات ومنهج. فلم تقل الروايات أعلاه إن على الصبي بين السابعة والرابعة عشرة أن يطيع الأوامر فحسب، بل استعملت لفظة "الأدب"، ما يعني "ضرورة التصرّف وفق منهج"، لأن الأدب هو مجموعة التعليمات التي تنظّم سلوك الإنسان؛ فهناك مثلاً آداب تناول الطعام، وآداب إعداد المائدة، وآداب النوم، ..الخ، وكل هذا يعني ضرورة وجود برنامج.
- الجزء الأول من الأدب هو امتلاك برنامج للحياة. ليس هذا فحسب، بل هو التخطيط للعيش والتفتيش عن منهج! فالذي لم يَعتَد إلى الآن العيش بشكل مُمَنهج فلماذا تحدّثه عن الدين أصلاً؟! شخص كهذا حتى لو أصبح مؤمناً فسوف لا يكون متديناً، أو سيكون متديناً بصعوبة، أو سوف
- لا يلتذ بالتديّن، أو سيتديّن عن "نزوة"، أو سيثير غثيان الجميع من التديّن! أساساً إن معظم تعاليم الدين إنما وُضعَت لتُمَنهج لحياتك!
الأدب هو "السلوك المُمَنهج"
- الأدب يعني "السلوك الممنهج". وإنّ توصيتي لبعض الأصدقاء ممن يديرون مدارس ابتدائية كانت: "ارفعوا مستوى الآداب في المدرسة ما استطعتم". فبالتشديد على "الأدب" تُحَلّ الكثير من المشاكل وتسير عجلة الكثير من الأمور إلى الأمام. فياليت باستطاعتنا تغيير مدارسنا الابتدائية إلى "دور التأديب"؛ أي إن علينا تنشئة أطفال مؤدّبين.
- الإنسان الذي لا يراعي الآداب قد يتبسّم، أو يتواضع، أو قد يتكلم كلاماً جميلاً لكن تصرّفاته هذه انفعالية فتراه يتصرف في كل آن بطريقة ما؛ كأن يعامل الناس برأفة من منطلق النفاق، أو يوقّر الآخرين خوفاً منهم، أو يبذل جهداً طمعاً في التشجيع أو كسب امتياز ما. أما الذي يراعي الآداب فالأمر عنده سيّان؛ سواء أأُثيب على الجهد الذي قام به أم لا. فبما أنه إنسان مؤدب عموماً فهو يفعل ما يفعل من منطلق الآداب؛ كأن يحيّي الآخرين على الدوام دون أن يقيّمهم "فيما إذا كانوا يستحقون التحية أو لا" فهو ليس ماكراً إلى هذه الدرجة! أو أن يأتي بالعمل الصالح ليس خشيةً من العقاب.
- فلكل عمل يقوم به المؤدّب ثمة آداب يلتزم بها، و"منهج" يتقيد به دون أن يطيل الوقوف على نتائجه. فلو أنك أدّبتَ ولدك بهذا الأدب فسيصبح إنساناً ذا تقوى أيضاً، وإلا فمن المستبعَد أن يكون كذلك؛ لأن التقوى هي هكذا؛ وهي أنك حينما تمتثل أمراً إلهياً فإن الله لا يشجّعك ولا يُثني عليك.
ولدي لا يصلّي.. ماذا أصنع؟ هل علّمتَه الأدب؟!
- البعض يشكو قائلاً: "ولدي لا يصلّي.. ماذا أصنع لأجعله يصلّي؟" لكن يا هذا، هل علّمتَ ولدك العنصر الجوهري والحيوي للحياة وهو "الأدب"؟ إذن بأي طريقة أنت تحيا؟! فإنْ كنا نأكل بلا آداب، ونُحيّي بلا آداب، وننام بلا آداب، ونستيقظ بلا آداب، ونمشي بلا آداب، ونلبس بلا آداب، ...الخ فلا ينبغي أن نتوقّع من أولادنا أن يُصلّوا!
- أما إذا استطعتَ أن تنشئ ولدك على الأدب فليس من الصعب على المؤدّب أن يضيف أدباً أو أدبين إلى قائمة آدابه الأخرى. فإنسان مؤدب كهذا سيحترم الآداب مع جاره، وسيراعي طائفة من الآداب في نومه، واستيقاظه، وترتيب حجرته، ..الخ. فإن أضفتَ إليه أدباً آخر، وهو الصلاة، فسوف لا يشق عليه الالتزام به. تقول له: "تأدّب مع ربك!" يقول: "كيف؟" فتجيب: "بأن تقول "الله أكبر" وتبقى ساكناً لثوانٍ، ثم تركع وتسجد... بهذه الصورة!" وهو سيستوعب ذلك وينجزه لأن ذلك ليس صعباً عليه.
