۹۸/۰۳/۰۵
ما هو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟ (المحاضرة5)
لماذا إقناع الإنسان بترك المعصية صعب؟/ الدين لا هو مُرّ ولا صعب، لكنه عميق!/ الفهم العميق للدين محوره أن "أقتنع بأن لا أُذنب"/ الفقه المطلوب لبيان الدين وعرضه على الناس أعمق من الفقه المطلوب لاستنباط الأحكام الشرعية
-
المكان: طهران، مسجد الإمام الصادق(ع)
-
الزمان: 10/أيار/2019 ـ 04/رمضان/1440
-
الموضوع: ماهو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟
-
A4|A5 :pdf
إقناع المرء بالإقلاع عن الذنب أمر صعب لسببين: الأول هو أن الإقلاع عن الذنب يرتبط باحتياج عميق لدى الإنسان وأنت لا تدرك احتياجك العميق هذا بسهولة. والثاني هو أنّ عليك، من أجل الكف عن المعصية، أن تقف بوجه احتياج سطحي من احتياجاتك ليس من السهل عليك غض الطرف عنه، اللهمّ إلا أن تدرك تماماً ما الحكاية لتكون حاضراً للإقلاع عن الذنب.
لماذا يحتاج التديّن إلى كل هذا القَدر من الدعوة والتبيين؟/ علامَ يُتّخَذ الدين هُزواً ويُستهزأ به كل هذا الاستهزاء؟
- لماذا يحتاج التديّن إلى كل هذا القدر من الدعوة، والتبيين، والتعليم، والتفهيم؟ أيقود الدين إلى اعوجاجٍ في الفهم وسوءٍ في التفسير مما يحتّم علينا دوماً إزالة هذا الاعوجاج؟ هل الدين عَصِيّ على التقبّل وإنّ علينا مضاعفة الدعوة إليه ونشر تعاليمه ليصبح متقبَّلاً؟ هل التديّن شديد المرارة وإننا نسعى – عبر التبليغ والتبيين – إلى جعله حلواً وعذباً؟ لماذا يتطلب تبليغ الدين وتعليمه كل هذه الجهود؟ لِمَ يتحتّم علينا إنفاق كل هذا الوقت لنقتنع بالتديّن؟
- من ناحية أخرى، لماذا يُتّخَذ الدين – أكثر من أي مقولة أخرى – هُزواً ويُستهزَأ به في المجتمعات البشرية؟ وهو الأمر القائم منذ الأزل والذي أشار إليه القرآن الكريم مراراً وتكراراً. لماذا الهجوم على التديّن شرس إلى حد بعيد؟ ما الذي يدعو البعض إذا سمع كلاماً دينيّاً إلى السخرية منه بكل بساطة، بل وقد يتّهم المتدينين بأنهم جَهَلة لا عقل لهم؟
الدين بحاجة إلى بيان لأنه عميق الغور/ العقول الضحلة لا تفهم الدين فتسخر منه
- الجواب على السؤالَين أعلاه واحد وهو أن احتياج الدين إلى كل هذا التبليغ والتبيين يعود إلى أن الدين عميق الأغوار، لا يأخذ بنظر الاعتبار حاضر الإنسان فحسب، بل مستقبله أيضاً. فالإنسان مخلوق خالد يرمي بطرفه إلى ما لا نهاية، وهو لا يرى أغلب حاجاته المستورة، أما الدين فيراها، ولهذا تراه يطرح خطاباً لا يدركه الإنسان، بل وقد يسخر منه أيضاً.
- إن تعاليم الدين عميقة ومعقدة إلى أبعد الحدود وقد تبدو للسطحيّين مثيرة للسخرية؛ ذلك أن العقول الضحلة الصغيرة التي لا تبصر إلا الظواهر لا تدرك تعاليم الدين، وهي لذلك قد تراها غير عقلائية، بل وتعتبرها مضرّة بالبشر! فقد ينبري مثلاً بعض الجُهّال قائلين عن الصوم: "الامتناع عن شرب الماء 12 ساعة يضرّ بالبدن!" في حين تقول جماعة من الأطباء الأجانب بعد سنوات من البحث والدراسة: "لقد أجرينا دراسة على الموضوع فوجدنا العكس؛ وهو أن الصوم مفيد للبدن أيما فائدة ومن الخطأ تماماً القول: إن الامتناع عن شرب الماء 12 ساعة يضرّ بالبدن!"
