۹۸/۰۲/۲۳
ما هو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟ (المحاضرة1)
الذنب هو "أن نتصرف خلافاً لمصالحنا" / علينا أن نكون أنانيّين بعض الشيء كي لا نذنب! / أين العجَب في قضية الذنب والتوبة؟ / ألا يوحي موضوع الذنب والتوبة بأن الله يحب عباده حباً عظيماً؟!
-
المكان: طهران، مسجد الإمام الصادق(ع)
-
الزمان: 06/أيار/2019 ـ 30/شعبان/1440
-
الموضوع: ماهو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟
-
A4|A5 :pdf
ما هو الذنب؟ أهو مجرد عمل يُغضب الله تعالى؟! أم إنه ضربة للنفس أولاً! بالمناسبة، إن على المرء
أنيستغرب أنْ: "إلهي، لقد آذيتُ نفسي، فما بالك أنت انزعجت؟" والجواب: لأن الله يحبك حباً جماً...
أين العَجَب في قضية المعصية؟
- نود خلال هذه المحاضرات التحدث عن موضوعين عجيبين جداً في عالم الخلقة والأجواء الدينية؛ أحدهما الذنب، والآخر المغفرة والتوبة.
- أين موضع العَجَب في قضية الذنب؟... لقد خلق الله تعالى هذا العالم والكائنات في منتهى التنظيم والدقة. دونك قوانين الفيزياء والكيمياء في الكون فانظر كم قد صُمّمت بدقة! بل لم يكن بالإمكان أصلاً أن يجعل الله تعالى خلقة دونما حساب ونظام، وإلا كانت عملَت مخلوقاتُه ذاتها على إبادة أحدها الآخر.
- في هذا العالم، حيث خلق الله كل شيء بنظام ونسق، أعطى عز وجل الإنسانَ إرادةً واختياراً وحرية. ومن الطبيعي أن يخطئ هذا الإنسان ويخالف القوانين أحياناً. لكن العجيب هو أن يُسمّي الله هذا العمل "ذنباً" أو "معصية" قائلاً للإنسان: "لقد عصيتَني!" فمع أننا لم نُؤذِ ولم نظلم إلا أنفسنا ولم نوجّه صفعة إلا لأنفسنا، يرى الله أنه هو المقصود بهذا الفعل!.. وهو أمر في منتهى الغرابة!
ألا يوحي موضوع الذنب والتوبة بأن الله يحب عباده حباً عظيماً؟!
- أصل لفظة "الذَنْب" من "الذَّنَب"، وعلة هذه التسمية هي أن الذنب فعلٌ ذو تبعات سلبية للإنسان؛ فالذنب الذي نقترفُه يجُرّ إلى أعراض سلبية تلحق بنا نحن، لكن الله تعالى يقول: "تعال وتُب من فعلك هذا، واطلب مني المعذرة!"
- كما أنّ كلمة "عصيان" تعني عدم الطاعة والاتّباع؛ أي: إني قطعتُ صِلَتي بالله تعالى. وإن لهذا الأمر آثاراً وضعيّة سيئة لي أنا، لكن الله يقول: "لقد عصيتني.. هيّا تُبْ من فعلتك!".. ألا يحكي هذا شدة محبة الله لعباده؟!
ما الحكمة من "توجيه الله الأوامر لنا"؟
- أساساً لماذا زوّدنا الله بهذا المنهج – المسمّى بالدين – وفرضه علينا "فرضاً" حتى إذا بدَرَت منا مخالفة له سُمّيَت "مخالَفة لأمر الله"! فالطبيب يزوّد مريضه بوصفة للعلاج، غير أننا - بصفتنا مرضى - لا نكون مضطرين للاعتذار من الطبيب إذا لم نشأ العمل بوصفته؛ ذلك أننا نُلحق الضرر بأنفسنا، لا بالطبيب!
- لكن الله تعالى قد دخل في صُلب حياتنا قائلاً: "إذا اقترفتَ هذه الأخطاء تكون قد عصيتني!... إذا أضرَرتَ بنفسك فسأستاء منك!... أنا آمرك بما ينفعك!" وكأنه تعالى يقول: " من أجلي أنا كُفَّ عن هذه الأفعال (الذنوب)!"
