الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني (الجلسة الخامسة عشر)
إليك ملخص الجلسة الخامسة عشر من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.
الأهداف الدنيوية والأخروية لجهاد النفس
- لقد درسنا في الأبحاث السابقة لحد الآن ضرورة جهاد النفس وآثاره. وفي تكملة البحث نحن بصدد الحديث عن هدفين رئيسين لجهاد النفس؛ أحدهما الهدف الدنيوي والآخر الهدف الأخروي لجهاد النفس.
الهدف الدنيوي: ازدياد طاقة روح الإنسان على الالتذاذ والتمتّع
- الهدف الدنيوي من جهاد النفس هو ازدياد طاقتنا الروحيّة على الالتذاذ والتمتّع الأكثر بدلا من تنويع اللذات وتكثيرها. يجب أن نعلم أنّه لا يستطيع الإنسان أن يسيطر على حياته ويزيدها لذّة إلا بعد أن صعّد طاقته الروحيّة عبر جهاد النفس. إنّ بعض طلّاب اللذة، يطمعون أن يتمتعوا بلذات كثيرة بلا جهاد النفس، غافلين عن هذه الحقيقة وهي إن لم يجاهدوا أنفسهم يضعفوا عن التمتع بكثير من اللذات.
كيف نزداد لذة من الطعام والمنام واللذة الجنسية
- إن واجهنا شخصا غير عارف بالله وغير مؤمن بالمعاد ولم ير هدف الخالق من خلق الإنسان ولم يجعل عالم الآخرة هدفا له في حياته فلابدّ أن نقول له: «ماذا تريد من حياتك الدنيوية الماديّة هذه؟ ألا تريد الالتذاذ والتمتع في هذه الحياة؟! فإن كان هذا هدفك فاترك الاهتمام بتكثير أنواع اللذات وتنويعها واشتغل بتقوية روحك ونفسك لتزداد طاقة على الالتذاذ».
- فعلى سبيل المثال، بدلا من الالتذاذ بكثرة النوم والذي لا يخلو من عواقب وأمراض، حاول أن تقوّي روحك بالاستيقاظ في الأسحار، فإنك لو فعلت ذلك، سوف تزداد لذة من النوم في مدى البعيد حتى لو لم تكن مؤمنا بالله. وكذلك إن كنت من هواة اللذات الجنسية وأردت أن تزيد حظك منها، فاترك النظر الحرام فستتزداد حظا من اللذائذ الجنسية. وكذلك إن أردت الالتذاذ بطعامك وشرابك، فقلّل من التنويع والإكثار لكي تزداد لذة من الأكل. وكذلك إن شئت أن تعيش بمزيد من السعادة والسرور فلابدّ أن تتجرّع بعض جرعات الغضب وتكتمه.
الحياة الأفضل في هذه الدنيا، مشروطة بجهاد النفس
- إذا استطاع الإنسان أن يقوّي روحه ويزيدها طاقة على الالتذاذ، عند ذلك سوف يلتذ بغرة الفجر والشعر والبحر والجبال والطبيعة لذة لا يشعر بها غيره وسوف يلتذ بأشياء لا يلتذ بها كل إنسان.
- بالإضافة إلى كوننا مضطرّين إلى جهاد النفس شئنا أم أبينا، كذلك نحن بحاجة إليه في سبيل تحقيق حياة أفضل في هذه الدنيا، وإلا فبعد ما طوينا رداء الشباب وبدت بوادر الشيخوخة على ملامحنا نتورط بأمراض شتّى كضعف الأعصاب والكآبة والسأم وغيرها. إن جهاد النفس يقوّي إرادة الإنسان ويصنع منه إنسانا لجميع الفصول ومراحل الحياة، قادرا على حفظ معنوياته ونشاطه في مختلف الظروف ومنعطفات الحياة سهلها وصعبها، مرّها وحلوها.
تضعيف الروح بترك جهاد النفس، مدعاة إلى الحرمان من أولى لذات الحياة
- إن جهاد النفس يقوّي حياة الإنسان، وكلما ازدادت الروح قوّة، يزداد الإنسان حظا من لذات الحياة. إن بعض الناس وبسبب كثرة الفرار من جهاد النفس، قد أضعفوا روحهم بحيث أصبحوا لا يلتذّون بأولى لذائذ الحياة كاللذة الجنسية. فإن هؤلاء وبسبب ضعف روحهم لا يلتذون بحياتهم، ولذلك فتجد أعصابهم محطّمة دائما باحثين عن لذة يأنسون بها فينجرّون إلى الذنوب لكي يعوضوا عمّا يعيشونه في داخلهم من عقدة الحرمان من اللذات.
