تحمّل المسؤولية والاستقلالية أهم مؤشرات الولائية (المحاضرة 4)
الذي يقنع بـ"قليل اللذّة والمنفعة" يمكن سلبُه استقلاليّته بسهولة/ الشعب الذي يفرّط باستقلاليّته تتلاشى "مصالحه" وتذهب "عزّته" أيضًا
الهويّة:
المكان: كلية الإمام علي(ع) الحربية، موكب "ميثاق با شهدا" (العهد مع الشهداء)
الزمان: 03/ محرم/ 1443 - 12/ آب/ 2021
A4|A5 :pdf
معنى الاستقلاليّة وارتباطها بـ«العزّة» في كلام الإمام القائد
- أتلو عليكم في مستهلّ الكلام فقرةً من كلام الإمام القائد الخامنئي (دام ظلّه) قالها قبل حوالي واحد وعشرين عامًا، أيّ في العام 2000، كي تعرفوا كم من السهل أن يُهمَل كلام سماحته ولا يُؤخذ به كما يلزم، ولأُبيّن – من ناحية أخرى – أنّي لستُ متفرّدًا كثيرًا في طرح موضوع الاستقلاليّة، وأن تعلموا، حين أُولِي أنا هذا الموضوعَ أهمّيّة، ما الملاحظات التي طرحها سماحته حول أهمّيّة مفهوم الاستقلاليّة هذا، وهو الحكيم الذي ينظر إلى الأمور من أعلى، ويرصُدها، ويحمل من علوم الدين ما يكفي، والسابق لزماننا بكثير. (على أنّ سماحته أشار أيضًا في موضع آخر إلى ما يشبه هذا الأمر).
- يقول سماحته: "شعار ثورتنا الأساسيّ هو هذه الكلمات الثلاث: الاستقلال، الحرّيّة، الجمهوريّة الإسلاميّة. والجمهوريّة الإسلاميّة هي هذا النظام الذي نزل إلى الميدان وراح يَمضي قُدُمًا ويشقّ طريقه بجهوده وبما يواجهه من تحدّيات. شعار "الحرّيّة" هو من الشعارات الشديدة الجذّابيّة، والمتكرّرة، وقد قيل فيه ما قيل، وحُرِّرَت فيه المقالات، وأُلِّفَت الكتُب، ورُفعت الشعارات. لقد قيل في الحرّيّة كلام كثير، بعضه باعتدال، وبعضه الآخر بإفراط، وبعضه الثالث بتفريط، وقد ظلّ هذا الشعار حيًّا، أمّا شعار "الاستقلال" فقط بقي – خلافًا للشعارين الآخرَين – في عزلة (أي خلافًا لشعارَي الحرّيّة والجمهوريّة الإسلاميّة اللذَين يُرفعان باستمرار). وإنّ شعار الاستقلال هو من أهمّ الشعارات، وإنّه بمعزل عن الاستقلاليّة لا يمكن لشعب أن يأمُل بحرّيّته أو بشعارها خيرًا. ويحاول البعض – إمّا عن عمد، أو سهو، أو غفلة، أو دناءة – أن يدفع بموضوع الاستقلاليّة إلى غياهب النسيان. وأريد اليوم أن أتحدّث إليكم أيّها الإخوة الأعزّة والأخوات العزيزات، بما يسمح به الوقت، بمواضيع تتّصل بمسألة الاستقلاليّة" (في خطاب لسماحته في حشد من أهالي قمّ المقدّسة في 5/10/2000).
- ويتابع سماحته: "ما معنى الاستقلال؟ ما مفهومه؟ وما القيمة التي يحملها بالنسبة إلى شعبٍ ما؟ الاستقلاليّة هي أن يحدّد الشعب مصيره بنفسه، فلا تمتدّ إليه أيادي الغرباء، ولا يرسموا له مصيره بدوافع الخيانة والأغراضال دنيئة. هذا هو معنى الاستقلاليّة. ولو أنّ شعبًا سُلِب استقلاليّته؛ أي لو أمسك الغرباء – وهم غير الشفوقين عليه بالتأكيد – بزمام مصيره فسيفقد شيئَين: الأوّل عزّة نفسه، ومفاخره، وإحساسه بهويّته، والثاني مصالحه" (المصدر السابق نفسه).
- لاحظوا كَم يصرّح هنا بالارتباط بين الاستقلاليّة و"العزّة" بوضوح، وهو ما تداولنا به في بضع محاضرات. كما أنّه حين يقول: إنّ "الاستقلاليّة هي أن يحدّد الشعب مصيره بنفسه"، فإنّ هذا يَصدُق على الفرد أيضًا؛ أي إنّ على الفرد أن يأخذ هو على عاتقه تحديد مصيره، وسنتحدّث أكثر حول هذا الموضوع في الليالي التالية.
في ثقافة مجتمعنا لم يؤكَّد على موضوع الاستقلاليّة إمّا خطأً أو عن دناءة
- في ثقافة مجتمعنا، إمّا خطأً أو عن دناءة، لم يؤكَّد على موضوع الاستقلاليّة. ودعونا نتكلّم الليلة كلامًا مختلفًا لنناقش محلّ مفهوم الاستقلاليّة هذا في مجتمعنا من الإعراب، لماذا يرحّب شبّانُنا كلّ هذا الترحيب بطرح هذا الموضوع؟ ولماذا هو مهمّ؟ ولماذا لم يُتناول إلى الآن بشكل جيّد، أهو ذنب الحوزة العلميّة والجامعة؟ أم ذنب السياسيّين؟ لا بدّ من مناقشة ذلك قليلًا.
- أي نودّ أن ننظر إلى موضوع الاستقلاليّة من الخارج. قد لا نفلح في التوغّل فيه كثيرًا هذه الليلة، لكنّ أمثال هذه الحوارات ضروريّة لكي يُعلَم السبب من وراء اختيار موضوع مثل الاستقلاليّة، وأنّه لِمَ علينا الاهتمام به؟ وما الذي يتوجّب علينا صنعه من أجله؟
مشكلتان أساسيّتان تعيق الاهتمام بمفهوم الاستقلاليّة في مجتمعنا
- هناك في مجتمعنا مشكلتان أساسيّتان تعيق الاهتمام بمفهوم الاستقلاليّة. لماذا اهتمام الشخص أو الشاب بمفهوم الاستقلاليّة قليل؟ لو أراد الشخص أن تمثّل الاستقلاليّة له – حقًّا – قيمة تدخل في صياغة هُويّته فلا بدّ أن يشعر مع هذه الاستقلاليّة بالعزّة، وأن يشعر إذا غابت عنه بالمذلّة، وأن يحسّ إذا فقدَ الاستقلاليّة روحيًّا أنّه أصبح ذليلًا.. هكذا يجب أن يكون الشاب.
- إنّ سبب لذّتك لدى إقامة عزاء أبي عبد الله الحسين(ع) هو أنّه(ع) نادى بالاستقلاليّة، بل بما هو أعلى وأكمل من الاستقلاليّة، وبما هو نتيجتها، وهو "العزّة"، وقد ثَبَت وبذَلَ دمَه من أجل هذه العزّة. إنّك لو لمستَ ذلك في سيرة حياة أيّ شخص لأثنيتَ عليه. طيّب، فماذا عن سيرة حياتك أنت؟ لا يدَع أيُّ واحد منكم استقلاليّته تتضرّر.
