لنذق طعم حلاوة ضيافة الله ـ 5
سماحة الشيخ بناهيان: الضيافة هي الوصف الأهم لشهر رمضان؛ فماذا نفهم من الضيافة؟
كتاب «مدينة الله؛ شهر رمضان وأسرار الصيام» ـ باللغة الفارسية ـ لسماحة الشيخ بناهيان والذي قد نزلت إلى الأسواق الطبعة الثامنة منه، يشتمل على نقاط ورؤى جديدة وعمليّة للانتفاع الأكثر من شهر رمضان وقد كتب بلغة سهلة وبسيطة. فوددنا أن نستقبل أيام شهر رمضان ولياليه الجميلة بمقاطع ومقتطفات من هذا الكتاب الذي تُرجمت بعض مقاطعه إلى العربية عسى أن تُطبع بعد الإكمال والتنقيح. فإليكم القسم الخامس من هذه المقاطع.
تقديمات ضيافة شهر رمضان في بيان رسول الله(ص)
- تعالوا نستعرض فهمنا ومشاعرنا عن شهر رمضان على أساس انطباعنا عن الضيافة. في الخطبة الشعبانية التي تحدّث فيها النبي الأكرم(ص) عن شهر رمضان ووصفه بالضيافة، ذكر تقديمات هذه الضيافة حيث قال: «وَ جُعِلْتُمْ فِیهِ مِنْ أَهْلِ کَرَامَةِ اللَّهِ أَنْفَاسُکُمْ فِیهِ تَسْبِیحٌ وَ نَوْمُکُمْ فِیهِ عِبَادَةٌ وَ عَمَلُکُمْ فِیهِ مَقْبُولٌ وَ دُعَاؤُکُمْ فِیهِ مُسْتَجَابٌ» فيا ترى هل يمكن أن نتصوّر ضيافة أرقى؟ طبعا لا شك في أن تقديمات الله في هذه الضيافة هي من نوع القضايا المعنوية وفق مستوى أهداف هذه الضيافة الكبرى.
احتمالات معنوية حول ضيافة شهر رمضان
- لا أريد أن أكرّر كل ما مرّ ذكره عن الضيافة. فتطبيق أوجه الشبه بين مجالس الضيافة وشهر رمضان موكول على عاتقكم. ولكن بودّي أن نتوسّع في التفكير وبيان الاحتمالات ونمزجها بالمشاعر لتنوير قلوبنا وأبصارنا عبر بيان بعض الاحتمالات المعنويّة بالتأمل في مضمون هذه الضيافة المباركة.
1ـ لعلّه فرصة لتعرّف الغرباء
- لعلّ شهر رمضان فرصة لتعرّفنا نحن الغرباء البعيدين عن عالم الحضور وساحة القرب والأجانب عن أحوال المقرّبين العشّاق. فإن لم يحصل ذلك فحريّ بنا أن لا نتعب أنفسنا ونبحث عن شغل آخر غير الدخول في عداد العباد الصالحين. فإن لم نقم بخدمة ربّ البيت ونحن في البيت، هل يُرجى منّا أن نخدمه حياءً منه في الشارع؟!
- ولعلّ الله أراد لنا أن نزداد قربا منه عبر ضيافة شهر رمضان. نحن الذين نزعم بعد كل غفلة ومعصية أن قد سقطنا من عين الله ولم يعد الله يحبنا ولا ينظر إلينا، حتى لا يسع لأحد أن يقنعنا على أن اللّه ما زال حريصا علينا وما زال يحبنا ولم نفقده بعد، في خضمّ هذه المشاعر السلبية قد تقدر أجواء الضيافة على تعزيز إيماننا برحمة الله ورأفته، وتصعيد أملِنا بالتقدّم نحو الصلاح والفلاح.
- نحن الذين نقنط من رحمة الله بمجرّد أن نقع في ذنب، ونغلق باب الرجعة على أنفسنا، نستطيع في هذه الضيافة أن نأمل الحصول على ضيافة فاخرة ونشعر بالكرامة في ظلّ إكرام الله حتى بدون استحقاق. وحسبنا هذه الكرامة لنكسب بها المزيد من الفضائل ونتخذها رأس مالٍ لغير قليل من الفوائد.
2ـ لعل المراد احترامنا لكي نشعر بالمَحرميّة قليلا
- لعلّ المراد احترامنا في هذه الضيافة لكي نشعر بالمحرمية قليلا ونحرّم المعاصي على أنفسنا، ونُحرِم كما يُحرِم الحجّاج حين دخولهم في البيت الحرام، ولا نُحرَم من الالتحاق بالصالحين. لعل الله أراد أن يوحي إلينا أننا قادرون على أن نكون أمناء السرّ ومن العباد المقرّبين. إذ كثيرا ما نحن نرتكب كلّ موبقة لأننا لا نحسب أنفسنا على شيء ولا نبادر إلى إصلاح شيء إذ نرى أنفسنا عاجزين.