- يقول أمير المؤمنين(ع): «وَکَأَنِّی بِقَائِلِکُمْ یَقُولُ إِذَا کَانَ هَذَا قُوتُ ابْنِ أَبِی طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ وَ مُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ أَلَا وَ إِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّیَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَ الرَّوَاتِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً وَ النَّابِتَاتِ الْعِذْیَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَ أَبْطَأُ خُمُودا»[نهج البلاغة/ الكتاب45]
- نحن وللأسف قد أضعفنا روحنا بترك جهاد النفس، فلنتب إلى الله ونقل له: «ظلمت نفسي»؛ يعني إلهي لقد أتلفت نفسي! فقد لبيت هواي طيلة عمري وانشغلت بالفسوق والعصيان، إلهي اغفر لي ذنوبي وإطاعة نفسي، فلم أبقِ لي حولا ولا قوة ولا إرادة، فأصبحت إنسانا بلا تركيز وبلا بال صافٍ، عاجزا عن الالتذاذ بالطبيعة، ضعيف الجسم والبدن، فلا يقدر على خدمة غيره، لقد أصبحت إنسانا ضعيف النفس... فخذ بيدي سيدي وأجبر ضعفي. «قَوِّ عَلَى خِدْمَتِكَ جَوَارِحِي»[دعاء كميل]
- لقد نقل أحد الأشخاص الذي كان قد زار سماحة الشيخ بهجت(ره) وقال: «أثناء حديثي مع سماحته، وجدت الشيخ بهجت(ره) ما زال يحفظ تفاصيل دقيقة جدا عن أيام ماضية وهو في ذاك العمر الكبير!» فمن أين حصل على هذه الحافظة القويّة؟! بطبيعة الحال إنّها بسبب جهاد النفس، طبعا ضمن البرنامج الذي يعطيه الدّين.
من عجز عن تكوين حياة دنيوية صحيحة، يعجز عن إعمار آخرته أيضا
- من أراد أن لا يكون ضعيفا في حياته الدنيويّة ويحصل على قوّة روحيّة، لابدّ له من جهاد النفس. لا يخفى أن هذا هو ليس الهدف الرئيس من جهاد النفس، بل إنما هو الهدف الدنيوي منه الذي يوفّر الحد الأدنى من الحياة لا الحد الأقصى من العبودية. أمّا على أيّ حال هذا الذي لا يقدر على تكوين حياة دنيوية صحيحة، فهو عاجز عن إعمار آخرته أيضا.
- من أراد أن يخدم عباد الله ويخدم بلد صاحب العصر والزمان(ع) لابدّ له أن يحظى بالموهبة والقوّة والمكنة اللازمة لهذا الشأن، وإنها تحصل بجهاد النفس.
الأصل الأول في تطور الجامعات في الجانب العلمي هو جهاد النفس
- إذا عرف الجامعيون أسرار جهاد النفس ومدى تأثيره على قوّة الإنسان الروحية والفكرية، سوف يصبح جهاد النفس الأصل الأوّل في التطوّر العلمي في جميع الجامعات. وهذا ما قد أثبته علم النفس أيضا. يعتقد علماء النفس أن «نسبة الذكاء» لیست العامل الرئيس في النجاح والإبداع العلمي، بل هو مفهوم آخر وعندما يشرحون هذا المفهوم نجد أنه جهاد النفس بعينه.