إذا أراد بلدُنا الاستقلال فلا بدّ أن يكون كلّ فرد فيه مستقلًّا
- إذا أراد بلدنا الاستقلال فلا بدّ أن يكون كلّ فرد من أفراده مستقلًّا. وإذا أراد بلدنا أن يكون عزيزًا فلا بدّ أن يكون كلّ فرد من شعبه عزيزًا، وإلّا فهناك من السياسّيين من سيُنَظّر للتبعيّة بعيدًا عن روح المطالبة بالاستقلاليّة والعزّة، وسيحصد أصوات الجماهير، فيجرّ على الشعب الويلات، ثم يقف الشعب حائرًا يتساءل: من أي ناحية أتاه الضرر؟! تضرّرنا من حيث لم يُولِ البعضُ للاستقلاليّة والعزّة أهمّيّة كبيرة. ولعلّي سأتناول بعض هذه الأمثلة بقليل من التوضيح في الليالي القادمة.
- ثمّة في مجتمعنا عائقان يمنعاننا من التطرّق إلى الموضوع الاستقلاليّة، ومن أن يكون لنا مجتمع يهتمّ بهذا الأمر، ومن أن يركّز كلّ واحد من شبّاننا على موضوع الاستقلاليّة. فمن المهمّ جدًّا أن نعرف لماذا لا يتناول الناس مسألة الاستقلاليّة ولا يهتمّون بقضيّة العزّة؟
العائق الأوّل أمام الاستقلاليّة والعزّة هو القناعة بقليل اللذّة والمنفعة
- السبب الأوّل لهذا هو أنّ حبّ اللذّة الضحلة وطلب المنفعة الضئيلة يَحُولان دون استقلاليّة الإنسان في مجتمعنا، وفي باقي المجتمعات البشريّة نوعًا ما. فمَثَلُنا مَثَل الدجاجة المنزليّة إذ توضَع أمامنا بعض الحبّات فنجلس ونلتقط حبّاتنا، ثمّ يحتزّون رقابَنا في العرس أو المأتم، وينتهي الأمر!
- فالقناعة بالقليل من اللذّة والمنفعة يجعل المرء لا يفتّش عن استقلاليّته وعزّته؛ ذلك أنّه يتحتّم عليك، لبلوغ العزّة والاستقلاليّة، أن تتنازل عن بعض هذا القليل لتنال منفعةً أعظم بكثير، ولذّة أرقى بأضعاف.
- أنا شخصيًّا، على مدى هذه السنوات الثلاثين التي تلت حقبة الدفاع المقدّس، لم أعثر ببساطة على شابّ يتمتّع بمثل ذلك النشاط والحيويّة والاستمتاع بالحياة التي كان المجاهدون في تلك الأيّام يعيشونها في جبهات القتال. كانت الحال حالًا أخرى، وكان الشعور شعورًا آخر. بالطبع أنتم الذين ترتادون المجالس الحسينيّة تعيشون شيئًا من ذلك، وتجرّبون مقدارًا أكبر منه في الزيارة الأربعينيّة، لكنّ الجبهة كانت شيئًا آخر تمامًا، وإنّ الرائي غير السامع. ولم نستطع إلى الآن إنتاج فلم راقٍ عن تلك الأحداث. أكان ينقصنا منتجُو أفلام يستطيعون أن ينقلوا أجواء الجبهة؟ بالطبع، البعض يدّعي أنّه لا يمكن نقلها على الإطلاق، لكنّني أرفض هذا الكلام، إنّه نحن الذين نفتقر إلى هذا الفنّ!
لماذا برز هذا العائق في مجتمعنا؟/ التربية الدينيّة في مجتمعنا لم تكن في الغالب صائبة
- إذن لاحظوا أنّه ثمّة مانع طبيعيّ من الاهتمام بمسألة الاستقلاليّة، وبقضيّة العزّة. لكن التفتوا جيّدًا.. لقد دفع الإمام الحسين(ع) وأولاده ثمنًا باهضًا ليجرّونا جَرًّا إلى إدراك مفهوم العزّة والاستقلاليّة! لم يكن عملًا سهًلا، إنّها معجزة. إنّك قد تلطم الصدر، وتعزف الموسيقى، وتُنشد الشعر، وتضبط الإيقاع، وتصرخ، وتمارس الفنّ التشكيليّ، ومختلف الأعمال التي تتكاتف فيما بينها من أجل أن تؤكّد أنت على مفهوم العزّة والاستقلاليّة، لكنّ الإمام الحسين(ع) بذل دمه لأجل ذلك! ليس الأمر مزاحًا!
- على الرغم من أنّ الناس يحبّون العزّة والاستقلاليّة لكنّك إن تركتهم وشأنهم لا يسعَون هم وراءهما كثيرًا. ثمّة عامل تربويّ وثقافيّ وراء ذلك. وكيف لنا إزالة هذا العائق الثقافيّ والتربويّ الذي يَحُول دون الاهتمام بالعزّة والاستقلاليّة؟ سأتحدّث لاحقًا عن طريقة إزالته.
- لكن ما الذي أَحْدَثَه هذا العائق؟ الإنسان إنسان على أيّة حال، تملأ اللذّات والمنافع الضحلة عينَيه فيلهث وراءها، لكنّ المشكلة هي أنّ التربية الدينيّة المعمول بها في مناهجنا المدرسيّة والمطروحة في مساجدنا وعلى منابرنا هي في الغالب غير صحيحة! فمع احترامي الشديد لجميع المعلّمين وأصحاب المنابر الدعويّة، ودروس تبليغ الدين وتعليمه في الحوزات والجامعات أنا أعلن بكلّ صراحة أنّ أكثر الدروس الدينية تقريبًا لا تجدي نفعًا، بل لا ينبغي تدريسها وطرحُها، ولا بدّ من تدريس أمور أخرى وطرحها محلّها! لا أدري متى ينبغي أن يحصل هذا التحوّل في البلد وفي الحوزة العلميّة؟ لكن ما أعلَمه هو أنّ الإمام الراحل(ره)، وهو الذي تتلمذ على يد المرحوم الشاه آبادي(ره) ودرس في مدرسته، كان يقول في يوم من الأيّام [أيّام النظام البائد]: "أعطونا الإذاعة ساعةً واحدة وانظروا ماذا سنصنع!". لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟ أُعطينا مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون برمّتها، ليس لساعة واحدة، بل لأربع وعشرين ساعة، وبمختلف موجاتها وقنواتها، لكنّنا فشلنا في إِحداثِ ذلك الأثر الذي كنّا نرغب في إِحداثه. لماذا؟ لأنّنا ما عملنا هنا على تطبيق دروس أستاذ الإمام الخميني(ره)، بل أتينا بأمور أخرى وطبّقناها! نعم، الأمور الدينيّة التي تُطرح الآن ليست خطأً، لكنّ المشكلة هي أنّنا لا نبدأ من النقطة الصحيحة، ولا نؤكّد على تلك النقاط الأساسيّة الضروريّة التي ينبغي التأكيد عليها.
- ما أودّ قوله: هو أنّ التربية الدينيّة والأخلاقيّة في مجتمعنا هي أساسًا خاطئة في بعض الأحيان؛ على سبيل المثال: إنّ من الخطأ بالمَرّة أن تَطرُق بابَ ربّك بعد أن تنهكك النوائب، وتصاب بالعجز، وتصير تابِعًا وذليلًا لهذا وذاك! قِف بثبات قليلًا يا هذا!.. اِحسِب نفسَك عزيزًا بعض الشيء!
