۹۸/۰۲/۲۸
ما هو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟ (المحاضرة2)
الخطوة الأولى على طريق معرفة الذنب هي أن نعرف "أن الذنب يضر بنا نحن". / يتصور البعض أن المعصية لا تضر به هو، بل تُغضب اللهَ فحسب! / ثلاثة دواعٍ لإصرار الله الشديد على ضرورة كفّنا عن المعاصي.
-
المكان: طهران، مسجد الإمام الصادق(ع)
-
الزمان: 07/أيار/2019 ـ 01/رمضان/1440
-
الموضوع: ماهو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟
-
A4|A5 :pdf
ما الذي يجعلنا لا نستمتع بالقدر الكافي من تديّننا؟!
- ينبغي للتديّن أن يتجلى بصورة يكون معها جذاباً، ومسلّياً، ومثيراً، ومنشّطاً للإنسان. وليس المقصود من هذا أنه لا بد أن يكون الدين هكذا للجميع؛ فالذي لم يشتغل على نفسه قيد شعرة ولم يجعل لنفسه أي قيمة إضافية لا يكون لدينه تلك القيمة الكبيرة حتى وإن كان مسلياً وممتعاً بالنسبة له. أما إذا أوجَد الإنسان لروحه وفكره قيمة مضافة فلا بد أن يلتذ بتديّنه ولا بد أن يكون الدين بالنسبة له مثيراً باعثاً على النشاط.
- لماذا لا نصيب من حياتنا اللذة الأوفر؟ نحن الذين نسعى لممارسة الدين لِمَ لا نجني من تديّننا القدر الكافي من المتعة، ومن ثم ترى أفئدتنا تهفوا لنمط حياة اللادينيين؟! لماذا لا يتحسر غير المتدينين على حياة المتدينين؟! مع أن القرآن الكريم يصرح بأن الكفار يودّون لو يخرجونكم من إيمانكم من فرط حسدهم لكم: «وَدَّ كَثيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم» (البقرة/109).. مَن الذي يحسدونه عادةً؟! إنهم يحسدون الذي يعيش في لذة أكبر!
أحد العوائق أمام استمتاعنا بالدين فهمُنا الخاطئ له
- التدين مثير ومُسَلٍّ، كل ما هنالك أن علينا أولاً أن نبذل بعض الجهد لنفتح لأنفسنا باب الاستمتاع بالدين. علينا أن نكتشف ما الذي يجعلنا لا نجني من تديّننا القدر الكافي من اللذة؟
- أحد عوائق استمتاعنا بالدين هو ما نحمله عنه من تصورات خاطئة وفهم مشوّه تولّد لدينا لأي سبب كان؛ فإما أنهم لم يعلّمونا الدين بصورة صحيحة، أو أننا ممن عندهم مشكلة مع الدين؛ قد سمعنا عنه أقاويل، وصدقناها. وإن علينا تصحيح هذه التصورات كي نتمكن من الالتذاذ بالدين. هذه التصورات الخاطئة إما أن تتصل بالدين عموماً، أو أن ترتبط ببعض أجزائه.
من المواضيع التي نحمل عنها فهماً خاطئاً موضوع الذنب
- من المواضيع التي نحمل عنها تصوّراً خاطئاً وتشغلنا باستمرار هو موضوع الذنب. ما المراد من الذنب؟ وما الحكمة من بروز مفهوم اسمه "الذنب"؟ ولماذا وُضع العذاب عقاباً للمذنب؟
- مفهوم الذنب هذا هو من عجائب عالم الخلقة! فإنني أرتكب خطأ يضرّني أنا، لكن الله يتدخل قائلاً: "لقد عصيتني!" يجب أن نتأمل في أنه ما الذي يجعل الله يدخل في هذه القضية ويطلق على خطئنا - الذي يحيقُ ضررُه بنا نحن - اسمَ الذنب والعصيان، ويُدخِلنا في تماس مباشر معه؟!
الخطوة الأولى على طريق معرفة الذنب: لنعرف "أن الذنب خطأ يضرّ بنا نحن"
- لا يحمل الناس فكرة صحيحة تماماً عن المعصية؛ فهم يتصورون أنها لا تضر بهم، وأنهم بمعصيتهم إنما يُغضبون الله فحسب! وهذا فهم بعيد عن الصواب. العجيب في قضية الذنب هو أنني أضر نفسي بارتكابه لكن الله يسميه "ذنباً" وأنه عصيان له هو، ويستاء مني بسببه!