- في أحد الاختبارات، جمع المحققون مجموعة من طلاب الابتدائية في غرفة وجعلوا فيها حلويّات، قم قالوا لهم: «العبوا ما شئتم ولكن لا تأكلوا الحلويّات حتى نرجع، ولكي نعطيكم جوائز». بعض الأطفال لم يبالوا بهذا القانون وبدأوا بأكل الحلويّات، وبعضهم صبروا فترة ثم بدأوا بأكلها بعد نفاد صبرهم وبقي قلة قليلة من الأطفال صبروا إلى النهاية ولم يأكلوا من الحلويّات شيئا. ثم بعد إجراء اختبارات عديدة أخرى على هؤلاء الأطفال ومتابعة حياتهم بدراسات وإحصاءات عديدة، خرجوا بنتيجة أن هؤلاء الأطفال الذين لم يستعجلوا بأكل الحلويّات كانوا في الواقع أكثر سيطرة على أنفسهم، وتوفّقوا أكثر في حياتهم حتى وإن كانت نسبة ذكائهم أقلّ من غيرهم.
الشاب المدمن على الموسيقى في الواقع قد هدم قسما من قواه الذهنية
- لماذا قال سماحة السيد القائد: «لا تروجوا الموسيقى في الجامعات»؟! لم يكن السبب هو حرمة بعض أنواع الموسيقى وحسب إذ لا خصوصية لحرمتها في الجامعات، فلعلّ السبب من ذكر الجامعات بالخصوص هو ضرورة حفظ المستوى العلمي والقدرة على إنتاج العلم في الجامعات. كان يقول الإمام الخميني(ره) وكذلك المرحوم شاه آبادي(ره) أن الشاب المدمن على الموسيقى قد هدم قسما من طاقاته الذهنية والروحية ولا تبقى له طاقة بعد للنشاط العلمي، إذ أن الموسيقى تسلب الإنسان قدرته على التركيز.
- قد يقول البعض: «بالعکس؛ الموسيقى تزيدنا تركيزا»! ولكن الحقيقة هي أننا لا ينبغي أن نتكل على الموسيقى من أجل التركيز، بل يجب أن نتدرب على التركيز بلا هذه العوامل، وإلا فسوف تضعف قوانا الذهنيّة. ولذلك كان يقول الإمام الخميني(ره) إن الشاب الذي يدمن على الموسيقى لا تبقى له قوّة وطاقة بعد؛ فقد قال الإمام الخميني(ره): «الإذاعة والتلفزيون التي ينبغي أن تكون معلّمة، يجب أن تقوّي الشباب وتمنحهم قوّة. لا ينبغي للتلفزيون أن يبث الموسيقى عشر ساعات، ويسلب شابّنا قوته ويجعله في حالة من النشوة والخلسة، فهذه تشبه المخدّرات ولا تفرق عنها كثيرا وتسبّب حالة من النشوة»[صحيفة الإمام(الفارسية)، ج9، ص205] وكذلك قال الإمام(ره): «ومن جملة القضايا التي تخدّر الأدمغة هي الموسيقى. فعندما استمع دماغ الإنسان إلى الموسيقى فترة من الزمان، يتحول هذا الدماغ إلى دماغ إنسان غير جادّ، فإنها تخرج الإنسان عن جدّيته وتلفته إلى قضايا أخرى. كل هذه الوسائل التي ذكرنا بعضها وقد أعدوا إلى ما شاء الله من هذه الوسائل، كلها في سبيل إغفال الشعب عن مقدّراته وإلفات أنظاره إلى قضايا أخرى وحرفه عن قضايا اليوم حتى لا يزاحمهم...»[صحيفة الإمام(الفارسية)ج9، ص200] وكذلك قال الإمام الخميني(ره): «الإنسان المدمن على المخدرات لا يهتمّ بالبلد. الإنسان الذي أدمن دماغه على الموسيقى لا يستطيع أن يفكر بالبلد»[صحيفة الإمام، ج9، ص464]