- إنّ بعض التعاليم الدينيّة التي تُطرح في مجتمعنا هي ليست عاجزة عن تقوية روح العزّة في الفرد فحسب، بل وتغرس فيه روح التبعيّة التي تَسِم العاجز العديم العزّة. ولا أريد الآن الدخول في المصاديق، لكن ما أودّ قوله هو أنّه: ما كلّ إنسانٍ متواضع، ذي حياء، ساكت، مستقيم هو آدميًّا، وما كلّ أخلاقٍ حسَنة في الظاهر أخلاقًا! ولقد دأبتُ، في مثل هذه المواطن، بغية الإيجاز، على ضرب المثال التالي:
الصبر والشكر أيضًا إنْ لم يُعَلَّما جيدًا لا يعملان على تكامل صاحبهما
- المثال هو لرجل سأل الإمام الصادق(ع) عن معنى الفتوّة (وهي درجة واطئة من الإنسانيّة، أمّا التديّن فهو أعلى منها بكثير)؛ «سأل شقيقُ البلخيّ جعفرَ بن محمّد الصادق(ع) عن الفُتُوَّة فقال: ما تقول أنت؟ قال: إِنْ أُعْطِينا شَكَرْنا وَإِنْ مُنِعْنا صَبَرْنا. قال(ع): إنَّ الكِلابَ عِندَنا بِالمَدينَةِ هذا شَأنُها! وَلكنْ قُلْ: إِنْ أُعْطِينا آثَرْنا وَإنْ مُنِعْنا شَكَرْنا» (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد/ ج11/ ص217).
- أوَهل التعليم على الصبر سيّئ يا شيخ؟! أم أنّ الوعظ بالشكر بذيء؟! ماذا عساني أقول؟! لكن قد يُغرَس الصبر والشُكر في النفس بطريقة لا تجعل المرءَ إلّا في حَدّ الكلب!
- تفسير الإمام الصادق(ع) للفتوّة – بحسب الرواية – هو أنّ عليك أن تشكر إذا مُنِعتَ من النعمة، وأن تُؤثِر غيرك على نفسك أذا أُعطيتَها! هذه هي الفتوّة، في حين أن تفسير السائل للفتوّة هو أنّك إذا أُعطيتَ النعمةَ يجب أن تشكر وإِنْ مُنِعتَها فعليك أن تصبر.
- كان موضوع بحثنا في العام الماضي هنا هو "المواساة" ولقد ذَكَرنا: أنّ مِن غير المروءة أن لا نعيش عيش المواساة. ما يؤسَف له هو أنّ أساليب تعليم الدين السائدة في مجتمعنا خاطئة في الأعَمّ الأغلب. فقد نجد في أحاديث أهل البيت(ع) أنّه لا قيمة لجهادك إذا كان بدافع غريزة الشجاعة عندك، بل لقد شبّهوا جهاد بعضهم بقتال الكلب دون جِرائه؛ «..وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُقاتِلُ بِطَبعِهِ مِنَ الشَّجاعَةِ فَيَحمي مَن يَعرِفُ وَمَن لا يَعرِفُ وَيَجبُنُ بِطَبيعَتِهِ مِنَ الجُبنِ فَيُسلِمُ أَباهُ وَأُمَّهُ إِلى العَدُوِّ وَإِنَّما المَآلُ حَتفٌ مِنَ الحُتوفِ وَكُلُّ امرِئٍ عَلى ما قاتَلَ عَلَيهِ وَإِنَّ الكَلبَ لَيُقاتِلُ دُونَ أَهلِه» (الغارات/ ج2/ ص343).
- لقد تقدّم مجتمعُنا في الوقت الحاضر خطوات إلى الأمام، ولا ينبغي لك أن تجعل من اعتقاد الناس بالله تعالى رأسمالٍ لرضاك عن الوضع القائم، بحيث لا تهبّ في وجه الظلم، إذ سيوضَع الدين - حينذاك - في خدمة الرضوخ للظلم! فلا بدّ أن تكون دروسنا الدينيّة وأساليبنا التربويّة بطريقة لا يأبَه معها المراهق ذو الخمسة عشر أو الستة عشر عامًا، حين يتخرّج من الثانويّة، بسخرية الآخرين به من عدمها؛ أي أن يكون على درجة عالية من الاستقلاليّة تجعله لا يهتمّ إذا سخر به الآخرون.
- في رواية عن الإمام الرضا(ع) تنقد – في واقع الأمر – الأخلاقَ بالحدّ الأدنى يوجّه فيها الناس أن إذا رأيتم شخصًا لا يعصي الله فلا تنخدعوا به، فلعلّه ضعيف جَبُنَ عن المعصية؛ «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ حَسُنَ سَمْتُهُ وَهَدْيُهُ وَتَمَاوَتَ فِي مَنْطِقِهِ وَتَخَاضَعَ فِي حَرَكَاتِهِ فَرُوَيْدًا لا يَغُرَّنَّكُمْ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُعْجِزُهُ تَنَاوُلُ الدُّنْيَا وَرُكُوبُ الْحَرَامِ مِنْهَا لِضَعْفِ نِيَّتِهِ وَمَهَانَتِهِ وَجُبْنِ قَلْبِهِ فَنَصَبَ الدِّينَ فَخًّا لَهَا» (الاحتجاج/ ج2/ ص320). إذن ليس من المجدي أن ترتدع عن الذنب بأيّ ثمن. يقول الواحد منهم: "لكنّني، في النهاية، لم أذنب يا شيخ!". "حسنٌ، لكنّك قد تكون جبانًا على المعصية!" بالمناسبة، الحديث الآنف الذكر طويل، وفيه يواصل الإمام الرضا(ع) تعداد أنواع الصالحات ويُضعِفها الواحدة تلو الأخرى!
- لو كانت مناهجنا التربويّة الدينيّة صائبة وركّزتْ حقًّا على تلك النقطة التي ينبغي التركيز عليها لاستطعنا تخطّي هذه الأزمة الثقافيّة بسلام، وهو أن لا تتحوّل العوائق أمام نزوع كلّ فرد من أفراد المجتمع نحو الاستقلاليّة والعزّة – الذي هو أعظم من فعلِ الصالحات وأشدّ منها قيمة – أن لا تتحوّل إلى عرف سائد في المجتمع.
- على أنّ العائق لا ينحصر في مناهج تعليم الدين وحسب، فهناك – من الناحية الثقافيّة – الغزو الثقافيّ الغربيّ الذي يضخّ سمومه على مدار الساعة، وأسباب اللهو المبتذَلة التافهة التي تجرّك إلى التعلّق بها حتّى لا تفكّر في استقلاليّتك، بل ولا تخطر هذه المواضيع الراقية على بالك أبدًا. الأعداء – على أيّة حال – يقومون بواجبهم، فيقصفون عقولَ الناس على نحو موصول بثقافة الانشغال بالحدّ الأدنى من اللذّات والمنافع. فأعداؤنا - من ناحيتهم - يعملون على ترسيخ هذه الثقافة، وإنّ الدعوة الدينيّة ومناهج التربية الدينيّة التي يمارسها أهل الدين – من ناحية أخرى – هي أضعف من أن تستطيع هزيمة هذه الثقافة.
الطبع الإنسانيّ يَقنَع باللذّة الضحلة وليس بميّال إلى التنازل عنها
- إذن التحدّي أو العائق الأوّل هو أنّ الطبع الإنسانيّ يَقنع باللذّة الضحلة وليس بميّال إلى التنازل عنها، ويرضى بالمنفعة القليلة ولا يجد في نفسه الاستعداد للتفريط بها. إنسان كهذا من الممكن أن يُسلَب استقلاليّتَه. إنّ من واجب التربية الدينيّة والثقافة المجتمعيّة أن تُعِين الفرد على تجاوز هذه المشكلة، غير أنّنا نعاني في هذا المجال من مشاكل ثقافيّة وتربويّة.
