الطريق الوحيد معالم الأسرة الصالحة رحلة الأربعين تعرف علینا بقلم استاذ البريد الكتروني فیسبوک تويتر انستقرام تلغرام

جديدنا

۰۱/۰۸/۱۷ چاپ
 

تحمّل المسؤولية والاستقلالية أهم مؤشرات الولائية (المحاضرة 3)

ما هو ضرر الصلاح من دون استقلال؟/ إن لم تكن مستقلًّا "فستحُول دون ازدهارك ورُقيّك" و"ستكون عبدًا للطواغيت" أيضًا/ أن تكون مستقلًّا يعني أن لا تتأثّر بأيّ شيء إلّا "بأرقى رغباتك"

الهويّة:

  • المكان: كلية الإمام علي(ع) الحربية، موكب "ميثاق با شهدا" (العهد مع الشهداء)

  • الزمان: 02/ محرم/ 1443 - 11/ آب/ 2021

  • A4|A5 :pdf

لا قيمة للصلاح من دون استقلال/ الشخص غير المستقلّ يصعب أن يصبح صالحًا

  • لا قيمة لأن يكون المرء صالحًا ويأتي بأعمال خيّرة من دون أن يكون مستقلًّا. بل أساسًا إنّ من الصعب على الإنسان غير المستقلّ أن يصبح صالحًا، وإنّ صلاحه – بالطبع – لن يكون ذا قيمة، اللهمّ إلّا أن تعمل حسناتُه على أن يتحوّل إلى إنسان مستقلّ. والآن فلتقرّروا أنتم ما هو الأهم، الصلاح أم الاستقلال؟ على أنّ العكس صحيح أيضًا؛ أي إنّك إن كنت مستقلًّا ولم تكن صالحًا فهذا سيّئ، وسنتحدّث قليلًا في هذا الموضوع الليلة. إلّا أنّ الذين لديهم روح المطالبة بالاستقلال ويتمتّعون بالاستقلاليّة لا يصبحون سيّئين في العادة.
  • قد يظنّ البعض أنّه مستقلّ بعض الشيء ويصبح سيّئًا، وسنتكلم في هذا الموضوع قليلًا. إجمالًا، وتفاديًا لنشوب النزاع، علينا إنجاز أمرين في آن واحد: الأول هو أن نعمل على استقلاليّتنا؛ الاستقلاليّة في الشخصيّة والتحلّي بروح الاستقلاليّة، وأن نتمرّن على الحياة باستقلاليّة، بل ونرفع من مستوى مطالبتنا بالاستقلاليّة؛ خلاصة القول: أن نشتغل على استقلاليّتنا التي هي رأس المال الأساسي للعزّة. والثاني هو أن نشتغل على صلاح أنفسنا أيضًا.
  • أجواء المجتمع، في العادة، مشحونة بالتوصيات بالصلاح لكن قلّما يُتحدَّث عن الاستقلاليّة، لا بل ويُعمَل ضد الاستقلاليّة أيضًا! يبعثون بالطفل إلى المدرسة ويريدون منه أن يدرس بأيّ ثمن! وهذا خطأ فادح، إنها ليست تربية دينية، ليس هذا منهاجًا تربويًّا تعليميًّا إسلاميًّا. فإنّ من الأمور التي تأخّرتْ كثيرًا على أَسلَمَتِها، بل ولم تتأَسلَم إلّا قليلا جدًّا هي نظام التربية والتعليم عندنا. فحيثما رأيتَ مبحثًا مهمًّا يُطرح في محاضرةٍ ما ويَلقَى ترحيبًا من الشباب فهذا يعكس ضعف نظام التربية والتعليم! فلماذا لم يُطرح هذا الموضوع المهم في منهاج التربية والتعليم، ولِمَ يجهله شبابُنا؟! لماذا ينبغي للشاب أن يسمع الأمور المهمة من على المنابر فقط؟! ماذا تصنع مؤسّسة التربية والتعليم في نظام الجمهورية الإسلامية إذن؟!
  • كالذي يطّلع على جدول الضرب وهو طالب جامعة أو في عمر الكهولة فيقول: "كم هو رائع!" مع أنه يحمل شهادة الثانوية! ما الذي علّموه في المدرسة إذن؟ جدول الضرب هو من الأوّليّات التي كان ينبغي أن يعلّموه إيّاه في المدرسة. فإنّ من أوّليّات التربية والتعليم هو أن لا يُجبَر التلميذ على الدراسة بأيّ ثمن وبأيّ حافز، وإلّا كان تعليمًا لعدم الاستقلاليّة، تعليمًا للتطفّل على الغير والتبعيّة لهذا والتأثّر بذاك.

ليس الإخلاص أمرًا دينيًّا وروحانيًّا وحسب، بل إنّ له في حياة الإنسان دورًا مهمًّا

  • يخطئ الذين يظنّون أنّ الإخلاص أمر روحاني وحسب، بل إنّه حقيقة الحياة... الموت للحياة الخالية من الإخلاص! الحياة من دون إخلاص لا تتبلور. يظنّ الكثيرون أن الإخلاص يرتبط بالعبادة والصلاة وحسْب، وأنّ بإمكان الحياة أن تجري من دون إخلاص، وأنه لا أهمّية للأخير في حياة البشر!
  • إنها لإهانة لله تعالى أن تتصوّر أنّ الإخلاص مهمّ لله فقط ولا أهمّية له في حياتنا. أوَيُمكن أن يكون شيءٌ اسمه "الإخلاص" مهمًّا بالنسبة إلى الله ثمّ لا يكون له في حياة الإنسان من دور؟! أيّ توحيد هذا الذي يحمله البعض؟! يقول تعالى في كتابه العزيز: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْف» (سورة الحج/ الآية11)؛ أي ثمة من الناس من حصَرَ عبادةَ الله تعالى في زاوية من حياته فلم تملأ حياته كلّها؛ «على حرف» أي جعلها على جانب من الحياة.