- ولكي نتعرف على الذنب جيداً علينا – كخطوة أولى – أن نعرف أنه خطأ يرتكبه الإنسان فيضر به هو وأنّ له، في هذا العالم المنظّم إلى أبعد الحدود، آثاراً سلبية تلحق بفاعله بطبيعة الحال. فلو أدرك المذنب هذا للَجَأ إلى الله متوسلاً: "إلهي، «ظَلَمْتُ نَفسِي» (دعاء كميل بن زياد النخعي) فلا تدع آثار هذه الخطيئة تحيق بي!"
يتصور البعض أن المعصية في نفسها لا تضرّ به هو، بل تُغضب الله فحسب!
- يتصور الكثيرون أن المعصية، في حد ذاتها، ليست قبيحة وهي لا تشكل خسارة لهم، إنما هم يُغضبون الله باقترافها فحسب! وهذا فَهْم خاطئ للمعصية لا بد أن يتغير. كما يظن كثيرون أيضاً أن المؤمنين قد عاهدوا الله على أن لا يعصوه، فإن صدَر منهم تصرف خاطئ، سُمّي هذا التصرف "ذنباً!" أما خارج نطاق الدين فهذا التصرف – في نفسه – لا هو خاطئ ولا هو ضارّ بصاحبه!
- لكن إصبعي، سواء أكنتُ داخل الدين أو خارجه، ستنفصل عن يدي إن قطعتها بسكين أو ساطور وسأتألّم، وليس لهذا أي صلة بالدين والإيمان. فلا ينبغي أن نتصور أن الذنب يرتبط باختيارنا فيما يتصل بالعقيدة والإيمان، وأن المعتقدات أمر ذوقي وروحي اختاره البعض، فإن لم يكونوا معتنقين لدينٍ ما فسيكونون في مأمَن من شر مفهوم اسمه "المعصية"!
الذنب هو خطأ يصدر من الإنسان ويُلحق به ضرراً، سواء أكان متديناً أم لم يكن!
- الخطوة الأولى هي أن نعلم أن الذنب فعلٌ يضرّ بنا نحن. ليت المجتمع يقتنع بأن "الذنب هو خطأ يصدر من الإنسان ويُلحق به هو ضرراً، سواء أكان متديناً أو لم يكن!" يا ليتنا كنا قد أقنعنا أطفالنا في المدارس منذ البداية بأن "إضرار المرء بنفسه أمر بذيء! وأن تفريط الإنسان بمصالحه شيء قبيح!"
- روي عن أمير المؤمنين(ع) قوله: «لَوْ لَمْ يَنْهَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَنْ مَحَارِمِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَجْتَنِبَهَا الْعَاقِل» (غرر الحكم/7595) لأن العاقل يعلم أن في ارتكابها خسران له.
- وروي عن رسول الله(ص) أنه قال: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ؛ يَعْنِي أَنَّهُ يَكُفُّ ذَا الدِّينِ وَمَنْ لا دِينَ لَهُ عَنِ الْقَبِيحِ، فَهُوَ جِمَاعُ كُلِّ جَمِيل» (وسائل الشيعة/ ج12/ ص168). لا دخل للحياء بالدين؛ فإن كنتَ ذا حياء فسوف لا تفعل القبيح، ولذا فسوف لا تتضرر، وهذا مطلوب للجميع. أما الدين فيأتي هنا ليؤكد على كل ما هو مفيد وضروري للإنسان.
- فعن رسول الله(ص) أيضاً أنه قال: «مَنْ تَرَكَ الْخَمْرَ لِغَيْرِ اللهِ سَقَاهُ اللهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ. فَقَالَ عَلِيٌّ(ع): لِغَيْرِ اللهِ؟! قَالَ: نَعَمْ وَاللهِ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ، يَشْكُرُهُ اللهُ عَلَى ذَلِك» (من لا يحضره الفقيه/ ج4/ ص353)؛ أي من ترك شرب الخمر ليس لوجه الله، بل لبواعث بعيدة عن الله (لأي سبب كان؛ كأن يكون عرف مضارّها له) فسيسقيه الله من مشروبات الجنة! لماذا؟ لأنه حفظ نفسه والله يفرح حين يحفظ الإنسان نفسه من الأضرار.