- يتوجّب علينا القيام بهذه الأفعال وإن لم يأمرنا الله بها (لأنها في مصلحتنا) فلماذا إذن يُدخل الله أمرَه في القضية؟ أليس هذا من فرط محبته تعالى بالإنسان؟! أيّ حكمة أخرى وراء ذلك يا ترى؟! أليست هذه أعجب ظاهرة في مجال الدين؟!
- ليس من العجيب أن يأمرنا الله بالصلاة والصوم، إذ من المعلوم أنها أعمال في صالحنا، لكن العجَب هو أن يُطلق سبحانه على عدم إتياننا بهذه الأعمال اسم "الذنب" "ومعصية الله"! أي إن الله ينزعج حين أُضِرّ أنا بنفسي! فموقف الله عز وجل من هذه الأوامر هو أنه يدخل بنفسه في صُلب القضية ويجعل الجنة ثواباً للأعمال التي تنفعنا، ويتوعّد بالنار؛ شأن الأم التي تهدّد ولدَها الجاهل من فرط شفقتها عليه.
- لاحظوا بأي إصرار وحماس يتحدث الله تعالى في كتابه العزيز! فالذي لا ينظر إلى القرآن الكريم بوصفه رسالة حب من الله تعالى لعباده فإنه - في الحقيقة - لا يفقه معاني كلمات هذا الكتاب ومداليلها.
- مفهوم الذنب والمعصية ومحلّهما الحساس في منظومة الدين ألا يحكيان محبةَ الله العارمة تجاهنا؟! وإن كان الرد سلبياً فأيّ معنى يمكن أن يحملانه يا ترى؟! هل لنا أن نقول – والعياذ بالله – إن الله أشبه بسلطان جائر يغضب إذا لم نمتثل له فيلقّننا درساً؟!... الله لا هو قاسٍ، ولا ظالم، وتصرفه هذا لا يُفصح سوى عن شدة محبته.
لماذا مفهوم "التوبة" عجيب؟
- المفهوم العجيب الآخر في الدين هو التوبة والاستغفار. لكن ما المراد من التوبة؟ التوبة تعني أنك قد خرقتَ القانون بذنب ارتكبتَه وأن تبعاته هي في طريقها إليك. وإن أراد الله تعالى منع هذه التبعات الناجمة عن معصيتك فلا بد أن يُربِك نسَقَ العالم. أتعلم ما سيحدث إذا اضطرب نظام العالم؟ كأن يتّفق، خلال الأربع والعشرين ساعة، أن تختل جاذبية الأرض في ساعاتٍ ما! أو يتعطل قانون تماسك الذرات أو الخلايا فيما بينها! إن نسق العالم بأسره سيختل ويضطرب متأثراً باختلال نظام قطعة صغيرة منه!
- بالطبع لا بد لنا، إذا عصينا الله، أنْ نلمس أثر عملنا هذا، أما إذا تُبنا إليه فسيحُول اللهُ تعالى بيننا وبين آثار هذه الخطيئة، بل إن الله – في الحقيقة – سيقف بوجه نظام العالم، لكن بطريقة لا تؤدّي إلى أيّ تخلخل في أي نقطة من هذا العالم.
الله يقبل التوبة دائماً، إذن هو باستمرار يأتي بمعجزة!
- لماذا موضوع التوبة عجيب؟! لأن الله في قضية التوبة يقف أمام نظام العالم بطريقة لا يضطرب فيها هذا العالم. وفي الواقع فإن معجزة تحصل هنا. فقبول الله للتوبة يعني أنه تعالى يحول دون الضرر الناجم عن معصيتنا.. الضرر الذي يُفترَض، وفقَ نظام العالم، أن يحيق بنا.
