لنذق طعم حلاوة ضيافة الله ـ 2
سماحة الشيخ بناهيان: هواجس وحلاوات الدخول في شهر رمضان
كتاب «مدينة الله؛ شهر رمضان وأسرار الصيام» ـ باللغة الفارسية ـ لسماحة الشيخ بناهيان والذي قد نزلت إلى الأسواق الطبعة الثامنة منه، يشتمل على نقاط ورؤى جديدة وعمليّة للانتفاع الأكثر من شهر رمضان وقد كتب بلغة سهلة وبسيطة. فوددنا أن نستقبل أيام شهر رمضان ولياليه الجميلة بمقاطع ومقتطفات من هذا الكتاب. فإليكم القسم الثاني من هذه المقاطع
حلاوات الدخول في شهر رمضان
- تحدثنا في القسم السابق عن هواجس الدخول في شهر رمضان. أما الآن فنضع كل الهواجس والخواطر والمخاوف والحديث الكثير والمتشعّب الذي يمكن ذكره في هذا المجال، على جانب، ونخوض في جانب آخر من مشاعر الدخول في ضيافة شهر رمضان. مضافا إلى مشاعر الشوق التي تنتاب الإنسان بطبيعة الحال عند حلول شهر رمضان المبارك والدخول في ضيافة الله الرحمن، لا يخلو حلول هذا الشهر من حلاوة بيّنة جدّا.
- يبدو أن هذا الشهر الكريم يذيق الإنسان المعنوية وحلاوة العبادة تلقائيّا، وحريّ بالإنسان أن يقدّرها كثيرا. وفي سبيل تقدير هذه الفرصة، علينا أن نقوم بعمل بسيط جدّا؛ وهو أن نفرّغ وقتا ما لكي نتمتّع بأكثر لذّة منذ بداية شهر رمضان.
- علينا أن نغطّ في هذا الحظّ المعنوي بقدر الإمكان، ونصنع أحلى الذكريات عبر انتهاز هذه الفرصة، وذلك من أجل أن ترجعنا هذه الذكريات إلى هذه الساعات المعنوية الأصيلة وتكون باباً للرجوع إلى الله بعد ذهاب هذه الفرصة. وأساسا أحد أسباب حلاوة الأيام الأولى من شهر رمضان هو تجديد ذكرياتنا المعنوية والممتعة عن السنين السابقة، كصوت دعاء السحر أو صوت دعاء خاص عند الإفطار، فقد اعتبرنا بعض هذه الأمور كعلامات لا تنفك عن شهر رمضان ولذلك تعلقنا بها وبالتأكيد إن الحظّ المعنوي الذي تعطينا هذه التعلقات ليس بقليل.
1ـ كون شهر رمضان جديدا/ ضرورة انتهاز هذه الطاقة المبدأية في سبيل الوصول إلى مقام الأنس
- أحد الأسباب البسيطة لهذه الحلاوة هو كونه جديدا، فبحد ذاته يبعث في الإنسان نشاطا وحيويّة. وهو ليس كصلواتنا اليومية التي أصبحنا نملّها وصارت عاديّة بسبب تكرارها. صحيح أن الاكتفاء بهذا السبب لا يكفي، فليس من الصحيح أن نحبّ شهر رمضان ونغتبط بإدراكه بمجرّد طراوته واشتياقنا إليه وما جاء به من أجواء جديدة، ولكنّه ليس بشيء سيّئ. فلابدّ أن نقدّر الحدّ الأدنى من الإيجابيات التي فينا لكي لا نُحرم من الدرجات الأقصى.
- إن «دوام الأنس مع الله» على الكثير من أمثالنا الذين لا نمتلك المعرفة الكافية ولم نقلع عن تعلقات الدنيا أمر عسير. ولكن ساعات تجديد العهد والصلح بعد الفراق هي لحظات حلوة وممتعة كما هو الحال في لحظات التعارف الممتعة.
- فلابدّ من انتهاز فترة طراوة شهر رمضان الأولى كرأس مال، لا للمستقبل البعيد، بل للأيّام الوسطى من شهر رمضان حيث تخفت هذه الطراوة. ينبغي أن ينتفع الإنسان بشهر رمضان أفضل انتفاع وذلك عبر إعداد برنامج عبادي خاص في أوقات هذا الشهر واستغلال الطاقة الأوّلية في الأيام الأولى منه.
- فبهذا الأسلوب كما يعيش الإنسان ساعات جديدة وممتعة في الأيام الأولى من شهر رمضان، ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة الأنس بهذا الشهر فهي تنطوي على حلاوة من نمط آخر. وبالتأكيد إن الحلاوة التي يذوقها الإنسان على أثر الأنس بشهر رمضان أعمق وأحلى بكثير من حلاوة الأيام الأولى. ولكن في سبيل دوام هذه الحلاوة المبدأية وإيصالها إلى مرحلة الأنس، لابدّ في وسط الطريق من تحمل بعض المعاناة ومقاومة حالة الإدبار.