3ـ لئلا نشعر بالوحشة
- من فوائد مجلس الضيافة الأخرى هي أن لا نستوحش ولا نفرّ من صاحب البيت، بل نمكث إلى جانبه قليلا. إذ كلما تأنّى الله وصبر طوال أيام السنة لنتوجّه إليه ونجلس عنده لم نفعل، فاستضافنا ليكوّن علاقة الأنس بيننا وبينه ويزيل عنّا مانع الاستيحاش. لكي تخلد هذه الذكرى الجميلة ويكون لها وقع في القلب ثم تدفعنا إلى الرجوع إليه لاستعادة هذه الذكرى الممتعة.
4ـ لعلّها فرصة لاستعراض كرم صاحب البيت
- لعلّ صاحب البيت بصدد استعراض كرمه ورحمته بعباده، لكي نستعرض نحن في المقابل لياقتنا في قبول مغفرته والعبودية له. يريد الله أن يجسّد ربوبيّته في مُلكه، ويريد منّا أن نجسّد للملائكة عبوديتنا وتحليقنا إلى أوج المقامات الإلهيّة. فإن هذا الاستعراض سواء أكان من الله أم منّا جميل يخطف القلوب. ورؤية هذه المشاهد الرائعة لهي رزق المتقين.
5ـ بدء تعارف، أم التئام ألم العشق
- ولعلّ هذه الضيافة في سبيل دفع الوحشة والغربة عنّا. إذ يعلم الله جيّدا كم قد ضاقت صدورنا من ألم فراقه وكم قد علت زفرات القلوب حنينا إليه. فكما أن الضيافة لبعض الضيوف بداية لتعارف جديد، هي التئام ألم العشق والحبّ لبعض آخرين.
6ـ فرصة للاعتزال والخلوة بالنفس
- ولعلّه يريد أن نعتزل قليلا لكي نستعيد خلوتنا وننزّه أنفسنا ممّا اعتراها من أدران العلاقات. يعني يريد أن نأنس به وعلامة ذلك هو الابتعاد القلبي عن الناس. ألم يقل أميرالمؤمنين(ع): «ثَمَرَةُ الاُنسِ بِاللهِ الإستِیحَاشُ مِنَ النَّاسِ»؟ [غررالحکم، ص199، فی عبادة الله، ح3949]
7ـ مجال لتعارف الضیوف بعضهم على بعض
- ولعلّ بعض أغراض مجلس الضيافة هو تعارف بعضنا على بعض. وذلك لأننا بني آدم إن تمادينا في ابتعاد بعضنا عن بعض، فكأننا قد اعتزلنا ونسينا أنفسنا أيضا. وعند تقارب قلوبنا كأننا ندرك أنفسنا ويتيسّر وصولنا إلى الله. إن تكبر بعضنا على بعض، يؤثّر سلبا على تواضعنا لله وفي المقابل كلما كنا رحماء بيننا ازداد الله بنا رحمة. حينما يجتمع الضيوف في مجلس الضيافة حول صاحب البيت، فهم في الواقع يتقربون بعضهم من بعض. ولا يخفى أن هذه الجلوة لا تتعارض مع تلك الخلوة التي ذكرناها آنفا.
- إن وصايا النبي(ص) في الدعوة إلى تعاطف الضيوف بينهم في هذه الضيافة المعنوية من بواعث العَجَب. وكأن هذه الضيافة ليست إلا جلسة مصالحة بين الضيوف وكأن ليس لها حكمة سوى هذا التراحم والتعاطف. فقد قال(ص): «وَ تَصَدَّقُوا عَلَی فُقَرَائِکُمْ وَ مَسَاکِینِکُمْ وَ وَقِّرُوا کِبَارَکُمْ وَ ارْحَمُوا صِغَارَکُمْ وَ صِلُوا أَرْحَامَکُمْ وَ احْفَظُوا أَلْسِنَتَکُمْ وَ غُضُّوا عَمَّا لَایَحِلُّ النَّظَرُ إِلَیْهِ أَبْصَارَکُمْ وَ عَمَّا لَایَحِلُّ الِاسْتِمَاعُ إِلَیْهِ أَسْمَاعَکُمْ وَ تَحَنَّنُوا عَلَی أَیْتَامِ النَّاسِ یُتَحَنَّنْ عَلَی أَیْتَامِکُمْ.» [عیون اخبار الرضا(ع)، ج1، ص295، باب 28، ح53]
- «أَیُّهَا النَّاسُ مَنْ حَسَّنَ مِنْکُمْ فِی هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ کَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَی الصِّرَاطِ یَوْمَ تَزِلُّ فِیهِ الْأَقْدَامُ وَ مَنْ خَفَّفَ فِی هَذَا الشَّهْرِ عَمَّا مَلَکَتْ یَمِینُهُ خَفَّفَ اللَّهُ عَلَیْهِ حِسَابَهُ وَ مَنْ کَفَّ فِیهِ شَرَّهُ کَفَّ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ یَوْمَ یَلْقَاهُ وَ مَنْ أَکْرَمَ فِیهِ یَتِیماً أَکْرَمَهُ اللَّهُ یَوْمَ یَلْقَاهُ وَ مَنْ وَصَلَ فِیهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ یَوْمَ یَلْقَاهُ وَ مَنْ قَطَعَ فِیهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ یَوْمَ یَلْقَاهُ.» [المصدر نفسه]