- الشخص المستقلّ ينال كلّ شيء ويبلغ كلّ مقام، وإنّ من المقرَّر – أساسًا - أن توضع الأعمال الخيّرة في خدمة هذه القيمة الجوهريّة، لكن ما الذي جعل موضوع الاستقلاليّة في مجتمعنا قَلّما يُتطرَّق إليه، على حدّ قول الإمام القائد الخامنئيّ؟!
العائق الثاني أمام طلب الاستقلاليّة هو الثقافة "الإنسانيّة" الغربيّة
- وبمعزل عن القناعة بالحدّ الأدنى من اللذّة والمنفعة فإنّ العنصر الآخر الذي يقف تحدّيًا لطلب الإنسان للاستقلاليّة وعائقًا أمامه هو الثقافة "الإنسانيّة" الغربيّة؛ فلقد برزت في العالم ثقافة راحت تروّج لنمط زائف من الاستقلاليّة، والعزّة، والقيمة تحت عناوين برّاقة مثل "الحرّيّة" و"حقوق الإنسان". ولقد انكشفت خدعة الحرّيّة وحقوق الإنسان في الغرب منذ سنين، لكنّ بعض المتخلّفين استوردوا هذه الثقافة لتوّهِم وراحوا ينشرونها هنا، على أنّ صخبَهم قد خمد قليلًا مؤخّرًا ولم يعد في جعبتهم الكثير ليقولوه؛ مثل: المجتمع الأمريكي مجتمع مثاليّ! أو: المجتمع الفرنسيّ أو البريطانيّ مثاليّ! فما الذي جعل هؤلاء، وهم - بحسب ما يدّعون - في قمّة الحرّيّات وحقوق الإنسان، ينتهون إلى ذروة العجز والتنمّر؟ فهم مع غيرهم متنمّرون، وأمام أنفسهم عاجزون!
الغربيّون يحقنون المجتمع بعقار زائف عوضًا عن الاستقلاليّة
- ماذا يحصل إذا حقنتَ المجتمع بعقار زائف أو مُسَكِّن شكليّ عوضًا عن الاستقلاليّة؟ وأستطيع أن أُريكم ذلك في بعض الكتب المدرسيّة أيضًا؛ أي إنّ بصمات هذا العقار الزائف الذي يعطونه للطلاب عوضًا عن الاستقلاليّة موجودة في كُتُبنا المدرسيّة أيضًا!
- لماذا يقول الإمام القائد الخامنئيّ: إنّ البعض يرفضون الكلام في الاستقلاليّة عن دناءة وعمد؟ مع أنّهم أنفسَهم يتحدّثون عن الحرّيّة بقدر ما تُحِبّ وتخفق لها قلوبهم كلّ خفقان! لماذا؟ لأنّ في التكتّم على الاستقلاليّة نفعٌ للصهاينة وطواغيت العالم. أتصدّق بأنّ أمريكا تنفق الدولارات لكي تتكلّم أنت في بلدك هذا في الحرّيّة وتحذف قصص الشخصيّات المستقلّة، مثل الشهيد حسين فهميدة، من كتبك الدراسيّة؟!
- لكنّ الحرّيّة – في الواقع – جزء من الاستقلاليّة، فلماذا تحرّم علينا الكلام في الاستقلال وقد بذلنا الدماء من أجله؟ لأنّ هذا يصبّ في مصلحتهم؛ فبالاستناد إلى وثيقة 2030 يستنتجون أنّه لا ينبغي أخذ الطلّاب لزيارة مقابر الشهداء، فيمنعون مثل هذه الزيارات، بل وصل الأمر في بعض المناطق إلى إصدار تعميم إداريّ يقضي بمنع اصطحاب الطلّاب إلى مزارات الشهداء. بالطبع هذا لم يصرَّح به في وثيقة 2030 لكنّهم يستنجون ذلك منها وقد طبّقوه في بعض المدن! فتراهم – مثلًا – لا يصطحبون الطلّاب إلى مواقع استشهاد الشهداء ورحلات قوافل النور [إلى مناطق عمليّات الدفاع المقدّس في جبهات القتال]، لكنّهم يتلون على مسامعهم عشرات الأناشيد في الحرّيّة!
الغربيّون يحقنون المجتمع بعقار زائف عوضًا عن الاستقلاليّة
- ماذا يحصل إذا حقنتَ المجتمع بعقار زائف أو مُسَكِّن شكليّ عوضًا عن الاستقلاليّة؟ وأستطيع أن أُريكم ذلك في بعض الكتب المدرسيّة أيضًا؛ أي إنّ بصمات هذا العقار الزائف الذي يعطونه للطلاب عوضًا عن الاستقلاليّة موجودة في كُتُبنا المدرسيّة أيضًا!
- لماذا يقول الإمام القائد الخامنئيّ: إنّ البعض يرفضون الكلام في الاستقلاليّة عن دناءة وعمد؟ مع أنّهم أنفسَهم يتحدّثون عن الحرّيّة بقدر ما تُحِبّ وتخفق لها قلوبهم كلّ خفقان! لماذا؟ لأنّ في التكتّم على الاستقلاليّة نفعٌ للصهاينة وطواغيت العالم. أتصدّق بأنّ أمريكا تنفق الدولارات لكي تتكلّم أنت في بلدك هذا في الحرّيّة وتحذف قصص الشخصيّات المستقلّة، مثل الشهيد حسين فهميدة، من كتبك الدراسيّة؟!
- لكنّ الحرّيّة – في الواقع – جزء من الاستقلاليّة، فلماذا تحرّم علينا الكلام في الاستقلال وقد بذلنا الدماء من أجله؟ لأنّ هذا يصبّ في مصلحتهم؛ فبالاستناد إلى وثيقة 2030 يستنتجون أنّه لا ينبغي أخذ الطلّاب لزيارة مقابر الشهداء، فيمنعون مثل هذه الزيارات، بل وصل الأمر في بعض المناطق إلى إصدار تعميم إداريّ يقضي بمنع اصطحاب الطلّاب إلى مزارات الشهداء. بالطبع هذا لم يصرَّح به في وثيقة 2030 لكنّهم يستنجون ذلك منها وقد طبّقوه في بعض المدن! فتراهم – مثلًا – لا يصطحبون الطلّاب إلى مواقع استشهاد الشهداء ورحلات قوافل النور [إلى مناطق عمليّات الدفاع المقدّس في جبهات القتال]، لكنّهم يتلون على مسامعهم عشرات الأناشيد في الحرّيّة!
المشكلة الرئيسة هي أنّنا لم نستطع أن نعكس حقيقة الدين للناس
- إذن نحن نشكوا من مشكلتَين: الأولى هي أنّنا أنفسَنا لا نستطيع أن نعكس حقيقة الدين وذلك الجانب الجميل والمشرق منه؛ الجانب الذي إذا انعكسَ بشكل دقيق لخطف قلوب أهل العالم أجمع، حتّى من غير المسلمين. فلو قلتَ لأيّ شخص في العالم: إنّ الدين أساسًا يريد استقلاليّتك؛ أي يريدك أن لا تكون أسيرًا لأحد، وأن تحدّد أنت واجبك لنفسك، و..إلخ، وأنّ أساس القيمة، بل ومنتهاها في ديننا هي هذه، لقال لك بطبيعة الحال: "مرحى"، ولقد اختبرتُ هذا في بقاعٍ كثيرة من العالم، مع أنماط شتّى من البشر؛ منهم الفوضويّون ومنهم الأذكياء جدًّا.