الإخلاص مفهوم عينيّ بامتياز لنجاح الإنسان والمجتمع/ الإخلاص هو المصطلح الديني "للاستقلاليّة"

  • الإخلاص مفهوم عينيّ بامتياز لنجاح الإنسان في الحياة ونجاح المجتمع، وهو العامل للتنمية والتقدّم، ولصحّة الروح، وسلامة العلاقات الاجتماعية، والتوازن النفسيّ عند البشر، وهو لهذا مهمّ جدًّا لحياة الإنسان. ولهذا تحديدًا لا يقبل الله جلّ وعلا أيّ عمل من دون أخلاص. الإخلاص ليس أمرًا دينيًّا، بل أمر حيويّ للبشر، لا بل إنّ الدين نفسَه أمرٌ حيوي للبشر. وسنشير في المحاضرات القادمة إلى سبب نشوء هذه القناعة في مجتمعنا وهي أنّ الدين هو شيء إلى جانب الحياة، وإنْ كان حُليَة جيّدة، وموقَّرة بطبيعة الحال!
  • والإخلاص هو التعبير الديني لمفهوم الاستقلال؛ فإنّ من الواجب عليك أن تكون مستقلًّا (أي مخلصًا) وتكون صالحًا في آنٍ معًا. وإنّ التعبير الدينيّ لقولنا: "لا قيمة للصلاح من دون استقلاليّة" هو: "لا قيمة للصلاح من دون إخلاص".

إذا أردتَ تنشئة ولدك مستقلًّا فلا تُكرِهه بأيّ حافز على الدراسة، بل ولا على الصلاة!

  • عندما تريد تنشئة أحدٍ ما (ولدِك مثلًا) مستقلًا فلا ينبغي إجباره بأي ثمن على الدراسة، كما لا يجوز أيضًا إكراهه بأيّ ثمن أو حافز كان على الصلاة، ولا على الجهاد.
  • ذات مرّة سحبَني أحد مجاهدي كتيبة "حبيب"، الذي استُشهد فيما بعد في عمليّات كربلاء الخامسة - سحبَني جانبًا بصفتي مُرشِد الكتيبة وقال لي: "فلتتلو على مسامعنا هذه الرواية...". قلتُ: "لا تطاوعني نفسي، هذه الرواية ليست لأمثالكم، إنها تتصل ببعض من كانوا في صدر الإسلام...". قال: "لا بد أن تتلوها علينا"، إلى أن أرغمني في النهاية على تلاوتها على مسامعهم. ما هي هذه الرواية؟ هي أن البعض يُستشهَد جهادًا في سبيل الله فيقول الله تعالى له يوم القايمة: "بماذا أتيتَ؟" يقول: "لقد استُشهدتُ في سبيلك". فيقول الله له: "كذبتَ! لقد قاتلتَ لكي يقال عنك شجاع، لم تخشَ الموت حتى لا يُمَسّ كبرياء شجاعتك، خذوه إلى النار!" قال لي المجاهد: تعال واتلُ هذه الرواية علينا لكي نخاف أن لا نُخلِص لله عملَنا"؛ «إِنَّ أَوَّلَ النّاسِ يُقضَى يَومَ القِيامَةِ عَلَيهِ رَجُلٌ استُشهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها قالَ: فَما عَمِلتَ فِيها؟ قالَ: قاتَلتُ فيكَ حَتَّى استُشهِدتُ؟ قالَ: كَذَبتَ، وَلَكِنَّكَ قاتَلتَ لِيُقالَ جَرِي‏ءٌ فَقَد قيلَ ذَلِكَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجههِ حَتَّى أُلقِيَ في النّار» (منية المريد/ ص134).
  • لنقل: إنّ الشهادة (القتل في سبيل الله) تحتاج إلى دافع إلهي، لكن أيَسعُنا القول إنّه: لا بأس من أن يكون للدراسة أيّما دافع سخيف وتافه؟! لماذا نفعل بأنفسنا هذا؟ أوَسوف يتسنّى لنا – بعد هذا – أن ننظّف المجتمع من الفشل، والقصور، والارتشاء، وأكل الريع، والفساد الإداري؟!

مبدئيًّا لا معنى للصلاح من دون استقلال أو إخلاص/ الصلاح والسلوك الصالح هو الآخر من ثمار الاستقلاليّة

  • علينا أن نُقِرّ – مبدئيًّا – أنّه لا معنى للصلاح من دون استقلال وإخلاص. لكنّني، ولتفادي النزاع، سأتكلّم ببعض السلميّة قائلًا: "كلاهما مهم: الصلاح وانتهاج السلوك الصالح من جهة، والاستقلاليّة والإخلاص من جهة أخرى. أما إذا أردتُ التحدّث بأسلوب دقيق لقلت: الاستقلاليّة فقط هي المهمّة، ولا شيء آخر مهمّ! وإنّ الصلاح والسلوك الصالح هما ثمرة الاستقلاليّة. وإنّ المستقلّ حقًّا لا يفسد. لكن لو أردنا التكلّم بهذه الطريقة لصعُب علينا جدًّا الدفاع عن هذا الكلام؛ إذ سترتبك العقليّات التي تفصلها عن هذا الكلام مسافة وسيكون من الصعب إقناعها بذلك.

عليك بالاستقلال عن العوامل الخارجيّة والداخليّة معًا، وعن الآخرين، وعن طبيعتك الغريزيّة الأولى أيضًا