- الطفل الذي تثقل عليه الصلاة فإنه يعيش في بيت كأنه لا تراعى فيه الآداب! نعم في هذا البيت رحمة، وفيه غضب، وفيه اعتقاد بالله، وفيه روحانية، ..الخ، لكن ليس فيه أدب!
المدرسة الابتدائية هي مقرّ التأدّب
- لو كنا نُعير الأدبَ أهميةً كبرى لما طالَبْنا بوضع أجهزة تسجيل الحضور والغياب عند أبواب مصانعنا ودوائرنا، فهذه الأجهزة هي بحد ذاتها مَظهَر لعدم الأدب ومؤشّر عليه! لأنها تكشف عن أن هذا الإنسان لم يتربَّ على الآداب وهو لا يدرك أن "أدب العمل هو الحضور في الوقت المحدد!" ولذا فإنهم يلوون ذراعه بهذا الجهاز وبإنقاص راتبه في نهاية الشهر، إذ لولا "هراوة الراتب" المُشهَرة فوق رأسه لما حضر إلى عمله بانتظام!
- المدرسة الابتدائية هي مقرّ التأدّب، هذه من واضحات ديننا. إنها المكان الذي لا يفعل فيه التلميذ ما يحلو له، والذي لا بد لكل تلميذ إذا أراد فِعْل شيء أن يفعله وفق قوانين! والذين يرفعون الآداب من المدارس الابتدائية وكذا السياسيون الذين ينادون بعدم مراعاة الأدب في الأوساط التربوية التعليمية هم مجرمون! ربما يتصورون أن عدم مراعاة الأدب من قبل الطفل في المدرسة يعني سعادته! إنهم يسعون لنسف الأدب ثم يسمّون هذا "مرحاً ونشاطاً!"
الأولوية في المدرسة هي لإشاعة القابلية للتخطيط/ الأدب هو مظهر القابلية للتخطيط
- إن نزاعنا ليس حول الدين، بل نقول: ما من أحد إلا وهو بحاجة في حياته إلى التدبير، فلا بد للتدبير والتخطيط أن يكون جارياً في دم الإنسان. وإنْ أحبَبنا أن يجري التخطيط مجرى الدم في أبنائنا فلا بد أن نُنشئهم مؤدّبين منذ صباهم. ينبغي للطفل في المدرسة أن يتعلّم الأدب، فالأدب مظهرٌ للقابلية للتخطيط للحياة. ولا بد أن تكون الأولوية في المدرسة هي لإشاعة هذه القابلية والإعداد "للعمل وفق برنامج معيّن". فالعمل من دون برنامج ومنهاج هو العمل بانفعالية!
- نعم قد يقوم غير المُراعي للآداب أيضاً بكل ما يقوم به المؤدَّب لكن بشروط: الأول: إنه يقوم بالعمل إذا ما أُرغم عليه أو هُدّد للقيام به! الثاني: يقوم به إذا تم تطميعه بشيء أو ترغيبه وتشجيعه عليه! الثالث: يقوم به إذا كان ثمة معاون أو معلّم يراقبه! إذن الإنسان الذي لا يراعي الآداب يقوم بهذه الأمور أيضاً، لكنه – ولكونه هكذا - يقوم بها استجابةً لأمور معيّنة.
- على المعلمين الموقّرين طوال هذه السنوات السبع (منذ السابعة وحتى الرابعة عشرة) أن يحثّوا الصبيان على التخطيط والبرمجة، لا أن يزوّدوهم باستمرار ببرامج جاهزة. بالطبع، في بداية الأمر حينما يكون الطفل جديداً على المدرسة لا بد أن يزوّدوه هم بالبرامج، لكن يجب أن يبدأوا - شيئاً فشيئاً - بتدريبه على أن يقوم بنفسه بإعداد البرامج وتنفيذها.
الأدب هو عنوان المنهجة في السلوك الاجتماعي/ الآداب الفردية هي عنوان المنهجة في السلوك الفردي
- لماذا يتصرف الكثيرون في هذه المدينة، المُترعة بالإيمان، خلافاً لمقتضى إيمانهم؟ فلربما تجد بين العاصين أيضاً نمطاً من الإيمان نقف نحن طلبة العلوم الدينية عاجزين أمامه! لكن ما الذي يجعل سوق المعصية رائجةً وسلعة الاستغفار كاسدة؟! السبب هو قول المؤمن في ذات نفسه: "إنني لا أطيق العمل بالطاعة ولا أتحمّل ترك المعصية!" أي إنه عاجز عن تنظيم تصرفاته.