لماذا دخل الله بنفسه في قضية الذنب وهو يُصرّ كل إصرار لنكف عن المحارم؟
- الذنب فعلٌ يُلحق بنا ضرراً، والله يستاء إن فعلنا شيئاً يضُرّ بنا، ويفرح إن قمنا بعمل ينفعنا. لكن المؤسف أنّ "الله" لم يتم تقديمه للناس بهذه الصورة.
- السؤال هو: لماذا دخل الله بنفسه وبكل قوة في موضوع المعصية، بل إنه يهدد بالعذاب، ويصرّ علينا بالكَفّ عن المحارم؟ إلى درجة أن بإمكاننا القول، إذا صح التعبير: إن عقدة قصة الله مع عباده في القرآن الكريم هي موضوع الذنب.. حول ارتكاب الذنب وعدم ارتكابه! فلقد بعث الله الرسُل، وجاء بأئمة الهدى، وأنزل القرآن من أجل هذه العقدة المهمة المتمثلة بالذنب، وهو أنه "لا يجوز لنا أن نمارس ما يُلحق بنا الضرر!"
العقدة الرئيسة في القرآن هي المعصية
- إن العقدة الرئيسة في القرآن الكريم هي الذنب والكفّ عن المحارم. حتى أثناء خوضه في مواضيع من مثل الكفر والإيمان، أو الشرك والتوحيد يكون موضوع المعصية حاضراً أيضاً؛ لأن الشرك أكبر الذنوب، وأن الكفر ذنب بحد ذاته. وإنْ تكلم عن الإيمان، فالإيمان ذو القيمة في نظر القرآن هو الذي ينهَى عن المنكر ويكون سبباً لحسن السلوك؛ أي السلوك الذي يصب في صالح صاحبه. إذن في وسعنا أن نقول: القرآن كتاب يبحث في موضوع الذنب.
- لماذا يشدّد الله تعالى كل هذا التشديد على كفّنا عن المعاصي؟ ولقد أجبنا على هذا السؤال في المحاضرة السابقة إجمالاً وقلنا: بسبب محبة الله لعباده؛ فهو تعالى من فرط محبته لنا يشدد على ضرورة عدم اقترافنا الذنوب وعدم إنزالنا الضربات بأنفسنا. فهل نحن مصدّقون أن الله رؤوف رحيم إلى هذا الحد؟
الداعي الأول لإصرار الله على كفّنا عن المعاصي هو "أننا لا نبالي بما ينفعنا ويضرنا"
- لماذا يسمي الله تعالى الخطأ الذي أرتَكِبُه أنا تجاه نفسي "ذنباً"، ويحدد له أوامر، ويعيّن له عقاباً وثواباً؟ الجواب الإجمالي لهذا السؤال هو "محبة الله المفرطة تلك تجاه عباده". على أننا إذا أردنا الإجابة مفصلاً قلنا: الداعي الأول لهذا هو أن الناس لا تعرف ما ينفعها وما يضرها، أو أنها تعبث بمصالحها ولا ترى الاهتمام بها أمراً جاداً! أي ليس كل من نقول له: "هذا الأمر ينفعك جداً" أو: "ذاك الفعل يضرك كل ضرر" فإنه سيصغي إلينا ويجتنب ما فيه ضرره!
- فعن الإمام الصادق(ع) قوله: «وَلَوْ كَانَ الإِنْسَانُ إِنَّمَا يَصِيرُ إِلَى أَكْلِ الطَّعَامِ لِمَعْرِفَتِهِ بِحَاجَةِ بَدَنِهِ إِلَيْهِ وَلَمْ يَجِدْ مِنْ طِبَاعِهِ شَيْئاً يَضْطَرُّهُ إِلَى ذَلِكَ كَانَ خَلِيقاً أَنْ يَتَوَانَى عَنْهُ أَحْيَاناً بِالثِّقْلِ وَالْكَسَلِ حَتَّى يَنْحَلَ بَدَنُهُ فَيَهْلِك» (توحيد المفضل/ ص75)؛ أي إن الكسل مستَشرٍ في الناس إلى درجة أن الرجل إذا لم تؤلمه معدته من الجوع وتدفعه إلى الأكل فإنه لا يفتش عن الطعام حتى يهلك!