  • من هنا، فمن أجل أن نأخذ راحتنا في الكلام ونتفادى النزاع، نقول: "علينا أن نعمل على استقلاليّتنا وعلى صلاحنا في آنٍ واحد". والصلاح يعني ممارسة كل ما ينبغي على الإنسان ممارسته من أعمال صالحة خيّرة. لكن ما معنى أن يكون الشخص مستقلًّا؟ يعني أن تستقلّ عن العوامل الخارجيّة والداخليّة معًا، وتستقلّ عن الآخرين، وعن نفسك، وطبيعتك الغريزيّة الأولى في الوقت ذاته.
  • وما المراد من العوامل الداخليّة؟ على سبيل المثال استهزأتْ بعضُ الروايات بمن يقاتل بدافع غريزته الطبيعيّة ويريد عَدَّ قتاله هذا جهادًا؛ فذكرتْ أنّه لا قيمة لمثل هذا الجهاد إذا كان بباعث غريزة الشجاعة، فالكلب أيضًا يذُبّ عن جِرائه وهو مستعدّ لأن يُقتل في سبيلها؛ «..وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُقاتِلُ بِطَبعِهِ مِنَ الشَّجاعَةِ فَيَحمي مَن يَعرِفُ وَمَن لا يَعرِفُ وَيَجبُنُ بِطَبيعَتِهِ مِنَ الجُبنِ فَيُسلِمُ أَباهُ وَأُمَّهُ إِلى العَدُوِّ وَإِنَّما المَآلُ حَتفٌ مِنَ الحُتوفِ وَكُلُّ امرِئٍ عَلى ما قاتَلَ عَلَيهِ وَإِنَّ الكَلبَ لَيُقاتِلُ دُونَ أَهلِه» (الغارات/ ج2/ ص343).
  • المهمّ هو: لأيّ شيء تقاتل؟ ففي الخبر أنّ مَن يجاهد بباعث غريزة الشجاعة عنده هو كمن يذهب إلى الجهاد رياءً، وأنّ مصيره النار! «قالَ: كَذَبتَ، وَلَكِنَّكَ قاتَلتَ لِيُقالَ جَرِي‏ءٌ فَقَد قيلَ ذَلِكَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجههِ حَتَّى أُلقِيَ في النّار» (منية المريد/ ص134)، «وَيُؤتَى بِالَّذي قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَيَقولُ اللهُ تَعالَى: ما فَعَلتَ؟ فَيَقولُ: أُمِرتُ بِالجِهادِ في سَبيلِكَ فَقاتَلتُ حَتَّى قُتِلتُ. فَيَقولُ اللهُ تَعالَى: كَذَبتَ، وَتَقولُ المَلائِكَةُ: كَذَبتَ، وَيَقولُ اللهُ تَعالَى: بَل أَرَدتَ أَن يُقالَ: فُلانٌ شُجاعٌ جَري‏ءٌ فَقَد قيلَ ذَلِكَ. ثُمَّ قالَ رَسولُ اللهِ(ص): أُولَئِكَ تَسَعَّرُ لَهُم نارُ جَهَنَّم» (مستدرك الوسائل/ ج1/ ص111).

دينيًّا أن يكون المرء مستقلًّا أفضل من أن يأتي بالصالحات

  • بماذا يطالبنا الدين؟ أيطالبنا بفعل الصالحات؟ دينيًّا أن يكون المرء مستقلًّا أفضل من أن يأتي بالصالحات! فقد جاء في الخبر الحثّ على الاهتمام بإخلاص العمل وقبوله أكثر من الاهتمام بفعله؛ «كونوا بِقَبولِ العَمَلِ أَشَدَّ اهتِمامًا بِالعَمَل» (مجموعة ورام/ ج1/ ص64). ويروى عن أمير المؤمنين(ع) في رواية أخرى قوله: «أَخلِصْ قَلبَكَ يَكفِكَ القَليلُ مِنَ العَمَل» (بحار الأنوار/ ج70/ ص175)، «أَخلِصْ دينكَ يكفِكَ القليلُ مِنَ العَمَل» (كنز العمال/ ج٣/ ص٢٣).
  • قد لا يَقبل البعضُ منّا قولنا: إنّ الاستقلاليّة أهمّ من الصلاح، ويخالفونا الرأي، والحال أنّ "الإخلاص"، المذكور في الروايات أعلاه، هو – في واقع الأمر - الاستقلاليّة ذاتها.
  • بل لا بدّ أن يستقلّ المرء عن الأمور الغريزيّة التي يحملها أيضًا.. عليك أن تنتزعها من نفسك؛ وكذا الاستقلال عن الثقافة؛ فلا ينبغي أن تقع تحت سطوة ثقافة آبائك وأجدادك، والاستقلال عن الآخرين، من الأعداء أو الأصدقاء؛ فقد يكون البعض مستقلًّا عن أعدائه لكنّه تَبَع لأصدقائه، متطفّل عليهم، ويتأثّر بهم أيّما تأثُّر.
  • ولأتلُ عليكم رواية عن أهميّة هذه الاستقلاليّة: فعن الإمام الباقر(ع) قوله: «إِنْ مُدِحتَ فَلا تَفرَح وَإِنْ‏ ذُمِمتَ فَلا تَجزَع»، ثمّ يُردف(ع) بعد سطور قائلًا: «وَاعلَمْ بِأَنَّكَ لا تَكونُ لَنا وَلِيًّا حَتَّى لَوِ اجتَمَعَ عَلَيكَ أَهلُ مِصرِكَ وَقالوا إِنَّكَ رَجُلُ سَوءٍ لَم يَحزُنكَ ذَلِكَ وَلَو قالوا إِنَّكَ رَجُلٌ صالِحٌ لَم يَسُرَّكَ ذَلِك» (تحف العقول/ ص284)؛ فلماذا تحزن؟ دعهم يقولوا إنّك رجل سوء! لكن نحن أيضًا نتأثّر بهذا الكلام! يقول(ع): إذا تأثّرتَ بهذا الكلام فأنت لستَ من شيعة أهل البيت(ع). فمن هو شيعة أهل البيت(ع) إذن؟ إنّه الشخص المستقلّ الذي لو قال فيه أهل مدينته جميعًا: إنّك رجل سوء، لم يسؤه ذلك، ولو قالوا كلّهم: إنّك رجل صالح، لم يسرّه ذلك!
  • هذا يعني أنّه يجب أن تكون مستقلًّا، والاستقلاليّة هي أن لا تتلقّى صدمة، ولا تتأثّر بالآخرين، بل يجب أن تكون منيعًا أمام تأثيرهم! من هذا المنطلق يتحتّم علينا إلغاء معظم أشكال الإثابة والعقوبة من المناهج التربويّة. وإنْ أحببنا المُضي في طريق هذه الاستقلاليّة فثمّة استراتيجيّة مهمّة اسمها: "تحمُّل المسؤوليّة"، وهو ما سنتطرّق إليه، إن شاء الله، في المحاضرات القادمة.