الإنسان مخلوق عميق الأغوار له احتياجات خفية معقدة ولهذا فإن الدين عميق الغور أيضاً
- تعاليم الدين إنما صُمّمَت للإنسان، وبما أن الإنسان مخلوق ذو أغوار عميقة جداً وله احتياجات معقدة خفية فحينما يأتي الدين محاولاً تلبية هذه الاحتياجات فإنه لا يُدرَك بسهولة، ومن هنا يتعيّن على المرء التأمّل في الدين طويلاً لإقناع نفسه به.
- البعض، مع الأسف، يعرض الدين بشكل يترك انطباعاً بأنه شيء سطحي وبسيط جداً! في حين أن الإنسان بحاجة إلى جهد كبير ليستوعب الدين بعمق ويقتنع به حق الاقتناع. فالدين أمرٌ ينُمّ عن ذكاء كبير، ولذا ترى الأذكياء متدينين.. وسيأتي يوم على المجتمع البشري يقول فيه الناس إذا رأوا متديّناً: "ما أذكاه من إنسان!" وإذا شاهدوا غير متديّن: "أيّ جاهل هذا!" هذا الأمر غير متعارف في ثقافتنا الحالية على الإطلاق، في حين أنه منطق القرآن إذ يقول: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُون» (البقرة/13)؛ فالذين لا يؤمنون ينعتون المؤمنين "بالسفاهة والجهل!" فيرد الله عليهم: "إنهم هم السفهاء والجهال. كما يقول عز من قائل في موضع آخر: لا يرغب عن هذا الدين إلا الجاهل: «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَه» (البقرة/130).
- لقد فشلنا إلى الآن في إيصال المجتمع إلى قناعة بأنه: "بما أن الدين عميق الأغوار فقد يظل منعزلاً؛ شأن العاقل الذي يعيش وسط السفهاء، إذا يظل - عادةً - وحيداً لا يعي الناس ما يقول، بل ويسخرون منه!"
لماذا ينبغي لمن يريد ممارسة الدين أن يفهم الدين بعمق؟
- لماذا ينبغي لمن يريد ممارسة الدين أن يفهم الدين بعمق؟ السبب هو أن خطاب الدين خطاب عميق وهو يتعارض مع بعض احتياجات الإنسان السطحية والابتدائية. فإن أراد الإنسان الاقتناع بقضية التديّن فسيكون بحاجة إلى جهد فكري عميق. إذن الدين – أولاً – يلبي احتياجات الإنسان العميقة، فإن لم تلمس هذا النمط من احتياجاتك لم تشعر بالحاجة إلى الدين. والدين – ثانياً – قد يجابه بعض احتياجاتك السطحية قائلاً: "تخلَّ عن احتياجك هذا فهو ليس مُهمّاً في الوقت الحاضر"، لكنك لا تتخلّى عن هذه الاحتياجات، فيبدأ الصراع.
- لهذا بالذات نحن بحاجة - إذا أردنا أن نتديّن - إلى فهم عميق للدين وإلا فسوف لا نقتنع به. وكل إنسان هو بحاجة إلى مثل هذا الفهم العميق للدين؛ فلا تتصورَنّ أن بالإمكان تحويل الدين إلى طائفة من القضايا الثقافية (كتقاليد النوروز مثلاً) لعلاج هذه المعضلة إلى الأبد! فمشكلة الدين هذه لا تُحَلّ (بهذه الطريقة) على الإطلاق؛ لأن على كل فرد أن يصل إلى هذه القناعة.
على كل إنسان ليكون متديّناً أن يبلُغ هذه القناعة بمعزل عن غيره
- لا يمكن للدين أن يتحول إلى ثقافة. نعم من الممكن لأجزاء من الدين أن تتحول إلى عادات؛ كارتداء الثياب السود في شهر محرم، ...إلخ، غير أن ذلك القسم من الدين الذي لا يتحول في الغالب إلى ثقافة، والذي يتعيّن فيه على كل شخص أن يقرّر على انفراد كيف يتديّن، هو قسم الطاعة والمعصية.
- الكثير من أنماط السلوك إذا تحولت إلى ثقافة مارسها الجميع، أما الدين فليس هو كذلك. من هنا فإنه يتعين على كل من يحب أن يكون ذا دين أن يُوصل نفسَه إلى هذه القناعة بمعزل عن الآخرين. على سبيل المثال: فائدة الترفيه عن النفس والاستفادة من الطبيعة أيام النوروز (الربيع) معلومة وملموسة للناس كافة، ولذا ترى الجميع يستفيد من الطبيعة في هذه الأيام وليس ثمة حاجة إلى المبالغة في توضيح هذه الفائدة للناس وإقناعهم بها.