2ـ الشعور بالحاجة إلى التقرّب
- السبب الآخر في حلاوة الدخول في شهر رمضان هو الشعور بالحاجة إلى التقرّب، والتي لا تدرك إلا بعد أن اقترب الإنسان شيئا قليلا. ففي ذلك الحين يدرك الإنسان كم أن فراق الله مرّ. فها هي حرارة محبة الله ورحمته التي يتحسّسها الإنسان بكل سهولة في طليعة الشهر لما يعاني منه من أوج برد الغفلة عنه. فعند ذلك يعي الإنسان مدى برد وجفاف الأجواء الخارجة عن دفئ رحمة الله ومحبته.
- فكأننا في خارج شهر رمضان نعتاد على ظروف الحياة بدون الله وعلى الغفلة عنه، أو على الأقل لا نشعر بمدى ضرورة التقرّب الشديد إلى الله. ولكن ما إن ندخل في هذا الشهر الكريم، نشعر كم أننا كنا بحاجة ماسّة إلى هذه المحبّة.
كالطفل المشغول باللعب، حينما يرى أمه فجأة
- نحن كالطفل الحَرِك الذي وإن كان قد انشغل باللعب والمرح بعيدا عن حضن أمه، وما إن وقعت عينه على أمه، يتذكر عطشه إلى حنانها، فيسرع باكيا إلى حضنها، ولكن بعد أن اطمأن قليلا في دفئ حنان أمّه، سرعان ما يلتفت إلى حوله باحثا عن شيء جديد يلعب به، فيغادر حضن أمه الحنون إلى الملاعيب التي لا قيمة لها، وقد نسي أنه كان قد فرّ منها باكيا إلى أمه قبل لحظات.
- مع هذا الفارق وهو أن الطفل يحتاج في مراحل نمائه إلى اللعب. والغفلة عن الأم نعمة لها لتستريح قليلا وتقوم ببعض شؤونها، ولكننا نستطيع أن نفهم هذه الحقيقة حتى لو كنّا في أوج البلاهة وهي أننا بحاجة إلى محبّة الله في كل لحظة، فلا ينبغي أن يكون كل حظنا من ذوق محبة الله محدودا بمجلس ضيافة رمضان، فليست أي غفلة عن حنان الله بنافعة لنا. وأي لعب يفصلنا عنه فهو لعب خطر ومدمّر ولابدّ من أخذ مضارّه على مأخذ الجدّ.
- ترى بعض الناس ـ وللأسف ـ لا يستأنسون بلقاء أقربائهم وأصدقائهم القدامى إلا بعد فراق طويل. وعلى العكس، أصحاب القلوب السليمة يحنّون إلى أصدقائهم بسرعة. وكذلك ترى بعض الناس لا يرغبون في التصالح إلّا بعد مضيّ فترة مديدة من الزعل. بينما قلوب أولياء الله الرقيقة لا تطيق البعد والهجران ويحنّون إلى الحديث مع الله خمس مرّات على الأقل يوميّا، فكأنهم لا يقدرون على أي خطوة ما لم يتحدّثوا مع اللّه مليّا.
ألا يسأم أولياء الله من صحبتهم مع الله؟
- طيّب، فلأسألكم سؤالا؛ ما هو شعور هؤلاء بحلول شهر رمضان والدخول في شهر الله؟ هل لأنهم مع الله دائما، فتصبح ضيافة شهر رمضان تكرارية لهم؟ وهل أن طراوة شهر رمضان هي خاصّة بالغرباء أو النائين عن جوار الله؟ أ وهل أنكم تزعمون مثل بعض العوام أنه إذا كنا مع الله دائما، فسوف نضجر منه؟ وهل أنكم تتساءلون كالغافلين أن ما هي نزهة أولياء الله الذين قضوا حياتهم كلها معه وأين التنويع في حياتهم؟!
- إنه لخطأ شائع وتصوّر باطل وقد تورّط به الكثير من الناس، فهم يزعمون أن أولياء الله إنما تحمّلوا الثبات مع الله، لأنهم نفضوا أيديهم من التنزّه وأنواع اللذات والمسرّات التي يحتاجها الإنسان بطبيعته، أو لأنهم فارقوا الدنيا وطلّقوها. والأجر الذي سينالونه يوم القيامة إنما بسبب العذاب الذي تجرعّوه في بقائهم مع الله. فإن أمثال هؤلاء العديمي الخبرة في الدين يزعمون أن معرفة الله لا تزيد عن إدراكهم البدوي عن الله والمؤمنون إنما يعكفون في المساجد ويكرّرون نفس هذه المفاهيم البدائية بلا أن يحظوا بأي إدراك وشعور جديد عن الله.