الاستقلاليّة هي أن لا تعمل متأثّرًا بأيّ شيء أو بأيّ أحد سوى الله تعالى

  • علينا أن نقِيم لاستقلاليّة الإنسان وزنًا كبيرًا. والاستقلاليّة هي أن لا تعمل متأثّرًا بأيّ شيء أو بأيّ أحد. إذن بتأثير أيّ شيء يجب أن نعمل؟ بتأثير الله تعالى فحسب. وهنا يُطرح سؤال أيضًا: إنْ أنا عملتُ عملًا متأثّرًا بالله تعالى فكيف يكون هذا دليلًا على استقلاليّتي، بينما لا يكون دليلًا عليها إنْ أنا عملتُه متأثّرًا بغيره؟ لقد ذكرنا هذا الموضوع، المعقَّد والصعب جدًّا، في المحاضرتين الفائتتين، فليكن في بالنا أنّ الله سبحانه وتعالى، الذي يجب أن نكون عبيده، لا يريدنا له عبيدًا إلّا مع صيانة استقلاليّتنا، فهو لا يريد له عبدًا غير مستقلّ.
  • ولنُجِب الآن على هذا السؤال الدقيق جدًّا: كيف نفسّر أنّني إنْ عملتُ لله جلّ وعلا يكون عملي استقلاليّة وإنْ عملتُ لصديقي وجيراني لا يكون استقلاليّة، وإنْ خفتُ من نار جهنّم فأنا مستقلّ، بينما إن خفتُ من مذَمّة الناس فأنا لستُ مستقلًّا؟ أتعلمون ما سبب هذا؟

ما الذي يجعلك مستقلًّا إذا عملتَ لله؟ لأنّ الله لا يثيب أو يعاقب على الفور

  • السبب هو قوله عزّ وجل: «إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفيها» (سورة طه/ الآية15)؛ يوم القيامة، الذي سأُثيب وأعاقب فيه، أكادُ أخفيه! ولماذا تخفيه يا ربّ؟ «لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعَى» (سورة طه/ الآية15)؛ لكي أجزي كلّ امرئٍ اعتمادًا على سعيه وجهده، الذي هو المعيار لقيمة كلّ إنسان. فحين أريد أن أثيب إنسانًا لتُعرَف قيمته الحقيقيّة فإنّي أخفي ثوابه، أخفيه لدرجة أنّي أكاد أخفيه عن نفسي، ناهيك عن أن أبوح به لك أنت!
  • أتعلم لماذا تكون مستقلًّا إنْ عملتَ لله تعالى؟ لأنّ الله لا يثيبك على الفور، ولا يجازيك بشكل مباشر، لأنّ الله لا يُكثر من تنبيهك، ولا يبالغ في نصيحتك، ولا يسرف في تأنيبك.
  • والحال هي الحال لو عشتَ مع نبيّ الله أو وليّه؛ فلا تظنّنّ أنّك إنْ عشتَ مع الشيخ بهجت(ره) لعكَفَ سماحتُه على تنبيهك ليلَ نهار قائلًا: "افعل هذا الفعل الآن.. أما الآن فافعل ذاك الفعل.. لماذا فعلتَ هذا؟!" اسأل نجل الشيخ بهجب: كم كان سماحته ميّالًا لنُصح مَن حولَه، وإن بالغوا في توسّلهم إليه؟ لم يكن يقول شيئًا! لماذا؟ لأنّه كان يحب أن تدرك أنت الأمر.

إنْ عملتَ لله ربّاك الله مستقلًّا/ الله فقط يستطيع أن يوصلنا إلى ذروة الاستقلاليّة بالمنهاج الذي يزوّدنا به

  • إنْ عملتَ لله عزّ وجلّ فسيربّيك على الاستقلاليّة، بل إنّه تعالى ما خلقك إنسانًا إلّا لهذا. يقول تعالى في مُحكم كتابه العزيز: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً» (سورة البقرة/ الآية30)، إنّ كلّ واحد منكم خليفة لله في الأرض يقوم مقامه! كم هذا رائع! لاحظوا أيّ عدد ضخم من خلفاء الله لدينا في الأرض؟!
  • سؤال: الله تعالى مستقلّ أم تابع؟ هو مستقلّ. حسنٌ، لا بدّ أن تكون أنت، بما أنّك خليفةٌ لله، مستقلًّا أيضًا. وما معنى العبوديّة لله عزّ وجلّ؟ تعني أنّني (الله) لا غيري، ومن خلال المنهاج الذي أزوّدك به، بإمكاني أن أوصلك إلى قمّة الاستقلاليّة، وأحفظها لك، وأبلغك ذروة الازدهار، وأضمن لك استقلاليّتك.

أن تكون عبدًا لله لا يعني ضياع استقلاليّتك

  • أن تكون عبدًا لله عزّ وجلّ لا يعني أن تضيع استقلاليّتك، بل معناه أنّ عليك أن تجعل شعور التبعيّة والتعلّق الذي لديك حكرًا على علاقتك بي أنا (الله)، وسأجعلك أنا كائنًا مستقلًّا. انظروا ما الذي يصنعه الله تعالى في سبيل تربيتنا على الاستقلاليّة؟ قمّة الروعة! من جملة ما يصنعه تعالى هو الدعاء والمناجاة. يقول الله: "اطلب منّي شيئًا". فتقول: "وهل رأيي مهمّ؟!". فيجيب: "بالتأكيد مهمّ!"
  • يقول البعض مستغربًا: "ومَن أكون أنا في هذا الكون؟!" إنك إنسان.. لقد عَوَّلَ الله عليك... فيقول: "وهل ينظر الله في ما أرى؟! أوَهل رأيي مهمّ؟ ومَن أكون أنا يا ترى؟!" أين تربّيتَ يا هذا حتّى لا ترى نفسك إنسانًا؟! مَن الذي صنع بك هذا؟ من ذا الذي أهان كرامتك؟ من ذا الذي سحقك؟ من ذا الذي حطّمك؟ من ذا الذي أفناك حتّى صرتَ وكأنّك عَدَم؟!