- يضعك الدين كل عام أمام ظاهرة اسمها الصيام وشهر رمضان المبارك. ولشهر رمضان – أولاً – أثر عميق، لكن من المتعذّر علينا إدراك طبيعة هذا الأثر بسهولة كي نحب الصيام! ثانياً: حين يقال: "تخَلَّ عن احتياجك السطحي الابتدائي هذا – وهو الأكل والشرب – لفترة معيّنة!" فإن كل إنسان يرغب في الامتناع عن الأكل والشرب سيدخل في صراع وهو، لهذا، بحاجة إلى فهم عميق ليقتنع بالصيام. من هنا فإن الصيام لا يتحول بهذه البساطة إلى ثقافة، وهو ليس مما يقبله الجميع ويمارسه عن طيب خاطر؛ أي إنه ليس كتقليد "النوروز" الذي يقبله الكل ويمارسه بكل سهولة.
الدين لا هو مر ولا صعب، لكنه عميق!/ عليك أن تُقنع نفسك بعُمقِ الدين كي تسهُل عليك ممارسته
- لماذا يتحتم علينا إنفاق كل هذا الوقت لنقتنع بالتديّن؟ هل التديّن شديد المرارة وإننا نسعى – عبر التبليغ والتبيين – إلى جعله حلواً وعذباً؟ الدين لا هو مر ولا صعب؛ لكنه عميق! فالدين ليس أمراً شاقاً لا يمارسه إلا جماعة خاصة أو نمط معيّن من الناس.
- فلا يسعنا القول بأن الدين صعب، بل هو سهل، لكنه عميق! وإنك حينما تدرك الشيء العميق يصبح سهلاً عليك. وعلى من أراد التديّن أن يقنع نفسَه بعمق الدين هذا كي يسهل عليه ممارسته. ومن هنا فإن فهم الدين، بالمعنى الحقيقي للكلمة، يحتاج إلى جهد.
لماذا إقناع الإنسان بترك المعصية صعب؟
- عندما نتحدث عن "فهم الدين" فإن أغلب التعاليم الدينية المُعطاة في المدرسة والجامعة غير مقصودة هنا! بل مرادنا من فهم الدين هو "اقتناع الإنسان بأن الفعل الفلاني ذنب ولا يجوز إتيانه!" وإنّ إقناع الإنسان بهذا أمرٌ صعب أيضاً لسببين: الأول هو أن الإقلاع عن الذنب يرتبط باحتياج عميق من احتياجاتك وأنت لا تدرك احتياجك العميق هذا بسهولة. والثاني هو أن عليك، من أجل الكف عن المعصية، أن تقف بوجه احتياج سطحي من احتياجاتك ليس من السهل عليك غض الطرف عنه، اللهمّ إلا أن تدرك تماماً ما الحكاية لتكون حاضراً للإقلاع عن الذنب.
- "لماذا لا يجوز لي ارتكاب هذه المعصية؟" إقناع الإنسان بترك معصية أمر صعب؛ لأنها قضية عميقة. إذن الدين ليس صعباً، لكنّ العمق الذي فيه يجعل إقناع المرء بالتديّن والكف عن الذنب شاق. فإن أدركنا هذا العمق فسيسهل علينا التديّن، بل وسيكون جذاباً أيضاً. ولقد اُطلق في الآيات والأحاديث على "الفهم العميق للدين" مصطلح "الفقه"، ففقهُك للشيء هو "فهمُك العميق له"، وليس مجرد علمك به واطلاعك عليه! فالفقه ليس علماً سطحياً، وهو لا يتأتّى بالإخبار، بل هو معرفةُ الطبقات الباطنية للحقيقة التي لا تبدو بشكل ظاهر.
محور الفهم العميق للدين هو "اقتناعي بالكف عن الذنب"
- روي عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: «لا يَسْتَكْمِلُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى تَكُونَ فِيهِ خِصَالٌ ثَلَاثٌ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ، وَحُسْنُ التَّقْدِيرِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الرَّزَايَا» (تحف العقول/ ص324)؛ أي أولاً: أن يمتلك فهماً عميقاً للدين، وثانياً: أن يتمتع بحسن التدبير وكسب المال والعيش عيشاً جيداً (أي إنّ هذا يمثل ثلث الطريق إلى كمال الإيمان)، وثالثاً: أن يصبر عند الشدائد.
- أنْ يزوّدوك بلائحة بالمعاصي وأخرى بالحسنات، فهذا ليس فَهْماً عميقاً للدين!... أن تتعلّم الرسالة العملية فحسب، فهذا فَهمٌ سطحي للدين!... أما الفهم العميق للدين فمحوره هو "أن أقتنع بأن لا أُذنب". واللافت هو أن معظم الآيات القرآنية تصب في هذا الوادي؛ وهو إقناعنا بعدم المعصية! فالآيات التي تتحدث عن الأحكام الدينية لا تزيد عن مائة آية، في حين أن ما يزيد على ستة آلاف آية قرآنية هدفها إقناعنا بالتديّن!