- من أجل إقناع الشخص بعدم ارتكاب الذنب لا بد أن نقنعه أولاً بأنه: "لا يمكن العيش دون برمجة ومَنهَجة!" وعنوان هذه المنهجة في نطاق السلوك الاجتماعي هو "الأدب"، وفي حيّز السلوكيات الفردية هو "الآداب الفردية" واسم هذه المنهجة هو "التنظيم"!
- رُوي أن رجلاً سأل أبا عبد الله الصادق(ع): «بَلَغَنِي أَنَّ الاقْتِصَادَ وَالتَّدْبِيرَ فِي الْمَعِيشَةِ نِصْفُ الْكَسْبِ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ(ع): لا، بَلْ هُوَ الْكَسْبُ كُلُّه» (أمالي الطوسي/ ص670)، ثم يُتمّ(ع) حسب الرواية: «وَمِنَ الدِّينِ التَّدْبِيرُ فِي الْمَعِيشَة» أي إن التدبير والتخطيط في المعيشة جزء من الدين.
- هذه هي ركائز الإقلاع عن الذنب. فالإقلاع عن الذنب ليس كله في أن تضع نار جهنم أمام عينَي المذنب وتقول له مهدداً: "أَقلِع عن هذا الذنب!" فإن مَن تشكّلَت روحُه وسط حياة غير مُمَنهجة وأصبح إنساناً انفعالياً لا برنامج له تراه لا ينهض بغير الترهيب والترغيب! ولا يتحرك إلا بالقوة! من هنا فإن شخصاً عديم التخطيط وعديم الآداب كهذا، لا ينهض لأنه لا يُحسن العيش بشكل مُمَنهج. إنه لا يتزحزح من مكانه خوفاً من نار المستقبل، بل بالقوة والركل! إنك تظن أنه لا يؤمن بنار جهنم، والحال أنه يؤمن بها.. فمشكلته هي شيء آخر.
الذين لا تدبير ولا خطة لهم يعيشون بطريقة "المشاريع"!
- الذين لا تدبير ولا خطة لهم يعيشون بطريقة المشاريع؛ أي إنهم يصبّون كل اهتمامهم لمدة من الزمن على موضوع، ثم يتركونه ليصبّوا كل اهتمامهم لمدة أخرى على موضوع آخر. فإذا انشغلوا بعمل ما لم يعودوا يهتمون بوقت الصلاة، وإذا أكَبّوا على الدراسة، فلم يعودوا يُصلّون ولا يعملون! وإذا شغلَتهم التسلية فحدّث ولا حرج! في حين أن لكل من هذه الأمور ساعته ووقته الخاص.
- ولقد قسّم أئمتنا الأطهار(ع) في بعض أحاديثهم ساعات الإنسان. فقد رُوي عن الإمام موسى الكاظم(ع) مثلاً ما مضمونه: اجتهدوا في أن تقسموا زمانكم إلى أربعة أقسام؛ فخصّصوا ساعة لمناجاة الله، وأخرى لكسب المعاش، وثالثة للحوار مع الرفاق والإخوان في الدين (تتجاذبون في هذه المعاشرة أطراف الحديث، وتتناقلون عيوبكم، فتتكاملون، لا أن تتكلموا في التفاهات)،
- وساعة رابعة للَّذّة غير المحرّمة لتفيدوا من هذه الأخيرة في اكتساب الطاقة للساعات الثلاث الأخرى: «اجْتَهِدُوا فِي أَنْ يَكُونَ زَمَانُكُمْ أَرْبَعَ سَاعَاتٍ: سَاعَةً لِمُنَاجَاةِ اللهِ، وَسَاعَةً لأَمْرِ الْمَعَاشِ، وَسَاعَةً لِمُعَاشَرَةِ الإِخْوَانِ وَالثِّقَاتِ الَّذِينَ يُعَرِّفُونَكُمْ عُيُوبَكُمْ وَيُخْلِصُونَ لَكُمْ فِي الْبَاطِنِ، وَسَاعَةً تَخْلُونَ فِيهَا لِلَذَّاتِكُمْ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَبِهَذِهِ السَّاعَة تَقْدِرُونَ عَلَى الثَّلَاثِ سَاعَات» (تحف العقول/ ص409).
ألا يُقلّل التنظيم والتخطيط من لذّة الإنسان؟
- ألا يعمل التخطيط والتنظيم في الحياة على تقليل لذة الإنسان؟ بلى، إنه يقلل بعض لذاته، لكنه يزيد في لذات أخرى أيضاً! كما أنه يحذف بعض آلام المرء ويأتي بآلام جديدة. على أن هذه التي يأتي بها هي آلامٌ تبعث على نشاط عظيم؛ كالألم الذي كان يقاسيه أمير المؤمنين(ع) في فراق الله عز وجل؛ أترى أي ألم جميل هو!