الاستقلاليّة هي أن لا تتأثّر بشيء إلّا "بأرقى رغباتك"

  • إذن علينا دومًا أن نقوم بأمرين: الأوّل هو التمرُّن على الصلاح، أي على فعل الصالحات. على أنّه عادةً من الصعب على غير المستقلّين أن يأتوا بالفعال الصالحة، وأعمالهم الصالحة تكون، في العادة، غير مخلصة. ما معنى غير مخلصة؟ يعني أنّهم يفعلونها عن عدم استقلاليّة، ولهذا لا تكون صالحاتهم هذه ذات قيمة عند الله عزّ وجلّ، لأنّه تعالى سيقول لصاحبها: "لقد خلقتُك إنسانًا ولا ينبغي أن تتأثّر بأيّ شيء". "إذن عليَّ أن أتأثّر بماذا؟". "عليك أن تتأثّر بأرقى رغبة فيك". "وما هي تلك الرغبة الأرقى؟"
  • تلك الرغبة الأرقى، تلك المنفعة الأسمى هي أعلى هدف لديك، إنّها تلك الرغبة التي لا تحقّقها بسرعة، ولو تَقرَّر أن تحقّقها بسرعة فهذا يعني أنّ مستواك منخفض وأنّك أصبحتَ تبَعًا. حينذاك الله نفسُه يكون هو "الرغبة الأرقى"، وهو – بالطبع – لا يلبّي رغبة عبده بهذه السهولة، إلى درجه أنه يُبكيه!

ما ضرر أن يكون المرء صالحًا من دون استقلاليّة؟/ بعدم استقلاليّتك تَحُول دون ازدهارك

  • إنّ عليّ أن أجتهد لأكون صالحًا وأفعل الصالحات من جهة، وأن أكون مستقلًّا من جهة أخرى. عش استقلاليّتك من أوّل لحظات حياتك، فأن نكون صالحين دونما استقلاليّة ففي ذلك ضرر؛ إذ سنغدو يومًا بعد يوم أكثر تبعيّةً، وأشدّ ذلّةً، وأقلّ عزةً، وأبعدَ عن الاستقلاليّة، بل ستتبدّد الروحُ الإنسانيّة لدينا، الشيء ذاتُه الذي يعبّر عنه الدين: "لا أقبل منك". لكن عماذا نستقلّ؟ نستقلّ عن الآخرين، عن الأصدقاء، وعن الأعداء، بل عن سجايانا الطبيعيّة السطحيّة. حسنٌ، كلّ هذا صحيح في محلّه. علينا أن نتمرّن على هذه الاستقلاليّة، وأن نكون أيضًا أناسًا صالحين، أي أن نتمرّن على الصلاح إلى جانب هذه الاستقلاليّة.
  • إنْ لم نكن مستقلّين فسنضُرّ – في الواقع – أنفسَنا ونحُول دون ازدهارنا، وأنْ نضُرّ أنفسَنا يعني أنّنا لن نصل إلى الله تعالى، وأنْ نحُول دون ازدهارنا ورُقِيّنا هو الآخر يعني أن لا نصل إلى الله عزّ وجلّ.

إن لم تكن مستقلًّا فستكون عبدًا للطواغيب

  • مضافًا إلى ذلك فإنّنا سنوجّه إلى أنفسنا ضربةً أخرى؛ فإنّ اللصوص والسُلّاب والطغاة الذين يسعون لاستعبادك في العالم كثيرون، وإنّك ستكون أسوَغ لقمة لهم إن لم تكن مستقلًّا. ستكون عبدًا للطواغيت، شئتَ ذلك أم أبَيت! فما العمل؟ إنّ الإنسان الذي لم يبلغ استقلاليّته ولم يزدهر ثمّ فسَدَ سيصبح تلقائيًّا جنديّ سُخرةٍ للطواغيت! فكيف نصنع مع هذه المشكلة؟!
  • قد يقال: طيّب، هو يرفض استقلاليّة نفسه، فما شأنك أنت؟! لا يريد أن يكون مستقلًّا، يريد أن يكون تبَعًا، تبَعًا لغرائزه الضحلة، لأصدقائه، لأعدائه، لكائنٍ مَن كان، يريد أن يكون هكذا، بل لا يريد الازدهار أصلًا، أهُوَ تعسُّف؟! كلا، ليس تعسُّفًا، حتّى الأنبياء لم يتعسّفوا مع أحد، ونحن الذين ندّعي أنّنا مُريدو الأولياء لا ينبغي أن نتعسّف مع أحد أو نُكرِهه على شيء. حسنٌ، إنْ لم ترغب في أن تكون مستقلًّا فلا بأس، لكن لا يجنِّدك الأعداء أيضًا، لا تكن جنديّ الصهاينة كذلك! لأنّك حينها ستحاول قتلي!