- طبعا كان الإمام الخميني(ره) يتخذ أحيانا مواقف أصلب وأشد تجاه الموسيقى، فعلى سبيل المثال قال: «إذا أردتم لبلدكم أن يكون سالما وبلدا حرّا وبلدا مستقلا، ينبغي أن تتعاملوا مع القضايا بجدّ وتبّدلوا الراديو والتلفزيون إلى أجهزة تعليميّة. احذفوا الموسيقى، ولا تخشوا من أن يرموكم بالرجعيّة لكوننا حذفنا الموسيقى. لا بأس أن نكون رجعيّين! فلا تخشوا. هذه الكلمات خطة لإرجاعكم عن العمل الجادّ. ما يقال من أنه إن حذفت الموسيقى من الراديو فسيحصل الناس على الموسيقى من أماكن أخرى، [فهو كلام غير صائب] دعوهم يأخذونها من مكان آخر، ولكن أنتم لا تلوّثوا أنفسكم، وبعد ذلك فسيرجع الآخرون إلى هنا شيئا فشيئا. ليس هذا بعذر صحيح أنه إن خلا الراديو من الموسيقى فسيذهب البعض إلى مكان آخر لتحصيلها. فإذا حصلوا على الموسيقى من مكان آخر، هل ينبغي لنا أن نقدم لهم الموسيقى؟! وهل يجوز لنا أن نخون؟! إن هذا السلوك لخيانة للبلد وخيانة لشبابنا. احذفوا الموسيقى بتاتا واستبدلوها بشيء تعليمي مفيد. وعوّدوا الناس وشبابنا شيئا فشيئا على التعلّم، وأرجعوهم من عادتهم الخبيثة تلك. عندما تلاحظون أن شبابنا يذهبون إلى نغمات أخرى إن فقدوها هنا، فإنما ذلك بسبب عادتهم! وهذا ما يدلّ على أنهم قد فسدوا. والآن فنحن مكلفون بإرجاع هذا الجيل الذي قد فسد إلى الصلاح، وأن لا نسمح لصغارنا أن يفسدوا ونقف أمام ذلك. لابدّ أن تحمل هذه المسائل على محمل الجدّ»[صحيفة الإمام،ج9، ص205]
- وكذلك قال في كلمة أخرى: «كانت الإذاعة والتلفزيون في زمن الطاغوت تباشر بنشاطات طاغوتية. كانت قد صبت نصف نشاطها في تضعيف شبابنا بالموسيقى. الموسيقى تضعّف روح الإنسان وتسلب الإنسان استقلاله الفكري. كان نصف نشاط الراديو والتلفزيون بث الموسيقى. حاولوا أن تتركوا الموسيقى. لا تزعموا أن الموسيقى هو أمر لازم للبلد المتطوّر. الموسيقى تخرّب أدمغة أطفالنا وتفسدها. إذا كانت الموسيقى تقرع أسماع الشابّ بشكل مستمر، فإنه لا يقدر على مواصلة العمل ولا يقدر على التفكير الجادّ. وهذا هو السبب من تأكيدى على حذفها. ولعلّى عشر مرّات أو أكثر قد أكدت على السيد قطب زاده (مسؤول الإذاعة والتلفزيون يومذاك) وقلت له أن احذف الموسيقى من الإذاعة، ولكنه يقول: «لا یمکن». أنا لا أعلم ما معنى «لا يمكن»؟ ولماذا لا يمكن؟ اسمعوا كلامي. أنا أقول إن عملنا بشيء لصلاح شعبنا، ثم جاء الغربيون أو المتغرّبون وعابوا علينا واتهموا فعلنا بالرجعيّة، فهل ينبغي أن نترك عملنا ونذهب وراءهم، أو يجب أن نرى مصلحتنا؟ يجب علينا أن نتأمل في أن هذا الجهاز الذي يجب أن يكون معلّما ومربّيا وبنّاء للشعب، لا ينبغي أن يديره الإنسان بطريقة بحيث يغفل الناس عن مقدّراتهم ويصبح همّهم هو الجلوس أمام التلفاز وتلقّي هذه البرامج بسمعهم وأبصارهم، ثم يفسد باطنهم بعد أيّام قليلة ويفرغ من محتواه. لا تخافوا من أن يرموكم بالرجعيّة. لق نسبوا لنا ذلك خمسين سنة، وليقولوا ذلك بعد هذا فها نحن كذلك. تلقوا هذه المسائل بجدّ ولا توجّهوا آذانكم إلى أوروبّا لتروا ماذا تقول. وإذا أردتم أن تحسنوا في العمل فلابدّ أن تفرّغوا الإذاعة والتلفزيون من القضايا المضعّفة لقلب الإنسان ولدماغة والتي تبعد الإنسان من إنسانيّته وتسلبه استقلاله الفكري.»[صحيفة الإمام(الفارسية)، ج9، ص156ـ158]
- كلما شاهد الإنسان أنه يعاني من ضعف غير معقول في حياته الدنيويّة، فليعرف بأنّه قد فرّ من جهاد النفس في أحد مواطنه.