- وما هي الآلام التي تحذفها الحياة المنظّمة؟ إنها الآلام التي بسبب اتساعها وشموليتها لا يحسبها أي امرئ سيئة ولا ينظر إليها أي إنسان على أنها مرض. وما هي اللذات التي تحذفها؟ إنها تحذف بعض اللذات كلذّة الشخص المنصاع للأهواء والنزوات، وهو مما لا يُعَدّ لذة أصلاً! فعن أمير المؤمنين(ع) إن لذة المتقين في الدنيا أعظم من لذة المترفين فيها: «سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ، وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ، فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ... أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُم» (نهج البلاغة/ الرسالة27).
أيمكن جَنيُ لذّة أكبر بالانصياع للأهواء وعدم التنظيم؟
- إن من الخطأ أن تعتقد "أنك تجني المزيد من اللذة باتباع الأهواء، وأنّ عليك أن تكون غير منظَّم لكي تستمتع!" وإنه لتصوّر خاطئ أن يظن الإنسان أنه سيكسب لذة أكبر إذا فعل كل ما يحلو له دونما تنظيم أو خطة! بالطبع من الممكن الالتذاذ باتباع النزوات وعدم التنظيم، لكنها لذة ضحلة سيحلّ محلها حزن أكبر.
- وهل عدم التنظيم فيه لذة؟ أجل، لكن بالنسبة للإنسان المنظّم! فإن أحبّ الشخص المنظّم في أوقات ما أن يخرج عن تنظيمه فسيلتذ أثناء هذه الساعات المحدودة أيما لذة. على سبيل المثال: عندما يخصص المنظَّمون ساعات من يومهم للمرح والتسلية فإنهم سيستمتعون بهذه اللحظات كل متعة.
- الخطوة الأولى على طريق إقناع الإنسان بالتديّن وترك المعصية هي أن يقتنع بالعيش وفق منهاج خاص. على أن علينا بعد هذا أن نخطو بضع خطوات أخرى حتى نصل إلى الكفّ عن الذنب. اِبدأ في الوقت الحاضر بتنظيم نفسك.. اِشرَع في الكف عن المعاصي من هذه الخطوة الصغيرة.. لا تتوقع أن تغدو عارفاً دفعة واحدة.. وما إن تذنب استحضر قباحة عملك وليأخذك الحياء من الله!
لدى إقناع الناس بترك المعصية لا تتعجّل في طرح موضوع الخوف من الله!
- لدى إقناع الناس بالتدين وترك المعاصي لا تتعجّل في إقحام موضوع الله والقول: "افعل هذا وكُفّ عن ذاك مخافة الله!" ففي هذه الحالة سيتصور هذا المخلوق الانفعالي الذي لا يراعي الآداب – الذي عاش دهراً خائفاً من هذا وذاك والذي سئم من حياته – أنك تطلب منه الاستمرار في نفس هذه الحياة الانفعالية!
- إنك تقول له: "افعل هذا الفعل خوفاً من الله!" لكنه يفهمك خطأ ولا يعجبه هذا التعبير، فلقد عاش دهراً حياةً كلها خوف.. لم يذق طعم التنظيم أبداً.. كان انفعالياً أينما حَلّ، وهو يحسبك الآن تقول له: "كن انفعالياً أمام الله!" أما الله فيقول: "كلا، لا تكن انفعالياً أمامي، بل كن مُنظَّماً".
لماذا لا يهدي القرآن غير المتقين؟
- يقول الله عز وجل في مستهل كتابه العزيز: «ذلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب...» (البقرة/2-3). لكن لماذا قُدّمَت التقوى هنا على الإيمان؟ المقصود هنا هو التقوى قبل الإيمان! فما المراد من التقوى قبل الإيمان؟ المراد منها الإنسان الحذر.. الإنسان المتأدب.. صاحب المنهج والتنظيم.. فمثل هذا يؤمن بالغيب!
- هذا الكتاب يهدي المتقين ولا يهدي غيرهم.. إنه لا شك فيه ولا مشكلة لكنه لا يملك هداية غير المتقين، والمشكلة ليست من الكتاب نفسه، بل منهم هم! إذن هو لا ينفع غير المتقين! إنه أمرٌ صادر من الله تعالى أن توضَع هذه الآية في مطلع القرآن الكريم بالذات كي لا يدخله من هَبّ ودَبّ!
- الإنسان الحذر، الذي يمارس حياته بشكل صحيح، والذي يعتمد المنهج في حياته هو إنسان يؤمن بالغيب.. وإن أخبرتَه بأن ثمة غيب، فهو لا ينكره. أما الذي لا يعتمد المنهجة في حياته ولا يعيش بشكل منظم فإنه يرفض كل محاولة من الآخرين لجعله منظَّماً. فالإنسان الانفعالي الذي لا منهج له غير مستعد لأن تضبطه ضوابط، سواء أكانت من الله أم من غيره!