- أحيانًا، عندما أتحدّث بهذه الطريقة في أقطار العالم المختلفة يقول لي بعض المفكّرين هناك: "لكن هذا الذي تقوله ليس دينًا!" فأقول: "وما هو تصوّرك عن الدين؟ أهوَ تلك الحفنة من المعتقدات الهزيلة غير العقلانيّة التي كانت في القرون الوسطى، والتي ليس في جعبتها سوى أن تقول لك: قَدِّسْ هذه الأمور ولا تنطق بكلمة؟!" أقول لهم: "أصل الدين هو هذا الذي أقوله".
المشكلة الثانية هي أنّ أعداءنا خدعوا الناس بكلام زائف
- من ناحيةٍ نحن لم نَعرِض الدين للناس على نحو سليم ولم نبيّن وجهه الإنساني بشكل جيّد، ومن ناحية أخرى بَثَّ أعداؤنا كلامًا زائفًا انخدع به كلّ مَن يخفق قلبُه للإنسانيّة فتناول هذا العقار الزائف، ولهذا وصلنا إلى الحال التي نحن عليها اليوم.
- لكن هل ثمّة علاج لهاتين المشكلتين؟ أجل، ودعوني أتلو عليكم قولًا للإمام الراحل(ره) كان قد خاطب به الحوزات العلميّة، والأخيرة بالطبع لم تطبّقه كثيرًا! (أحببتُ أن أبيّن السبب وراء ذلك وستقولون لي، أنتم مخاطَبي هذا الكلام: لماذا لم نسمع بهذه المواضيع من قبل؟)
- في حوالَي العام الأخير من عمره الشريف، أي في صيف العام 1988م كتب سماحة الإمام الراحل(ره) هذا الكلام، أي إنّه يتّصل بما بعد الحرب، وقبوله بقرار مجلس الأمن، وتجرّعه "كأس السم"، حيث لم يخطب في تلك المدّة خطابًا عامًّا واكتفى بإصدار بضع بيانات، هي في غاية الأهمّيّة، يوضّح فيها "ما الذي يتوجّب علينا صنعه بعد الحرب؟"
الإمام(ره): إن لم تتعاملوا مع الشباب جيّدًا فسيقعون في فخاخ الليبراليّين
- يقول سماحته في بيان أصدره في الذكرى السنويّة للمجزرة الدمويّة بمكّة المكرّمة: "أسأل الله تعالى أن يكون علماء الدين والمعمّمون عارفين بجميع أبعاد مسؤوليّاتهم وجوانبها، لكنّني أقول من باب التذكير والتأكيد..." (صحيفة النور/ ج21/ ص98) ويوضّح سماحته أنّ شباب اليوم لهم رأي يطرحونه في القضايا الدينيّة وعليكم التعامل معهم تعاملًا جيّدًا، وإلّا ماذا سيحصل؟ إنّهم سيقعون في فخاخ الليبراليّين. ومَن هم الليبراليّون؟ هم أولئك الذين يطرحون للمجتمع الأنموذج الزائف للإنسانويّة وقيمة الإنسان.
- ثمّ يتابع سماحته: "وإلّا سوف يقعون – لا سمح الله - في فخاخ الليبراليّين والقوميّين أو اليساريّين والمنافقين، وما خطيئة هذا بأقلّ من الالتقاطيّة" (المصدر السابق نفسه). وما هي الالتقاطيّة؟ إنّها المدرسة التي تُخَرّج الإرهابيّين، الذين كبّدونا سبعة عشر ألف شهيد! على هؤلاء كان يُطلق مصطلح الالتقاطيّين، وإذا بسماحة الإمام الراحل(ره) يعلن أن خطر ترك الشباب ينجرفون نحو الثقافة الليبراليّة ليس بأقلّ من هذا!
- ويضيف سماحته: "لقد اعتادت الجامعات والمراكز غير الحوزويّة على ثقافة التجربة ولمس الحقائق أكثر من الثقافة النظريّة والفلسفيّة" (المصدر السابق نفسه)، بمعنى أنّ الثقافة النظريّة والفلسفيّة خاصّة بالحوزة وأنّ الثقافة التجربيّة والواقعيّة تخصّ الجامعات. فبأيّ طريقة يُبحث الدين في الحوزة العلميّة؟ يُبحَث نظريًّا. وكيف تتناول الجامعة القضايا الاجتماعيّة والإنسانيّة؟ بشكل واقعي وتجريبي.
تملّص الكثيرين من الدين يرجع إلى خلل في أدبيّاتنا نحن طلبة العلوم الدينيّة إذ لا نحلّل الدين بواقعيّة
- وهنا يقول سماحة الإمام(ره) بكل وضوح: "لا بدّ - عبر التأليف بين هاتين الثقافتَين وتقليص المسافات - من انصهار الحوزة والجامعة إحداهما في الأخرى لتتّسع الساحة أمام تنمية المعارف الإسلاميّة ونشرها" (المصدر السابق نفسه)؛ بمعنى أنْ تميل أدبيّات الحوزة العلميّة قليلًا إلى الرؤية الواقعيّة. ولتلاحظوا أنّ الإمام الراحل(ره) قد قال هذا الكلام المهم في العام 1988م.
- لماذا نرى الكثيرين يتملّصون من الدين؟ الخلل يكمن في أدبيّاتنا نحن طلبة العلوم الدينيّة. إنّنا لا نحلّل الدين برؤية واقعيّة، لا نحلّله بنظرة إنسانيّة محورها منفعة الإنسان في هذه الدنيا.
- دعوني هنا أنقُل لكم شيئًا عن نابغة تاريخ الإسلام، أي "الشهيد الصدر"، الشهيد الكبير السيّد محمد باقر الصدر(ره)، وهو الشهيد الوحيد الذي أعلن الإمام الراحل(ره) الحداد ثلاثة أيّام عليه، وما كان سماحته يعلن الحداد على غيره من الشهداء أكثر من يوم واحد. لقد قال الشهيد الصدر هذا الكلام في العام 1969م، أي قبل انتصار الثورة الإسلاميّة بحوالي العشرة أعوام، وسأقرأ عليكم منه بضع سطور:
- يتحدّث سماحته حول أسلوب عَرض الإسلام بصفته نظامًا متكاملًا يستوعب مجالات الحياة جميعًا وهو أنّ علينا أن نقدّم الإسلام على أنّه منهاج لإصلاح الحياة المعاصرة ولا نحوّل الأمر ليوم القيامة. يقول(ره): "يجب أن... نقارن بين أُطروحة الإسلام وبين سائر الأفكار والأطروحات ونبيّن للمسلمين أنّ الإسلام هو الطريق الوحيد الذي يوفّر للإنسان الحياة في المجتمع الإسلامي" (السيرة والمسيرة/ ج2/ ص254).
الشهيد الصدر: يجب أن نعرض الإسلام اليوم موافقًا لواقع الحياة، لا يمكن إدخال الناس في الدين بوعدهم بالجنّة وتخويفهم من النار
- يقول(ره): "فإنّ فكرة الجنّة والنار أصبحت غير مهمّة في ذهن أكثر الناس... لأنّ الإنسان أصبح يربَّى تربية مادّيّة، ينشأ نشأة مادّيّة، ينشأ على أساس أرقام محسوسة، على أساس أنّ عصفورًا في اليد خيرٌ من ألف عصفور في الغد.. فطريقة التربية، طريقة الأساليب بالنسبة إليه توْجِب أن تتضاءل عنده فكرة الجنّة والنار لكي تستثيره" (المصدر السابق نفسه/ ص256).