- روي عن الإمام الباقر(ع) قوله: «لَوْ أُتِيتُ بِشَابٍّ مِنْ شَبَابِ الشِّيعَةِ لا يَتَفَقَّهُ لأَدَّبْتُهُ» (المحاسن/ ج1/ ص228). وفي رواية أخرى: «لأَوْجَعْتُه» عوضاً عن «لأَدَّبْتُه»؛ أي لضربته وعاقبته حتى اُوجِعَه!
- لماذا ينبغي لكل شاب أن يتفقه في الدين؟ لأن على كل شاب أن يقتنع على حِدَة بأنه: "لماذا لا يجوز لي أن أُذنب؟" ولمّا كانت هذه المسألة معقدة فإن على الشاب أن يتحول إلى عنصر متعمق ليقتنع بهذا. فمهما أتيتَ النفسَ الأمّارة بالدليل أفلتَت منه متذرّعة بذريعة، لذا لا بد أن تكرّر عليها الدليل تلو الدليل وتحاصرها حتى تستسلم وترضخ. فإن على كل امرئ أن يقوم بجهد فقهي لكي يقتنع بأنه: "لماذا لا يجوز لي أن أذنب؟ بل – أساساً - لماذا أصدر الله الأوامر وجعلَ الذنب والثواب؟"
قولنا: "على الشاب أن يتفقّه في الدين بعمق" يعني أن يفهم بعمق: "لِمَ لا يجوز لي أن أذنب؟"
- قولنا: "على الشاب أن يتفقّه في الدين بعمق" لا يعني أن يُزوّدوه بطبقة سطحية من المعلومات الدينية أو بمعلومات دينية سطحية ليحفظها!" كلا.. بل عليه أن يفهم الدين بعمق، والمصداق الأفضل والأهم لفهم الدين بعمق هو أن يفهم بشكل عميق "لِمَ لا يجوز لي أن أُذنب؟" فإن لم يدرك هذا كان كل ما يدركه فرعياً!
- وإن كان جوابه على سؤال: "لِمَ لا يجوز لي أن أُذنب؟" هو: "لأن الله أمرني بهذا وإن لم أمتثل فإن مصيري نار جهنم!" فهذا ليس فهماً عميقاً! ولا أحد يقتنع بهذا الكلام ببساطة! وإنِ اقتنعَ به أحد فسأشك باقتناعه وأقول: "يوماً ما سيفرّ هذا الشخص من التديّن!"
- الذي يُقنع نفسه بالتدين وترك المعصية دونما تفقّه وعبر بضع أدلة سطحية وحسب فلا بد أنه يعاني من مشكلة، مع أنه قد لا يدرك هو هذا. فقد يكون تأثّر بالمحيط! وشخص كهذا سيسقط أثناء الغربلات الإلهية! كأن يضع الله في طريقه شخصاً سيّئ التديّن (شخصاً ذا ظاهر ديني) فينقل له انطباعاً سيّئاً عن التديّن مما يؤدي إلى خروجه من الدين.
- أول أو أهم موضوع في عملية الفهم العميق للدين هو: "لماذا لا يجوز لي أن أذنب؟ ولماذا يأمرني الله؟ ولماذا يجعل الجنة والنار جزاءً لأعمالي؟" على أن الإنسان، وبعد اقتناعه بالتقوى والسلوك الديني بعمق، قد يرتكب إثماً، وعلاج هذا الإثم الاستغفار. أو قد يخاطب ربه أن: "إلهي، إنني مقتنع بهذا الطريق، لكنه شاقّ عليَّ" وسيمدّ الله له يد العون. بل إنه – أساساً - سيعيش حياةً أخرى؛ حياةً تسليته فيها هي عقدة العلاقة بينه وبين مولاه.. وعقدة العلاقة بين العبد والمولى تكمن في قول الأول: "إلهي، اغفر لي إذ عصيتُك هنا..".