- انظر ماذا يصنع الركون إلى الراحة بالبشر؟! فما لم يُصِب أجسامَهم ألمٌ أو لذة شديدة فإنهم لا يحرّكون ساكناً حتى من أجل منفعتهم أو اجتناب مضرتهم! فماذا عسى الله يصنع مع عباد كهؤلاء؟ من هنا تراه عز وجل يدخل بنفسه في صلب الموضوع فيوجّه إلينا الأوامر، ويفرض العقاب والثواب، ويشرّع الحلال والحرام كي نتصرّف بما فيه نفعنا!
- فالداعي الأول الذي يجعل الله يبدّل الفعل - الذي هو في الأساس لصالحنا - إلى "فرضٍ ديني" ويعيّن له ثواباً، وعقاباً قاسياً هو أنه إذا ترك الإنسان وشأنه فإن الأخير - وبسبب تكاسله وتقاعسه - سوف لا يفتش عن منفعته، بل وقد لا يدرك أين يكمن نفعُه؟
الداعي الثاني: نحن في الغالب لا ندرك مصالحنا الطويلة الأمد
- الداعي الثاني هو أننا في كثير من الأحيان لا نرى حتى المصالح القصيرة الأمد التي في متناول أيدينا، ومن هنا يرى الله تعالى نفسه – وحسب تعبيرنا الدارج – مُجبَراً على إصدار الأوامر علّنا نتزحزح بأوامره! فكيف لنا – والحال هذه – أن نرى مصالحنا الطويلة الأمد؟! ولأننا لا ندرك مصالحنا الطويلة الأمد لم يكتف الله - من أجل بلوغنا إياها - بإرشادنا بل أخذ يأمرنا بها ويحدد الثواب والعقاب عليها؛ إذ من الصعب أن يتولد لدى المرء الدافع لتأمين مصالحه القصيرة الأمد، فما بالك بتلك الطويلة الأمد!
- ولا تختلف طبيعة الداعي الثاني عن الأول، لكننا أكثر ما ركّزنا ضمن الداعي الأول على المصاديق التي تمثل مصالحنا الآنية والعينية؛ بمعنى أننا لا نرى حتى مصالحنا الشخصية الآنية ولا نتحرك لصيانتها فما بالك بإقلاعنا عن السلوكيات المناهضة لهذه المصالح! أمّا الداعي الثاني فيتصل بتلك المصالح الطويلة الأمد التي لا نجد الدافع لتأمينها أبداً إلا بأمر من الله عز وجل!
الداعي الثالث: إن الله استثمر فينا حس العبادة كي لا نفعل ما يضر بنا
- الداعي الثالث هو أننا نمتلك حسّاً اسمه "حسّ العبادة". وقد أقر ذلك علماء النفس أيضاً حين ذهبوا إلى أن للبشر غريزة وحاجة طبيعية تدعى "العبادة"؛ أي إنهم يحبون أن يعبدوا شخصاً ما. وإن من جملة أسباب ما نلاحظه من اكتظاظ تجمعات "الاعتكاف" و"المجالس الروحانية لشهر رمضان المبارك" وإقبال الناس عليها هو حس العبادة هذا ورغبة الناس في إشباعه.
- والله عز وجل يعلم أننا نمتلك هذا الحس وهذه الغريزة، ولذا فإنه حينما يأخذ العبد بعبادة ربه يقول الله له: "من أجلي أنا أقلع عن هذا التصرف المضر بك!" أي إن الله يستثمر حس العبادة فينا لتحريضنا على عدم القيام بما يضرّ بنا من ذنب ومعصية! وهكذا يتولد مفهومَا الذنب والطاعة.
- حينما يرى الله أنني أخذتُ أعبده، وصرتُ أريد إشباع غريزة العبادة لديّ بعبادته، يستغل تعالى هذه الفرصة فيمنعني من بعض التصرفات والأعمال المضرة بي.
- حين تتلو القرآن تأمّل في أنه: ما الذي يجعل الله، وهو بكل هذه العظمة، يتكلم مع عباده في القرآن كل هذا الكلام حول الطاعة والمعصية؟ ألم يكن ثمة موضوع آخر يتناوله يا ترى؟! لماذا كل هذا الإصرار من جانبه عز وجل على أن لا نذنب؟