بقلم سماحة الشيخ بناهيان: بعد خروجه من المستشفى وعلى شرف انتهاء شهر رمضان المبارك
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد طابت أمراض الجسم إلى حدّ ما وحصلت بعض النتائج في المستشفى، ولكن ليت شعري ما نفعل بأمراضنا الروحية العديدة التي بقيت على حالها ولم تعالج في مستشفى شهر رمضان؟! وما عسانا أن نفعل وقد قال أطباء الروح إن لم يعالج مرضٌ ما في شهر رمضان فلعلّه يتفاقم بعده؟
رأيت قبل الخروج من المستشفى مشاهد جسّدت لي أيّامي الماضية والقادمة. رأيت في الغرفة المجاورة أحد جرحى الحرب المصابين بقطع النخاع والذي كان من أصدقائي في أيام المراهقة. كان يمرّ بالعلاج الكيميائي، وقد نقلني إلى تلك الأيام الماضية. لقد زرته في غرفته وكم كنت صغيرا وحقيرا أمام شموخ ابتسامته ورضاه عن حياته التي لم يفارق فيها الكرسيّ السيّار ثلاثين سنة. وكم بَهَرت عيني مقاومته طيلة هذه الأيّام. لم يعد وجهه يشبه أيّام الصبا وإني لا أحبّ أن أرى أحد هؤلاء الجرحى بملامح الكِبَر والمشيب. فكان لا يزال عندي ذاك الغلام الحَيِيّ والمتواضع. ما أهون التضحية عليه وما أعظم ما اكتسبه من رأسمال عظيم! تذكرت أيامي الماضية واستجدّت لي ذكرياتُ الشهداء والجرحى الذين عاشرتُهم أياما في هذه المستشفى يومذاك. آه.. فما أشوق الإنسان في آخر شهر رمضان إلى الهداية والصلاح!
سمعت من الغرفة المقابلة أنين صبيّين حيث كانوا يذرفون الدموع على فراش أمّهما فجسّد لي الأيام القادمة. كان قد عجز الأطبّاء عن معالجة أمهما. وهذا هو المستقبل الذي سيواجهه كلّنا بشكل أو بآخر بلا ريب ونحن في غفلة عنه. (قَدْ تَناوَلَ الاَقْرِبآءُ أطْرافَ جنازَتي...). لا شك في أننا سنحنّ يومئذ على جميع أشهر رمضان التي فرّطنا بها من قبل.
نحن من جانب ليس في ميسورنا أن نتخلّص من تلك الأيام الماضية ولا عن حقّ الصالحين على رقابنا، ومن جانب آخر ذاهبون بسرعة إلى ذاك المستقبل الذي لا يدرى مداه وقد يكون أقرب ممّا قدّرناه. يبدو أن لن ينحلّ هذا اللغز أبدا وهو لماذا لا ندرك المرور القاسي والصارم للزمان علينا. فكما أننا لا نشعر بحركة الأرض، كذلك لا نشعر بحركة الزمان. ويا ترى لماذا نزعم أن كل شيء ثابت. يبدو أننا لن نشعر بدويّ حركة الأرض والزمان المهيب إلا بعد الموت ولن نعي عظمة هذه الكائنات إلا بعده.
إن طريق النجاة الآن من جميع الصدمات التي ألحقناها بأنفسنا هو اللجوء إلى الله في هذه اللحظات الأخيرة من شهر رمضان حيث هو في أوج رحمته. أشكر جميع الإخوة الذين دعوا لشفاء أخيهم الصغير وألتمس المزيد من الدعاء في هذه اللحظات الأخيرة كما لم أنس الإخوة جميعا من الدعاء.
اللهمّ اغفر لنا إذ لم نصنع ذكريات جميلة في هذا الشهر المبارك. إن رأسمالنا الوحيد في شهر رمضان هو فقرُنا وعدم رضانا عن أنفسنا. يا ربّنا الذي تكره للمرء أن يرضى عن نفسه، ارضَ عنّا بلا دليل وهب لنا من فضلك وضمّنا إليك ولا تتركنا.