للأسف نحن الحوزويين ضعفاء في بيان الالتفاتات الاستراتيجية للدين
- لماذا نحن بحاجة إلى توضيح الدين؟ لأن الدين قضية عميقة وإن على كل إنسان على حدة أن يدرك هذا العمق. ولماذا يسخر البعض من الدين والتديّن؟ لأن الدين عميق وإن من دأب أصحاب العقول الضحلة والنظرة السطحية أن يتخذوه هزُواً. وللأسف فإن الحوزة العلمية قد تعاملَت بضعف مع مسألة تبيين وتبليغ هذا الدين - العميق جداً - لتلبية حاجات المجتمع المعاصر.. إننا معاشر طلبة العلوم الدينية ضعفاء!.. نحن عاجزون حتى عن الدفاع بشكل جيد عن بعض الأحكام البسيطة، وغير قادرين على إيصال الناس إلى قناعة بهذا الخصوص!
- إننا معشر طلاب الحوزة نشكو ضعفاً في عملية عرض الدين، خصوصاً ما يتصل بأشد التفاتاته الاستراتيجية حساسيةً، وإلا لما شهدنا كل هذا الابتعاد عن الدين! فما زال في المجتمع من يُجيز لنفسه الاستهزاء ببعض أحكام الدين؛ والسبب هو أنه شخص سطحي، وأننا نفتقد العمق في الخطاب.. بكل بساطة!
أيُّ جزء من الدين يتحتم علينا فهمه بعمق؟
- يروى عن أبي عبد الله الصادق(ع) قوله: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْراً فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ» (الكافي/ ج1/ ص32). لكن أي جزء من الدين يتحتم علينا التفقّه فيه وفهمه بعمق؟ الجواب: ذلك الجزء الذي يسعى القرآن الكريم لإقناعنا به، وهو: "ضرورة امتلاكنا الدافع للكفّ عن المعصية". فعلى كل فرد منا الاقتناع بهذا بقوة لكي يقف بثبات ويستريح من شر الذنوب.
- إنّ عليَّ أن أقتنع بقوة بأن في المعصية ضرر لي، وأنّ الله قد أحسنَ صنعاً تماماً إذ وجّه إلَيَّ الأوامر، وهدّدني بنار جهنم، وجعل لي الجنة، ولم يُرني آثار بعض الأعمال والذنوب فوراً وذلك ليجعل منّي إنساناً متعمّقاً ومُدقّقاً.. إنساناً يدرك الدين بعمق، كي يحبه بعمق!
- روي عن الإمام الكاظم(ع) أنه قال: «مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِهِ لَمْ يَرْضَ اللهُ لَهُ عَمَلاً» (تحف العقول/ ص410)؛ إذ سيقول سبحانه: "لِمَ يقوم بهذه الأعمال وهو لا يفقه شيئاً!" أنظروا إلى ديننا المنير للفكر هذا.. كم هو غريب! وإذا بثلة من أشباه التنويريّين وأنصاف المثقفين الجهلة يسخرون منه!
الفقه المطلوب لبيان الدين وتقديمه للبشر أعمق من الفقه المطلوب لاستنباط الأحكام الشرعية
- يصرّح القرآن الكريم بأن من الواجب على البعض التفقه في الدين: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون» (التوبة/122)؛ أي إنه من الواجب على جماعة من الناس أن يطلبوا العلم ويصبحوا فقهاء ويرجعوا إلى قومهم، لا لكي يتحدثوا في مسائل الأحكام فحسب، بل لينذروا قومهم ويقنعوهم بالتديّن!
- وكما قد سلف فإنّ أهم موضوع يتعيّن علينا فهمُه بعمق هو: كيف نقنع أنفسنا بالتديّن؟ واستناداً إلى الآية أعلاه فإنه يتوجب على طائفة من الناس أن يتفقّهوا في الدين كي يتعلموا كيف ينذرون الناس؟ فالسؤال عن كيفية إنذار الناس، يتطلب فقهاً. لكن ثمة في حوزاتنا العلمية، للأسف، مَن يظن بأن الإنذار ليس بحاجة إلى فهم الدين (أي الفقه)، بل يكفي له مجرّد إجادتك الكلام والبيان! في حين أن هذا الأمر بحاجة إلى علم، وهو لا يحصل بمجرد التفنّن، وحكاية القصص، وإلهاء الناس!
- إنّ الفقه المطلوب لتبليغ الدين وبيانه وعرضه على الناس أعمق بكثير من ذلك المطلوب لاستنباط الأحكام الشرعية. فاستخراج حكم فقهي من الدين هو علمياً أوطأ مرتبة من إدراك مداليل الكثير من الآيات القرآنية التي بإمكانها إقناع شخص بالتدين! يقول سماحة آية الله جوادي الآملي في تفسير قوله تعالى: «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ»: "ما لم يتمكن المرء من إنذار الآخرين ويعمل على ما يحرّض النفوس ويجعلها تكفّ عن المعاصي فهو ليس بفقيه!"