- تصوَّر معجزةً "كشَقّ القمر" مثلاً؛ فحين ينشق القمر لنصفين لا بد أن يتخلخل نظام المجموعة الشمسية، لكن بما أن الأمر معجزة، فإن نصفَي القمر سيلتصقان ثانية دون أن يتحرّك ساكن! على أن القمر لم ينشق إلا مرة واحدة، أما التوبة فإن الله يتقبّلها على نحو موصول، أي إنه باستمرار يأتي بمعجزة! بل لربما أتى جلّ وعلا على أثر معصيتنا من دون أن نتوب منها فمحاه ولم يذَرْهُ يظهر!
لماذا يستغفر أولياء الله كل هذا الاستغفار؟
- إننا أمام قضيتين في غاية الغرابة؛ هما الذنب، والتوبة! إحداهما أن الله يعُدّ الذنب الذي نرتكبه نحن والضربة التي نوجّهها بأنفسنا لأنفسنا، معصية له عز وجل وخروجاً عن طاعته فيخاطبنا: "استغفرني لمعصيتك هذه!" والأغرب هو قوله: "إن تُبتَ إلَيَّ فسأقف أمام نظام هذا العالم ولا أدع أثر ذنبك يظهر لك لا في الدنيا ولا في الآخرة!"
- مضافاً إلى القضيتين العجيبتين هاتين فإن هناك أمراً آخر هو عجيب أيضاً وهو: لماذا يتوب أولياء الله ويستغفرون كل هذه التوبة والاستغفار؟!... إنهم لم يقترفوا إثماً! ما هو سبب إصرارهم الشديد على الاستغفار بين يدي الله؟ وهذا موضوع آخر سنتطرق إليه في المحاضرات القادمة.
- إن من لوازم التديّن هو أن يستوعب المتديّن مفهوم المعصية ويعلم أنه بارتكابه هذه المعصية إنما يضر بنفسه، لا أنه يُغضب ربه فحسب! يحسب الكثيرون أنهم بارتكابهم الخطايا إنما يُغضبون الله تعالى ولا يظنون أنهم - في الواقع - بأنفسهم قد ألحقوا الضرر. ولذا فإنهم إذا همّوا إلى التوبة تراهم يطلبون إرضاء الله كي لا يظل مستاءً منهم. وكفى!
لماذا لا ينظر المجتمع إلى الذنب على أنه "كارثة"؟
- لا يأخذ المجتمع قضية المعصية بجد. فالكل يحتج على من يخالف الإشارة الضوئية في التقاطع أنْ: "لماذا تُربك نظام المدينة!" أما تجاه المعصية فإنهم لا يحملون مثل هذا الفهم!
- قد يعود سبب عدم نظر الناس إلى المعصية على أنها كارثة إلى أن الأنظمة التعليمية لا تعلّم هذا للأطفال في صغرهم. فهل يعلّمون التلاميذ خلال السنوات الدراسية الاثنتي عشرة مفهوم الذنب يا ترى؟
- ما هو الذنب؟.. هل هو مجرد فعل يُغضب الله تعالى؟! أم إنه حقاً شيء رهيب إلى درجة أن على المرء أن يستغرب أنْ: "إلهي، لقد آذيتُ نفسي، فما بالك أنت انزعَجت؟" فيجيب تعالى: "لأنني أحبك حباً جماً.. أعظم من حب الأم لولدها..".
- الذي يرتكب الذنب هو كمَن يقطع يده أو إصبعه بسكين أو ساطور ملحِقاً الأذى بنفسه. والتوبة هي كما لو قطعتَ إصبعك بنفسك ثم قلت لربك: "إلهي، أصلحه لي!"
- الاغتياب هو حقاً أكل الشخص للحمِ أخيه في الدين ولقد كشف رسول الله(ص) هذا الأمر لأصحابه في بعض المواطن كي يعوا أثر هذا الذنب القبيح.
الذنب هو "أن نتصرف خلافاً لمصالحنا"
- نحن لم نستوعب جيداً إلى الآن أن الذنب يعني الإضرار بالنفس أولاً! يظن الكثيرون أن المعصية هي الدوس على المقدسات والعمل بما يخالف المعتقدات وممارسة سلوك غير إيماني! والحال أن المراد من المعصية بالدرجة الأولى، ليس هذا. فالذنب - قبل أن يكون ممارسة ما يخالف معتقداتنا - هو أن نتصرف بما يخالف مصالحنا!