إنكار الإمام علي(ع) على الناس: لماذا معاوية يعينه أصحابه وأنتم لا تعينونني؟

  • إن لم تشأ أن تكون مستقلًّا فلا تكن.. لا بأس، لكن لِمَ تصير عبدًا للطواغيت؟! لمثل هذه المواقف بالذات يغتاظ المستقلّون في المجتمع ويناشدون أصدقاءهم بإلحاح أن: كونوا مستقلّين، لا تكونوا عبيدًا للطواغيت، لا تدَعوا الأخيرين يستغلّونكم. في ما روي عن أمير المؤمنين(ع) أنّ معاوية كان يستغلّ الرعيّة لمآربه من دون مقابل؛ «أَوَلَيسَ عَجَبًا أَنَّ مُعاوِيَةَ يَدعو الجُفاةَ الطَّغامَ [أرذال الناس] فَيَتَّبِعونَهُ عَلى غَيرِ مَعونَةٍ وَلا عَطاءٍ وَأَنا أَدعوكُم وَأَنتُم تَريكَةُ الإِسلامِ وَبَقِيَّةُ النّاسِ إِلى المَعُونَةِ أَو طائِفَةٍ مِنَ العَطاءِ فَتَفَرَّقُونَ عَنِّي وَتَختَلِفونَ عَلَيَّ» (نهج البلاغة/ الخطبة180)، وإنّنا لنشاهد كيف أنّ الصهاينة يُجَنّدون من بيننا الأشخاص بلا مقابل، وكيف أنّ الأخيرين يبذلون لهم المستحيل.
  • إنّ من حِكَم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو "إنّك إن أحببتَ أن لا تكون مستقلًّا فلا شأن لأحد بك، لكن أتَعِدُنا بأن لا تكون عبدًا مُسَخَّرًا للطاغوت إنْ صرتَ غير مستقلّ؟" ولأُعطِكم أنموذجًا لذلك من التاريخ: كان أمير المؤمنين(ع) يطالب الناس بنصرته فكانوا يتنصّلون منها ويقصّرون معه، فيعترض عليهم أن: ما بال أهل الشام ينصرون معاوية وأنتم لا تنصرونني؟! (المصدر السابق نفسه)، (لكن يا سيّدي، إنّك تريد الناس مستقلّين، وأن ينصروك أيضًا، وهم غير مستقلّين، أمّا معاوية فيستعبد الناس استعبادًا).
  • يقول أمير المؤمنين(ع): إنّي لقادر على استعبادكم وإرغامكم على العمل لي بقوّة السيف، لكنّي لا أفعل ذلك؛ «وَإِنّي لَعالِمٌ بِما يُصلِحُكُمْ وَيُقيمُ أَوْدَكُمْ وَلكِنّي وَاللهِ لا أُصْلِحُكُمْ بِإِفسادِ نَفسي» (الغارات/ ج2/ ص625)، فكانوا يتّهمونه(ع): بأنّك لا تُحسِن الحُكم!" ولم يتّهموه هو وحسب، بل اتّهموا النبيّ(ص) بهذه التهمة أيضًا!
  • يقول أمير المؤمنين(ع): "لماذا لا تعينونني؟" لكنّك، يا سيدي، تريد أن تتعامل مع هؤلاء على أنّهم آدميّين، وأنْ يتصرّفوا على أساس الإخلاص والاستقلاليّة وروح عدم التبعيّة فيهم، لكنّهم لا يريدون الاستقلاليّة، إنّهم عبيد، يتسيَّد عليهم كلُّ مَن هَبّ ودبّ، ويسلبهم! هذا ما يخبرنا به التاريخ.

يا أهل الكوفة، أنتم ما كنتم تطيقون القتال مع عليّ(ع)، فماذا حصل فصرتم جنود يزيد وقتلتم الحسين(ع)؟!

  • حسنٌ، لم تنصروا عليًّا(ع)، لا بأس، لكن لا تنصروا أحدًا بتاتًا! يا أهل الكوفة، إنّكم لم تنصروا عليًّا(ع)، لا بأس، لكن لا تسيروا خلف شخص آخر. لَمْ تقاتلوا مع عليّ(ع)، لا بأس، لكن لا تقاتلوا مع يزيد أيضًا فتسيروا لقتل الحسين(ع)! لا تقاتلوا مع أيٍّ كان، وكونوا مستقلّين تمامًا! يا أهل الكوفة، إنّكم لم تنصروا عليًّا(ع)، فليكن، إذن لا تنصروا أحدًا قطّ. حين لا تنصرون عليًّا(ع) لماذا تراكم تنصرون من بعده يزيد فتقتلون الحسين(ع)؟! ألف وأربعمئة سنة ونحن نلطم، ونبكي، ونضجّ لأجل هذا الكلام!
  • أيّها اللئام، ألا إنّكم لم تكونوا أهل قتال، وكنتم تتحجّجون بأنْ لا طاقة لكم بالحرب. حسنٌ، إن لم تكن لكم طاقة بالحرب مع الإمام عليّ(ع) فما الذي حصل لتخرجوا بإمرة يزيد وتقتلوا الحسين(ع)؟!

ما الخطر الذي يهدّد المجتمع إذا لم يكن مستقلًّا؟

  • هذا الذي لم يكن على استعداد لاتّباع أمير المؤمنين(ع) باستقلاليّة قاتلَ من أجل يزيد دفاعًا عن مصالحه الشخصيّة وقتلَ الحسين(ع) تأمينًا لمصالح يزيد! يا هذا، إن لم تكن مستقلًّا، لا بأس، لا تكن، لا أحد يمكنه إجبارك على ذلك، لكن لصالح الخصم أيضًا لا تقاتل! لا تكن عبدًا للصهاينة فتأتيني وتقتلني أنا! ودعوني أتلو عليكم حديثًا في هذا الباب؛ عن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: «مَن لَم يُنفِق في طاعَةِ اللهِ ابتُلِيَ بِأَنْ يُنفِقَ في مَعصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَن لَم يَمشِ في حاجَةِ وَلِيِّ اللهِ ابتُلِيَ بِأَنْ يَمشِيَ في حاجَةِ عَدُوِّ اللهِ عَزَّ وَجَلّ» (من لا يحضره الفقيه/ ج4/ ص412)؛ أي مَن لم يبذل نفسه في سبيل ولي الله سيضطرّ لأن يبذلها في سبيل عدوّه.
  • يا أصدقائي، اصنعوا ما يجعل جميع مَن حولكم يعملون على استقلاليّة أنفسهم، ساعدوهم على ذلك، استقلّ أنت، واعمل على استقلاليّة صديقك، فمن الخطورة أن لا يكون مستقلًّا. نعم، نفسك أنت بيدك. وسأتحدّث في المحاضرات القادمة عن أنّ الشخص إن لم يكن يريد الاستقلاليّة أو يتحلّى بروح الاستقلاليّة، تلك الروح التي من نتائجها ومقدّماتها تحمّل المسؤوليّة، وكان يعيش في بلد صاحب الزمان(عج) هذا، فسوف يتنفّس لصالح الصهاينة مرّةً كلّ بضع دقائق، "بمعدل ثلاثة مقابل صفر"! بل لن يشاء العمل لبلده أصلًا، وسأضرب لكم على ذلك الأمثلة.
  • ليَكُن.. لستَ عبدًا لله تعالى؟ لا بأس، أوَيستطيع أحد إرغامَك على ذلك؟ إذن لا تكن أيضًا عبدًا ورقيقًا لشخص، لا تكن رقيقًا لعدوّك كذلك، أتعدُني بذلك؟ فإن أردتَ أن تصبح رقيقًا لشخص آخر فهل ستأتيني وتقتلني؟ هذه هي طريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا هو محلّ نزاع الناس في حواراتهم في هذا المجتمع، نحن نريد أن نستقلّ، لا نريد شيئًا آخر.
  • سيقول قائل: لكن لماذا تريد العمل لله تعالى إن كنتَ تروم الاستقلاليّة؟ الجواب: لأنّ الله سبحانه وحده الذي يحترم استقلاليّتنا، إنّه لا يدفعنا دفعًا، إنّه لا يخوّفنا. فهو – مثلًا – يخوّفنا من نار جهنّم التي لم يرها أحد، إنّه لا يأخذ أيدينا ويذهب بنا إلى داخل النار ثم يقول: "هل احترقتَ؟ إذن لا تُذنب بعد الآن!" فإنّك تلاحظ أنّ أحوالنا قد تتحسّن أيضًا إن لم نُصَلِّ، فالله تعالى لا يصفعنا لأجل ذلك فيُكَدّر صَفوَنا!