- مراد سماحته إنّه لا يمكن تربية الناس انطلاقًا ممّا يعتقدونه، وهو الأسلوب ذاته الذي تتّبعه الآن مؤسّساتنا في التربية والتعليم! ويضيف: "قد يؤمن عقليًّا بها [فكرة الجنة والنار]... ولكنّها حسّيًّا لا تحرّك عواطفه" (المصدر السابق نفسه). بل الأهمّ هو قوله: "إنّ المسلمين الأوائل كانوا يبذلون أنفسهم ويضحّون في سبيل الإسلام ويتسابقون إلى ذلك لا للجنّة والنار، بل كانوا يحبّون الإسلام ويرون أنّ الإسلام هو الذي جاءهم جُهّالًا فصنع منهم علماء، جاءهم متفرّقين فجمع كلمتَهم، جاءهم تائهين فهداهم، جاءهم فقراء فأشبعهم" (المصدر السابق نفسه/ ص257)؛ أي شاهدوا فوائد الدين المادّيّة. ففي صدر الإسلام أيضًا لم يدْعُ النبيُّ(ص) الناسَ إلى الدين بالمعاد، بل بيَّنَ لهم فوائدَه الاجتماعيّة.
- ثمّ يضيف(ره): "وعلى هذا كانوا يُخلِصون له ويُضَحّون في سبيله... إذن فلا بدّ من عمليّتَين: الأولى: أنّه حينما نقول لشخص - للتاجر أو المرأة والفقير - اقبض [على] الجمرة... في مقابل هذا نقول له: ...إنّ الإسلام الذي تقبض يدك على جمرته... سوف يحوّل هذه الجمرة في يدك إلى رفاه، سوف يحوّل هذه الجمرة بيدك إلى سعادة، لا بعد الموت، لأنّ هذا الإنسان عاش في عالم الحسّ وفي عالم المادّة، بل هذا [قولنا: الدين يمنحك السعادة بعد الموت وحسب] لا يكفي في أيّ وقت من الأوقات، حتّى في عصر النبيّ(ع)، بل نقول له: اقبض على الجمرة اليوم وغدًا الإسلام يشقّ لك طريق السعادة" (المصدر السابق نفسه/ بتصرف طفيف).
- الإمام الراحل(ره)، في ما نقلناه عنه أعلاه، يريد منّا أن نخفض مستوى المسائل النظريّة والفلسفيّة قليلًا ونكّلم الناس على الدين بواقعيّة... والشهيد الصدر(ره) في كلامه، الذي يعود إلى العام 1969م، أي عشرون عامًا قبل كلام الإمام الخميني، يقول لنا: لا بدّ في عصرنا الحاضر من أن نعرض الإسلام موافقًا لواقع الحياة المعاصرة ونقول للناس: الإسلام الآن بإمكانه أن يشقّ لكم طريق السعادة في حياتكم!
لو كان تعليمنا للدين صحيحًا لقال الناسُ للشخص اللاديني أبله!
- لو أنّنا كنّا فعلنا ذلك أتدرون ما كان سيحصل؟ كان سيهزأ الناسُ باللاديني قائلين: كم هو أبله! الآن لو ذهب شخص إلى مكان عام واختلط بالناس من دون كمامة وبدأ بالسعال والعطاس لهَبَّ الجميع صائحين: "هَيييي، ماذا تفعل؟ ضع كمامة! فليناوله أحد كمامة، لماذا أتيتَ هكذا؟!" لأنّها قضيّةٌ واقعيّة بامتياز، أمّا إذا ظهرَتِ امرأةٌ سافرة فلا يراها أحدٌ قضيّةً واقعيّة، وما زال يُكتب في الطائرة: "يُرجى مراعاة قِيَم المجتمع الإسلامي الأخلاقيّة، يُرجى مراعاة الحجاب!" لكنّ رئيس الجمهوريّة السابق يسخر من الحجاب، باستخدام بعض التعابير، فيفوز في الانتخابات! لأنّ الحجاب يُفهَم بأنه قضيّةُ قِيَم، لا قضيّة واقع!
- فلو تجاهر شخصٌ باللادينيّة في عصرنا لا يقال له: "إنّه مريض روحيًّا"، ولا يُنعَت بأنّه لا عقل له، لماذا؟ لأنّ أساليب تعليم الدين عندنا خاطئة. ثمّ تأتي جماعة فتقول فينا وفيكم: "هؤلاء قوى مبدئيّة!" أتدرون ماذا يعنون بذلك؟ إنّهم يريدون القول: أنتم مبدئيّون، أما نحن فواقعيّون. هذا التيّار نفسه الذي يمثّل الثقافة الغربيّة يَدّعي القول: "نحن واقعيّون، أمّا أولئك فمبدئيّون!" ثمّ أطلقوا على هذه القوى المبدئيّة مصطلح "الأصوليّين"، وأسمَوا أنفسهم "إصلاحيّين"، فأثاروا نزاعًا فارغًا خدعوا به الكثيرين.
- ماذا يعنون بالأصوليّين؟ يقولون: "هؤلاء يحملون طائفة من القيم والمفاهيم السامية، مثل المعاد، والله، والولاية، ..إلخ ويريدون التضحية بكلّ شيء في سبيلها، أما نحن فواقعيّون في الرؤية"، في حين أنّ هذا كذب فاضح. بالطبع هذا الكذب الفاضح يصدّقه الناس لأنّ الأدبيّات الحوزويّة – على حد قول الإمام الخميني(ره) – لم تقترب من أدبيّات الجامعات.
الإمام القائد: بيِّنوا للناس الفوائد العينيّة لولاية الفقيه
- في العام 1998م، أي حوالَي العشرة أعوام بعد كلام الإمام الراحل(ره) المذكور، قال سماحة الإمام القائد الخامنئي(دام ظله) في اجتماع له مع أعضاء مجلس خبراء القيادة: "إذا أُريدَ بالفعل أن يكون للجماهير دورٌ عيني وعملي وفاعل، وأُريدَ لولاية الفقيه أن تكون جماهيريّة وللحكم الإلهي أن يتّخذ طابعًا جماهيريًّا بكلّ ما في الكلمة من معنى، فلا بدّ من أن تُبيَّن للناس محاسن هذا الأمر (ولاية الفقيه) وما يرغّبهم فيه، بالضبط كما نرَغِّب الناس في الحج، فنشرح لهم أحكامه، ونبيّن لهم فلسفته فنُرَغِّب الكثير ممّن لا يؤمن به بالذهاب إليه والاعتقاد بأدائه" (من كلمة لسماحته أمام أعضاء مجلس خبراء القيادة في 4/2/1998م، نقلًا عن كتاب: ولايت فقيه كانون عزت و افتخار (ولاية الفقيه مشعل العزّة والفخر)/ ج4/ ص242).
- خلاصة كلام الإمام الخامنئي (دام ظله): بالنسبة إلى مسألة الصلاة والزكاة أيضًا الناس سيمارسونهما إذا نحن بيّنّا لهم فوائدهما.. فإنّك إذا أحببتَ أن تدعو شخصًا إلى ممارسة عبادة ما توضِّح له فوائدها العينيّة، موضوع ولاية الفقيه أيضًا بيّنوه بهذه الطريقة.