- لعلنا نحن من قدّم الدين للناس خطأً من الأساس. فقولنا: "الدين منهاج يقوم على المعتقدات والإيمان" لا يعبّر عن فهم دقيق للدين. فالدين - أولاً - هو منهاج يقوم على مصالح الإنسان، سواء الدنيوية منها أو الأخروية. من هنا فإنه لا بد - كمرحلة أولى - أن نكون أنانيّين بعض الشيء كي لا نذنب!
- الأنانية - في الأساس - ليست شيئاً قبيحاً. فهذا أمير المؤمنين(ع) ينكر إحسانه لأحد ويصرح بأنّ كل ما قام به كان لنفسه(ع)! فقد روي عنه(ع) أنه قال: «مَا أَحسَنتُ إِلَى أَحَدٍ وَلا أَسَأتُ إِلَيهِ لأَنَّ اللهَ تَعَالى يَقُولُ: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْها» (فُصّلت/46)» (متشابه القرآن ومختلفه لابن شهر آشوب/ ج1/ ص118).
- ولو لم يكن عند أهل البيت(ع) أنانية، بالمعنى الحقيقي للكلمة، أكانوا سیبكون وینتحبون من أجل الجنة والنار كل ذاك البكاء والانتحاب؟! ففي القرآن الكريم أن الله يعاقب الإنسان السيّئ بأن يجعله غير أناني: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُم» (الحشر/19).
المرحلة الأولى من الالتفات إلى الذنب هي أن تكون أنانياً بمعنى الكلمة!
- المرحلة الأولى من عملية الالتفات إلى مفهوم الذنب وإدراك قضية المعصية هي أن يحفظ الإنسان نفسه ويرعى مصالحه، أو لنقل: أن يكون "أنانياً"! وإن علينا في المدارس أن ننشئ الأطفال بطريقة يتنبّهون فيها إلى أن كل اختيار يختارونه سيترك أثراً مستديماً عليهم؛ وهو أن يُترك التلميذ ليختار بكامل حريته بحيث إذا اتفق أن كان اختياره سيئاً أحسَّ بالندم عليه. أي ينبغي ان نضع الأطفال في معرض الاختيار كي يروا تبعات اختيارهم السلبية أو الأيجابية.
- عندما تسأل الله أن: "إلهي، أعِنّي على أن لا أعصيك"، فكأنك تقول له: "إلهي، أعِنّي كيلا أصنع ما يضرّني". وقد سألوا آية الله بهجت(ره) أن يزوّدهم بذِكر فقال: "الذِكر هو أن تعزم على عدم المعصية! فما إن تعزم على ذلك حتى يعينك الله".
- تعالوا، في شهر رمضان المبارك هذا، نتصف ببعض الأنانية، ونهتم بمصالحنا، بل بأعلى مصالحنا. فإن إحدى ركيزتَي عملية الالتفات إلى المعصية هي أن نلاحظ مصالحنا، أما ركيزتها الثانية فهي أن نلحظ حرمة الله ومحبته لنا (وهو ما سنتكلم عنه في المحاضرات الآتية).
ما الذي جعل الله يصطفي آدم(ع) بعد الذي ارتكبه؟
- لقد عصى آدم(ع) ربه فكان أن هبط من الجنة ومن ذلك المقام الرفيع: «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى» (طه/121) وفرّط بميزات عظيمة؛ أي فرّط بثواب الامتثال لقول ربه.
- ثم يعبّر القرآن الكريم بأن الله من ثم اختاره للنبوة، وقَبِل توبته، وهداه: «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى» (طه/122). فما الذي جعل الله عز وجل يجتبي آدم(ع) بعد أن عصاه؟ لأنه(ع) تاب توبة في منتهى الروعة حين جعل السماوات والأرض تضطرب لبكائه وأنينه!