حكمة أجر إفطار الصائم العظيم
- لعل أحد أسباب عظمة أجر إفطار الصائمين هو هذه الفائدة المهمّة التي أشار إليها رسول الله(ص) في خطبته حيث قال: «أَیُّهَا النَّاسُ مَنْ فَطَّرَ مِنْکُمْ صَائِماً مُؤْمِناً فِي هَذَا الشَّهْرِ کَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ وَ مَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَی مِنْ ذُنُوبِهِ» (المصدر نفسه). فقال بعض أصحاب النبي(ص) يا رسول الله(ص) وليس كلنا يقدر على ذلك. فقال(ص): «اتَّقُوا النَّارَ وَ لَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ اتَّقُوا النَّارَ وَ لَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاء» (المصدر نفسه) يعني لا تفوّتوا هذه الفرصة التي سنحت لكم بحيث أصبحتم قادرين على إزالة كل ذنوبكم مهما كانت بعمل يسير.
- ولا أدري هل التضحية بتمرة واحدة لإفطار الصائم لها هذه القيمة والأهمية العاليتين ـ ولا يبدو هذا التثمين طبيعيا ـ أم يريد الله أن يعبّر بذلك عن مدى شأن الصائم ومقامه عنده، بحيث كل من يفطّره ولو بأدنى شيء سيغفر الله ذنوبه جميعا. فليت شعري كيف يعلن الله للناس أني أحب ضيفي الصائم وهو علي ضيف كريم؟!
8ـ لحظات عند أولياء الله...
- ولكن الغرض الرئيس المحتَمَل لهذه الضيافة وبتعبير آخر أهمّ فائدة في هذه الضيافة هو أننا في أثناء هذه الضيافة سنعاشر أولياء الله الذين قد ولدوا في بيت الله وترعرعوا بعنايته، عبادَ الله وأحباءَه وخدمته في مجلس ضيافته وسقاة شرابه الطهور والمأمورين بضيافة ضيوف الرحمن والمستأنسين بذكر رب البيت المنّان، فنجتمع معهم ساعات قصارا. وإلا فإن الله معنا دائما ونحن لا نزال ضيوفه.
- يبدو أنه أراد أن يقلّل المسافة بيننا وبين الخواصّ من أوليائه، لنهتدي بنورهم ونخطو الطريق بحضورهم. حتى تُشرق قلوبُنا بنورهم ويخطف قلوبَنا ضياءُ وجههم، ولكي يبيّن الله غايته من هدايتنا ومن إنزال القرآن، بإظهار وليّه، وليتمّ نعمته علينا بالولاية.
- وليمتحننا الله بحبّ أوليائه وليقذف أولياؤُه حبّ الله في قلوبنا. ومن أجل أن نجد قادتنا وأسوتنا بعد ما كنا نفتقدهم وكذلك يجدونا بجوارهم ليتسنى لهم التحنن علينا والتودد إلينا. إذ مهما كنا نحن بحاجة إليهم، هم أشوق إلينا.
- إن لم يكن هذا الكلام عين الصواب فلماذا أصبحت ليلة القدر في هذه الضيافة ليلة نزول القرآن بتمامه؟ أليس إنزال القرآن دفعة واحدة، من قبيل إرائة وليّه أهلَ العالم ليقول لهم كل ما قصدت من الإنسان الكامل هو هذا؟! وإن لم يكن هذا الكلام صوابا، فلماذا يجب أن يطّلع ولي الله على مقدرات العباد أي ضيوفِ الرحمن كلَّ عام؟! ولماذا قال أميرالمؤمنين(ع): «اَنَأ صَلوةُ المُؤمِنینَ وَ صِیامُهُم» (تفسیر أنوار العرفان/ ج2/ص533، في تفسير الآية 115 من سورة البقرة)
- إن جواب هذه الأسئلة واضح. ولكنّ التحقيق في هذا الشأن موكول إلى الأبحاث المرتبطة بالمعارف الولائية. أما الآن فحري بنا أن نترك الحوار ونراجع أنفسنا ونفحصها. فسنجدها وبكل بساطة أقرب إلى أهل البيت(ع) وأشوق إليهم في هذه الضيافة. إذن فكونوا ملازمين لهم ولا تتركوا ذكرهم فتكونوا من الخاسرين.