هناك مئات الكتب لإثبات أحقّيّة ولاية الفقيه وليس ثمّة كتاب واحد يبيّن "آثارها الاجتماعيّة"
- أتعلمون لماذا نظريّة ولاية الفقيه في هذا البلد غريبة؟ لقد أُلِّفَت مئات الكتب حول ولاية الفقيه لإثبات أحقّيّتها، لكن هذه عشر سنوات تمرّ على تصريح الإمام الخامنئي (دام ظله) الذي يقول فيه: "بيّنوا آثار ولاية الفقيه، لا حاجة إلى تبيان أُسسها ومبانيها..." وليس لدينا كتاب واحد يجيب عن السؤال: "ماهي آثار ولاية الفقيه الاجتماعيّة؟" ذلك أنّ خطاب الحوزة العلميّة ليس من النوع الذي يعتمد الواقع والآثار، بل يعتمد الأُسُس والمباني، ولهذا تحصل هذه المسافة. أساسًا إنّ الانجذاب إلى ولاية الفقيه ليس بحاجة إلى دين، فلو بُيِّنت فوائد ولاية الفقيه وأداؤها من الناحية العقليّة لانجذب إليها أصحاب أيّة ديانة، بل اللادينيّون، لا بل المناوئون للدين أيضًا، لكنّكم تعلمون أنّه ليس من دأب الخطاب الحوزوي أن يوضّح الأمور بهذه الطريقة.
- يتابع سماحة الإمام القائد الخامنئي (دام ظلّه) فيقول: "على بركة الله، الدور هاهنا للناس، فليقتحموا الميدان، وليبيّنوا محاسن هذه المسألة من منظار العقل والمنطق البشريَّين..." أروني كتابًا واحدًا في ولاية الفقيه لا يستدلّ بآية قرآنيّة أو رواية، ولا يتطرّق إلى المسائل العقَديّة والأحكام، بل يبيّن المسألة انطلاقًا من العقل البشري فحسب. بالطبع علماء كثيرون يجيدون هذا الأسلوب، لكن ليس هذا دأب الحوزة ولا يسمَّى هذا في الحوزة عِلمًا، ولهذا لا تؤلَّف مثل هذه الكتب.
- ماذا قال الشهيد الصدر(ره)؟ قال: لا تؤجّل الأمر إلى القبر والقيامة والمعاد، ولا تتطرّق إلى المبدأ والمعاد، بل قل: ما هي فائدة الدين في حياتك في الوقت الحاضر؟ ولقد أكّد الإمام الخامنئي(دام ظله) أيضًا على أنْ تقول للناس، مثلًا: ما هو دور ولاية الفقيه في حياة الناس اليوم؟ هكذا تنزل الجماهير إلى الساحة. ثمّ يوضح سماحته فيقول: "في عالم اليوم، وفي أشدّ دول العالم ديمقراطيّة، أي في الدول التي تدار بهذه الديمقراطيّة الغربيّة مثل الولايات المتّحدة، لا يصل دور الجماهير ومشاركتها في إدارة البلد وتسييره إلى مستوى دورها في إيران...". وإن أحببتم الاطّلاع فهناك كتب وتقارير صريحة جدًّا تكشف ما يحصل في الانتخابات الحزبيّة في عالم الديمقراطيّة الغربي المعاصر هذا نفسِه لتعرفوا إن كان ثمّة للجماهير هناك دور فعلًا أم لا.
- هذا يعني أن تبيّن الفرق بين الديمقراطيّة وولاية الفقيه عبر نظرة واقعيّة، فلماذا تلجأ إلى الدين؟!! وأقصد من الدين هنا هو أن تقتصر على أن تبيّن للناس المعتقدات والأسس وآثارها يوم القيامة.
- نحن نريد أن نجعل من بلدنا أنموذجًا للحرّيّة والإنسانيّة من دون الرجوع إلى الدين أساسًا. فلو أنّكم أَنتَجْتم أفضل لقاح وبدرجة حماية عالية لاشتراه العالم أجمع منكم من دون أن يكترثوا لكونكم متديّنين أو أنّكم تُطلقون ذقونكم أو لا... أقول: إنّ الاستقلاليّة الروحيّة ضروريّة للفرد، وإنّ الاستقلاليّة الاجتماعيّة ضرورية للمجتمع. كيف لنا أن نبيّن ذلك؟ من الناحية الفرديّة، على سبيل المثال، نبيّنها بأدوات علم النفس؛ وهو أنّ المرء إذا افتقد روح النزوع إلى الاستقلاليّة أصيب بالذُهان.
- فماذا يصنع الدين إذن؟ الدين، من الناحية النفسيّة، يوصلك إلى حالة من التوازن، وسنوضّح هذا في الليالي القادمة. نريد أن نتحدّث حول سبل نيل الاستقلاليّة من وجهة نظر علم النفس واضعين القرآن الكريم والقيامة جانبًا، على حدّ توصية الشهيد الصدر(ره)، وقول الإمام الخامنئي(دام ظله)، والإمام الخميني الراحل(ره).
ليس هناك كلام دينيّ عارٍ عن الفائدة الدنيويّة
- لماذا الدين غريب في مجتمعنا؟ قال الشهيد الصدر في العام 1969م، أي منذ حوالي الخمسين عامًا: يجب أن تبيّنوا للناس الآثار الدنيويّة الواقعيّة للدين لكي يميلوا إليه... حسنٌ، على ماذا نحن اليوم نُحرق أعصابَنا؟ على أنّه: هذا المستوى من التضخّم غير جائز، لا يجوز أن تُعطَّل المصانع، يجب أن يعيش الناس في رفاهية.. هذه هي مؤشّرات التديّن والحسينيّة في المجتمع! وكذا: لا يجوز أن يتجبّر الغربُ علينا، لا بدّ أن ننتفع من امتيازاتنا في المنطقة والعالم.. "وماذا عندكم بعد؟". "لا كلام آخر لدينا، هذا كلّ ما في جعبتنا! كنّا نتكلّم على الصلاة والصيام والحجاب أيضًا.. تلك الأمور - في الحقيقة - هي لبلوغ هذه، وهذه هي لبلوغ تلك، فهما متلازمان.. نحن لا نملك كلامًا دينيًّا ليس له فائدة دنيويّة، إنّنا سنبلغ هذه المرحلة يومًا ما.
- بعض وسائل الإعلام التي تبُثّ الأكاذيب، والتي أسمّي أنا أصحابَها بـ"البيبيسيّين الخبثاء" تسعى لبَثّ الفُرقة والشقاق في المجتمع، ومن الاختلافات الزائفة التي يبثّونها هي قولهم: "ثمّة في المجتمع طائفة شُغلها الشاغل هو الواقع الاجتماعي ولا شُغل لها بالدين، وطائفة أخرى شغلهم الشاغل هو الدين (بصفته الأوامر الإلهيّة) ولا دخل لها بالواقع الاجتماعي!" في حين أنّ الدين هو الذي أمرَنا بالاهتمام بالواقع الاجتماعي.. فلماذا هذا الكذب؟!
- بل نحن لا نختلف على الإطلاق مع كلّ من يهتمّ بواقع المجتمع ومنافع الشعب. فإنّ قولنا: "إنّ علينا أن نسير نحو الاستقلاليّة" هو كلام إنساني بمقدار ما هو كلام ديني. نحن نقول: إنّ الاستقلاليّة أهمّ من الحرّيّة، والتجربة البشريّة تثبت هذا، وهذا بالطبع هو مقتضى النظرة الدينيّة أيضًا. نحن نريد إنقاذ أنفسنا، نسعى لتحقيق مصالح الشعب الحقيقيّة، لا نريد أن نبقى عاجزين حيارى، بل نصبوا إلى أفضل حياة، لقد استشهد الإمام الحسين(ع) لنعيش نحن أفضل حياة، وهذه كانت غاية الشهداء جميعًا.