الصالحون إذا لم يستقلّوا سيكونون أفضل العناصر لحكومات الطواغيت

  • الصلاح من دون استقلاليّة لا يجدي نفعًا، وإنّ أحد أضراره هو أنّه ليس صلاحًا في واقع الأمر؛ فإنّك حين تكون عبدًا لغيرك، تبعًا له، ولا تكون مستقلًّا لن يقبل الله عزّ وجلّ منك ذلك. الضرر الآخر هو أنّك حين تكون صالحًا ولا تكون مستقلًّا فستكون – بالمناسبة – أفضل عنصر للطواغيت.
  • إنّ المصلّين، المرتادين للمساجد، والبكّائين الجيّدين إذا لم يكونوا مستقلّين فسيكونون أفضل عناصر لحكومات الطواغيت، بل سيخصّص لهم الصهاينة قناةً فضائية ويقولون لهم: "اهتَمّ بصلاتك، ولا تصدّع رؤوسنا!" في إحدى المدن في زمن الحركة الدستوريّة (المشروطة) كان الروس يهمّون بإعدام أبطال تلك المدينة، وصادف أن يكون اليوم يوم عاشوراء أيضًا والناس يُحيون مراسم العزاء. ويَنقل لنا التاريخ أنّ منفّذي الإعدامات تهامسوا: "لو كان المُعَزّون هجموا علينا بمواكبهم فجأةً محاولين منعنا من إعدام القوم لما كان بمقدورنا صنع شيء لكن لا صلة لعزائهم بقضاياهم السياسية، إذ تركونا ننجز عمليّات الإعدام!"
  • أودّ أن أطرح مقترحًا، وهو أنّه: لنستعمل، من الآن فصاعدًا، كلمة "الاستقلاليّة" عوضًا عن كلمة "الصلاح" أو الكثير من مثيلاتها الأخرى؛ فإن أردتَ – على سبيل المثال – أن تقول: "أريد أن أكون متديّنًا"، فلتقل: "أريد أن أكون مستقلًّا"، ثم فسّر هذا الاستقلال أيًضا، بأن تقول: "لقد قالوا(ع): «الإِخلاصُ غايَةُ الدّين»" (غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم/ ص44).

هل تنفع الاستقلاليّة من دون صلاح؟ أساسًا لا يمكن أن يكون المرء مستقلًّا ولا يكون صالحًا

  • قلنا إنّ الصلاح من دون استقلاليّة لا ينفع، ولنتطرّق الآن إلى الطرف الآخر من الموضوع؛ هل تنفع الاستقلاليّة من دون صلاح؟ أنا لا أستطيع أن أتخيّل شخصًا مستقلًّا من دون أن يكون صالحًا. نعم قد تكون للبعض روح النزوع نحو الاستقلاليّة، ويظنّ نفسه – عبثًا – أنّه إنسان مستقلّ، ويرى في نفسه بعض علامات الشجاعة والتنمُّر، أي يكون في الظاهر مستقلًّا لكن غير صالح، فإنّ أمثال هؤلاء سيصبحون طواغيت يعملون على استعباد الآخرين. يقول الله عزّ وجلّ في هؤلاء في كتابه العزيز: «كَلّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى» (سورة العلق/ الآيتان6 و7).

البعض يطغى إذا استغنى، وهذه هي الاستقلاليّة من دون صلاح

  • فلتتخيّلوا امرَأً لا يرغب في أن يستَرِقَّه غيرُه لكنّه هو يسعى لاستعباد الآخرين، ماذا نصنع مع هذا؟ بذلنا كلّ ما في وسعنا لنقنعه بأن لا يكون عبدًا للآخرين فإذا به هو يحاول استعباد الآخرين!
  • يقول عزّ وجلّ: «إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى»؛ أي إنّ البعض يطغَى بمجرّد أن يستغني فيسعَى لاستعباد الآخرين، وهذه هي الاستقلاليّة من دون صلاح، إذ يقول تعال: "لو أنزل الله الرزق لعباده وافرًا هكذا لبغَوا وظلموا: «وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبيرٌ بَصير» (سورة الشورى/ الآية27).
  • في البدء يُصَرّ عليك أنْ: كُنّ مستقلًّا، لكن حين يصل المرء إلى مرحلة الاستقلاليّة هذه وتنتابه حالة الاستغناء قليلًا فإنّه - إن لم يكن خاضعًا لتربية حسَنَة ولم يُرِد أن يكون، إلى جانب استقلاليّته واستغنائه، إنسانًا صالحًا - سيتحوّل هو إلى مستكبر، سيصير هو طاغوتًا، سيسعَى هو إلى استعباد الآخرين. فلقد كان البعض، يومًا ما، جُرذًا لكنّه ما إن بلغ بعض المراكز حتّى صار ذئبًا! فأين جُرذيّتك تلك، من ذئبيّتك هذه؟!