- لقد قال الإمام الصادق(ع) في حديث عميق وعرفاني: «لَوْ یَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِی فَضْلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ مَا مَدُّوا أَعْیُنَهُمْ إِلَی مَا مَتَّعَ اللَّهُ بِهِ الْأَعْدَاءَ مِنْ زَهْرَةِ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَ نَعِیمِهَا. وَ کَانَتْ دُنْیَاهُمْ أَقَلَّ عِنْدَهُمْ مِمَّا یَطَئُونَهُ بِأَرْجُلِهِمْ وَ لَنُعِّمُوا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ جَلَّ وَ عَزَّ وَ تَلَذَّذُوا بِهَا تَلَذُّذَ مَنْ لَمْ یَزَلْ فِی رَوْضَاتِ الْجِنَانِ مَعَ أَوْلِیَاءِ اللَّهِ. إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ آنِسٌ مِنْ کُلِّ وَحْشَةٍ وَ صَاحِبٌ مِنْ کُلِّ وَحْدَةٍ وَ نُورٌ مِنْ کُلِّ ظُلْمَةٍ وَ قُوَّةٌ مِنْ کُلِّ ضَعْفٍ وَ شِفَاءٌ مِنْ کُلِّ سُقْمٍ» [الكافي/ج8/ص247/ کتاب الروضة، ح347]
3ـ عيد أولياء الله؛ فرصة لتلبية احتياجاتهم
- حقيقة الأمر هي أن من بين جميع الناس إنّما الأولياء المتصلون بالله هم الذين يعيشون ضيافة عامرة في قلوبهم طوال أيام السنة في غير رمضان، وهم ضيوف الرحمان في الخلوة، ولا يذوق طعم الحضور في مجلس الضيافة أحد سواهم.
- وأساسا قد أقيم مجلس الضيافة لهؤلاء، وأمّا باقي الناس فهم على هامش المجلس. إن السبب الرئيس هو أن تلبّي احتياجات هؤلاء الأولياء، ثم يتنعّم أهل العالم جميعا من فضائل هذه المائدة الزاخرة بالفيض.
- إنّ تضاعف أجر أعمال شهر رمضان في الواقع من أجل ملء الوعاء المعنوي الواسع جدّا الذي يحظى به هؤلاء النيّرون العظام. فكأن رقّة قلبهم دفعت دعوات الجميع إلى مواطن الاستجابة في شهر رمضان. ولأنّ أجنحتهم أوسع من نطاق هذه الدنيا الضيّقة، ولا يتسنّى لهم الطيران والتحليق في الظروف العادية، فتحت لهم أبواب السماوات في هذا الشهر.
- ولذلك سمّي شهر رمضان عيد أولياء الله كما جاء في دعاء الإمام زين العابدين(ع): «اَلسَّلامُ عَلَیكَ یا شَهرَالله الأکبَرِ وَ یا عِیدَ اَولِیائِه» [الصحيفة السجادية/ الدعاء 45]
- هذا هو الدليل الثالث لبهجة شهر رمضان والذي هو مختصّ بأولياء الله، وقلّ من يعيش هذه التجربة. ولكن حسبنا أن يحلو لنا الاستماع عن بهجتهم، ممّا يشدّد أمنية النيل إلى هذا المقام وتجربة تلك الساعات في قلوبنا. فإنه علامة جيّدة.
دخول ضيوف الرحمن الخواصّ في مدينة الله
- إن ضيوف الرحمن الخواصّ يبدأون هذا الشهر منذ اليوم الأول بحرارة مضاعفة ويدخلون مدينة الله بشوق وحماس أعلى. فهم يعرفون المدينة تماما، ويعلمون إلى أي أزقة يتجهون وفي أي بيوت يسكنون. فلا ينظرون إلى هنا وهناك مستطلعين، ولم يكن شوقهم وحماسهم ناجما من كون المناظر جديدةً تجلب الأنظار. يفتحون أجنحتهم وكأنهم يريدون أن يحتضنوا المدينة برمّتها ويقبّلوا طلعتها البيضاء كوجه القمر. وفي نفس الوقت إذا رأيتهم، سترى غبرة حزنهم من غروب آخر يوم من شهر رمضان، بيّنة في دموع شوقهم:
- «السَّلَامُ عَلَیْكَ مِنْ مَطْلُوبٍ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَ مَحْزُونٍ عَلَیْهِ قَبْلَ فَوْتِهِ» [المصدر نفسه]. فإنهم لا يغفلون عن مغادرة شهر رمضان اغترارا بالأيام الباقية من، فهم من اليوم الأول كمن يعيش آخر لحظات هذا الشهر وقد عقد أمله باللّه وحده في أن لا يخرج من هذا الشهر خائباً. فأملهم منذ اليوم الأول في ربّ اليوم الأخير ولم يباهوا بطاقتهم وقابليّتهم في العبادة.