مجتمعنا بحاجة إلى ثورة لإزالة سوء التفاهم ليعرف الناس ما هو هدف الدين أصلًا
- مقترحي المحدّد هو: تعالوا في الدورة الحكوميّة الحاليّة وفي هذه الأجواء السياسيّة الجديدة ننهض بثورة في البلد لتبديد سوء التفاهم. مَن هو أكثر الناس قيمة؟ هو الذي يفجّر أكبر قدر من طاقات الشريحة الشابّة، ويُحدث أعظم ازدهار في اقتصاد المجتمع، ويحقّق أعلى إنتاجيّة في حياة أفراد الشعب وشغلهم، فلا يُبقي على عاطل واحد عن العمل.. وما هذا بكلام مبدئي، إنّه واقع المجتمع.
- لقد عمد بعضهم، زورًا وبهتانًا، إلى تقسيم المجتمع إلى قسمين؛ مبدئي وغير مبدئي! ما معنى المبدئي أساسًا؟ القضيّةُ هنا هي قضيّة رُقِيّ الإنسان روحيًّا، قضيّة ازدهاره، قضيّةُ الحَدّ الأقصى من مصالح المجتمع، قضيّة أن يصبح الإنسان قويًّا.. لكن أمثال هؤلاء لا يسمحون لهذه الأصوات أن تصل مسامع الجماهير.
- يحتاج مجتمعنا إلى ثورة لإزالة سوء التفاهم الحاصل ليعلم الناس أنّه: لأيّ شيء يهدف الدين؟ يهدف لرُقِيّ المجتمع وازدهاره، ذلك الرُقيّ والازدهار الذي إذا سمع به مخالفو الدين أيضًا قالوا: "لكنّ هذا جيّد جدًّا! لا بدّ أن نسير في هذا الاتّجاه!" هذا تحديدًا ما يطلبه الدين؛ «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَه» (سورة البقرة/ الآية130)؛ أي: لا يترك الدين سوى الإنسان الجاهل!
- ما هو هدفنا الآن من هذه المحاضرات في هذه الليالي؟ هدفنا هو تلك العظمة التي يستشعرها الإنسان في قلبه، واللذّة التي يجنيها من شعوره بالعزّة، وإنّ الله تعالى هو الوحيد الذي يُعير لإنسانيّتك، وحرّيّتك، واستقلاليّتك أهمّيّة، وإنّ كيفيّة التعاليم الدينيّة مصمَّمة بطريقة توصلك إلى ذروة هذه الاستقلاليّة، وستُصان قيمة إنسانيّتك، وقيمة استقلاليّتك حتّى من خلال عبوديّتك لربّك.
لماذا طلب الإمام الحسين(ع) إلى أصحابه ليلة عاشوراء أن يرحلوا؟ لكي يقرّروا البقاء بحرّيّة كاملة
- إنْ كنتَ تفتّش عن حقوق الإنسان فتعال آخذك إلى كربلاء! لماذا طلب الإمام الحسين(ع) إلى أصحابه ليلة عاشوراء أن يرحلوا؟ كان قد خطبَ فيهم قبل ذلك، ذَكَّرهم بأنّهم، أهل البيت(ع)، يحرّمون على أنفسهم خداع أحد من البشر. قال لهم ما مضمونه: "أنا غدًا مقتول لا محالة، ولن يكون لوجودكم من عدمه أثر". قال لهم هذا كي لا يأخذون قرارًا انطلاقًا من عواطفهم ومتأثّرين بالجَوّ. "أنا راضٍ عنكم.. إن كانت نيّتكم من البقاء إرضائي وكسب ودّي فأنا راضٍ عنكم، قوموا وارحلوا..." (اللهوف على قتلى الطفوف/ ص90/ نقل بالمضمون).
- لماذا قال الإمام الحسين ذلك؟ قاله لأنّه(ع) يؤمن بالحرّيّة، ولأنّه لا يعتقد بإغواء الآخرين حتّى من خلال الدعاية والحرب النفسيّة. فالذين يحاولون التأثير على الناس عبر الحرب النفسيّة مُناهضون للحسين(ع) لا يعرفون ذرّة من مبادئه. لقد قالها(ع) بكلّ شفافيّة: التفتوا، القومُ غدًا يقتلونني، والحصار حتمي، وأنا لن أتنازل، ولكم الخيار.
- هذه هي الولائيّة! فلتخبروا أولئك الحمقى الذين إذا سمعوا بمفهوم الولاية قالوا: "لا نريد قَيِّمًا، لسنا أيتامًا وصغارًا لنحتاج إلى قَيّم علينا...!" إنّ "القيّم" في الإسلام يتجسّد في الحسين(ع)، و"الولاية" تتبلور في الحسين(ع)، الحسين الذي قال لأصحابه، وهو بأمسّ الحاجة إلى نصرتهم: "اذهبوا، لا حاجة لي بكم"، لكي يكون بقاؤهم باختيارهم هم إذا قرّروا البقاء.
- البعض إذا وصل به الأمر إلى مفهوم الولاية قال: "لسنا أيتامًا أو حُقراء أو صغارًا لكي نحتاج إلى قيّم علينا!" مَن هذا الذي قال لك إنّ الولاية هذا هو مفهومها؟! إنّ مستوى احترام الولاية لحرّيّة الناس واستقلاليّتهم هو ما لا يصل إليه أبدًا احترام حرّيّة الناس واستقلاليّتهم في الدول الغربيّة. فإنّ الطريقة التي تحدّث بها الإمام الحسين(ع) في تلك الليلة لم تضطَرّ أيّ أحد من الأصحاب للبقاء بتأثير الجوّ النفسي، بل لقد كلّم(ع) بعضَهم على انفراد أيضًا. لماذا ناطح أصحاب الحسين(ع) النجوم؟ لماذا سكنوا السماء؟ لماذا لا يبلغ امرُؤٌ التراب الذي تحت أقدامهم؟ لأنّهم هم الذين قرّروا البقاء مع الحسين(ع)، لم يجبرهم أحد على ذلك، اتّخذوا قرارهم هذا باستقلاليّة تامّة.
- إلى هذا الحد تحترم الولاية استقلاليّةَ الناس! لو قُدِّم توضيحٌ كهذا للولاية في فرنسا، أو انجلترا، أو الولايات المتّحدة لجميع العقلاء في العالم فسيكون أفضل شكل لعلاقة رئيس بمرؤوسيه، وأرقى صورة لاحترام حقوق الإنسان، وأفضل أنموذج لاحترام الحرّيّات في عالَمنا المعاصر، وأرقى مثال "إنساني" معمُول به لاحترام قيمة الإنسان.
- إنّنا لم نجعل بعدُ من شعاراتنا الحسينيّة شعارات عالَميّة، ولو فعلنا لأَطبَقَت هذه الشعارات على العالم بأسره، ولاستولى الإمام الحسين(ع) على القلوب جميعًا، إذ سيأتي إلى هنا كلّ مَن عرف شيئًا من مفهوم الحرّيّة ليرى أساسَ الحرّيّة وأصلَها.. سيأتي كلّ من عرف شيئًا عن مفهوم الاستقلاليّة ليعرف هاهنا تثمين استقلاليّة الناس على أصوله، فهاهنا أساسُه وأصلُه.