ألا يطغى الناس على عهد صاحب الزمان(عج) حيث تزداد البركات؟

  • وأريد هنا أن أتحدّث إليكم قليلًا حديثًا مهمًّا عن المجتمع المهدويّ، وظهور مولانا صاحب العصر والزمان(عج) وفرَجه والعيش في ظلّ دولته. يقول عزّ وجلّ: "البعضُ ما إنْ أُنعِم عليه بنعمة ويرى نفسه مستقلًّا بعض الشيء في الظاهر تراه يطغى: «وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ» (سورة الشورى/ الآية27). حسَنٌ، البركات والنِعَم على عهد صاحب الزمان(عج) ستزداد لأنّ الطواغيت سيزالون، لكن ماذا لو صرنا نحن طواغيت؟ اِضمنْ لي عدم تحوّلنا نحن إلى طواغيت كي يظهر سيّدك!
  • ليسوا قلّة هم الثوريّون أو المتديّنون الذين رأيتُهم ما إن بلغوا مركزًا أو نالوا جاهًا حتّى لم تعُد في قلوبهم رحمة! يا هذا، ما الذي تصنعه؟! وأستطيع أن أضرب لذلك من السياسيّين البارزين أمثلة!
  • الاستقلاليّة من دون صلاح أمر سيّئ، وهو ما يسمّيه الله تعالى في القرآن الكريم "الاستغناء". على أنّ الاستقلاليّة إذا كانت حقيقيّة فإنّ صاحبها لا يفسد، لكنّها إن لم تكن حقيقيّة، وأصاب صاحبُها شيئًا من الاستقلاليّة، مع بعض الشعور بالاستغناء، ومن ثمّ قاده الاستغناء إلى الطغيان، فهذا سيّئ. إذن يمكننا القول إجمالًا إنّ الاستقلاليّة من دون صلاح سيّئة، كما هو الحال مع الصلاح من دون استقلاليّة.

مسؤولو البرلمان والحكومة معرَّضون الآن لهذا الاختبار: "ألا تطغى إذا استغنيت؟"/ ما مؤشّر عدم طغيان المسؤول؟

  • ولهذا السبب لا يُنعم الله تعالى على الأُمّة أو الأفراد الذين ليست لديهم قابليّة الاستغناء. مسؤولو البرلمان والحكومة الحاليّون يَدّعون درجةً عاليةً من التوحيد، ونحن ندعو لهم باستمرار، بل نعرف أكثرَهم عن كثب بأنّهم ليسوا أهل طغيان، لكن لا بدّ لهؤلاء أن يمرّوا باختبار، اختبار تاريخيّ، وهو: "هل ستطغى إذا استغنيت أو لا؟" لكن ما هو مؤشّر طغيان المسؤول الحكوميّ من عدمه؟ المؤشّر هو الخدمة الدؤوبة، والمثابرة المتواصلة، والابتعاد عن عيشة الأشراف، وبمراعاة الكثير من المبادئ التي يجب تناولها مفصّلًا في وقت آخر.
  • من الخطأ أن نعتقد أنّه لم يعُد ضروريًّا أن ننصح السياسيّين الحاليّين! كلّا، من الضروريّ الدخول في حوارات كثيرة، إنّ علينا اجتياز هذه المرحلة لنبلغ عصر ظهور إمام العصر(عج). ليست القضيّة أنّنا قد بلغنا المرحلة التي يتعيّن فيها أن يظهر(ع)، كلّا، فإنْ تولَّى شخصٌ صالحٌ المسؤوليّة فسيُمتحن بأنّه: ألَن تطغى إذا استغنيت؟
  • إنّ الله تعالى يمتحنكم واحدًا واحدًا، وبأدقّ التفاصيل. منها أنْ يُغنيك ويرى إن كنتَ ستطغى أم لا. فإنْ أغناك الله تعالى ولم تطغَ، ومنحكَ الاستقلاليّة ولم تطغَ، أتعلم إلى أين ستصل؟ ستصل إلى حيث يُمسك العرفاء بالنحاس فيتحوّل إلى ذهب، أو يَشفون مريضًا من السرطان بإشارة، أو ينتقلون من هذا الجانب من الكرة الأرضيّة إلى ذاك بإشارة.

فلسفة معظم امتحاناتنا هي أن لا نطغى إذا استغنينا واستقلَلنا

  • لماذا يمنح الله تعالى العرفاء قدرة؟ إنّه عزّ وجلّ يقول للعارف: "لا أريدك أن تتعلّق بأيّ شيء، أَمتحنُك كلّ يوم، وكلّما قطّعتُ تعلّقاتِك وأغنيتُك فإنّك لا تطغى قيد أنملة!" إنّ الله تعالى ليس ببخيل. في مجتمعنا هذا نفسه لو استغنى المؤمنون ثمّ لم يطغوا لأرسلَ الله إلينا إمام زماننا(ع) ولصِرنا سادة العالم، أمّا الآن فعلى أيّ أساس يعوّل الله تعالى علينا لنصبح سادة العالم؟ أنجَحنا في الامتحان على مستوى الأفراد أو المجتمع؟
  • هل نجحنا في امتحان الاستغناء والاستقلاليّة بأن لا نطغى؟ فهذه هي فلسفة معظم اختباراتنا؛ وهي أن يُنعم الله علينا النعم، فإن طغَينا سلبَها منّا قائلًا: "يا هذا، إنك لا تطيق مثل هذا الامتحان". بل إنّ الله عزّ وجلّ ينظر لبعض عباده مجرّد نظرة فيقول: "لا تُنعموا على عبدي هذا نعمة" لماذا؟ يقول: "إنّه الآن في كنفي، فإن أنعمتم عليه فاستغنَى بعضَ الشيء وشمَّ رائحة الاستقلاليّة فَسُد، إنّنا نسيطر عليه في الوقت الحاضر عبر تعلّقاته هذه. بالطبع التعلّقات لا تُنضِج صاحبَها، لكن ما عسانا نفعل؟ في النهاية نحن نحتويه بهذه الطريقة".
  • في الحقيقة ليس ثمّة استقلاليّة من دون صلاح، فإن كانت الاستقلاليّة حقيقيّة لكان الصلاح ثمرتَها، غير أنّ البعض إذا استغنَى وشمّ رائحة الاستقلاليّة انحدر ولم يعد بالإمكان السيطرة عليه.

 

تعليق