الطريق الوحيد معالم الأسرة الصالحة رحلة الأربعين تعرف علینا بقلم استاذ البريد الكتروني فیسبوک تويتر انستقرام تلغرام

جديدنا

۰۱/۰۴/۰۱ چاپ
 

تحمّل المسؤولية والاستقلالية أهم مؤشرات الولائية (المحاضرة1)

أكثر أسباب استشهاد الإمام الحسين(ع) جوهرية هو "حفظ العزة"/ أهم عنصر من عناصر عزة المرء هو استقلاله/ الدين كله هو سر إيصال الإنسان إلى هذه الاستقلالية

الهويّة:

  • المكان: كلية الإمام علي(ع) الحربية، موكب "ميثاق با شهدا" (العهد مع الشهداء)

  • الزمان: 29/ ذو الحجة/ 1443 - 09/ آب/ 2021

  • A4|A5 :pdf

أكثر أسباب استشهاد الإمام الحسين(ع) جوهرية هو "حفظ العزة"

  • شهر محرم الحرام هو أساسًا شهر العزة. وإن كنا نعرف هذا الشهر بأنه شهر عزاء أبي عبد الله الحسين(ع)، وشهر ثورته، وشهر شهادته فلا بد أن نقول: إن أكثر أسباب شهادة أبي عبد الله الحسين(ع) جوهريةً وآخرها هو "حفظ العزة"، وهذا هو مضمون العبارة الجوهرية التي أطلقها الإمام(ع) في كربلاء، وهي: «هَيهاتَ مِنّا الذِلّة» (إثبات الوصية/ ص166). فلو لم يُرِد جيشُ الكوفة إلا إرغام الإمام الحسين(ع) على الصلح أو عدم القتال فلربما لم يكن لينشب قتال، ولربما كانوا وافقوا على الحلول الأخرى التي طرحها(ع) آنذاك، لكنهم قالوا له: أمدُد يدك لنقودك كالعبد الذليل إلى يزيد! ولهذا قال(ع): «هَيهاتَ مِنّا الذِلّة»؛ أموت ولا أركُن إلى الذل: «أَلا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابنَ الدَّعِيِّ قَد رَكَزَ بَينَ اثنَتَينِ بَينَ السَّلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَهَيهَاتَ‏ مِنَّا الذِّلَّة» (اللهوف على قتلى الطفوف/ ص97).

    أساس حادثة الطف هو "العزة"، فلقد جرت الأمور بالشكل الذي كان لا بد للإمام الحسين(ع) أن يثبت عند عزته ويَأنَف الذل أمام الظَلَمة، على أنه(ع) قد وهبَ بموقفه هذا عزةً للإسلام وللمؤمنين أيضًا.

كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العنصر الأساسي في تبلور هذه الثورة لكن محورها كان "العزة"

  • قد يقال: إن أصل عاشوراء هو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وهو ما جاء في وصية الإمام الحسين(ع) لدى ثورته حين قال: «إِنَّما خَرَجتُ لِطَلَبِ الإِصلاحِ في أُمَّةِ جَدِّي(ص) أُريدُ أَن آمُرَ بِالمَعرُوفِ وَأَنهى عَنِ المُنكَر» (بحار الأنوار/ ج44/ ص329). أجل، هذا صحيح تمامًا، ولقد انطلق عليه السلام لهذا الهدف، لكن حاوَلوا منعه بالقول: "أنت لم تعد قادرًا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس لديك من أنصار، ولا يتسنى العمل على إصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أهل الكوفة هؤلاء وهذه حالهم!... ولهذا فإنه حين انتهت الأمور إلى هذا المنتهى قال(ع): إذن أعود أدراجي. فقيل له: لا يمكنك العودة، حدد موقفك من بيعتك (ليزيد) أوّلًا. قال(ع): لا أبايع. قالوا له: فإما أن نُسلِمَك ليزيد مغلولًا أو نُسَلِّمه رأسَك! فقال الإمام(ع) حينئذ: إذن أقاتلكم.

    صحيح أن هذه الأحداث حدثت في سياق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن القضية حين حاصروا الإمام الحسين(ع) لم تكن قولهم: "ما دمتَ تريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذن نقتلك!" وأنّ رَدّ الإمام(ع) هو: "بما أنني أريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأنا جاهز للقتال والشهادة". بل لقد قال القوم: "لقد أتيتَ طلبًا للناصر لكي تثور من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنك الآن من دون ناصر ومعين... فقال لهم(ع): نعم، هذا صحيح. فقالوا: إذن مُدّ يدك ذليلًا وبايع! فقال(ع): لا أفعل هذا. ولهذا تحوّل شعار الإمام الحسين(ع) - الذي كان في بداية الثورة الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر – إلى «هَيهاتَ مِنّا الذِلّة». معنى هذا أنكم إن لم ترغبوا في إصلاح أنفسكم، ولم تُعينوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتريدون أن يكون يزيد هو خليفتكم، فليكن ما تريدون، لكني لا أقبل الذل!

    إذن محور ثورة الإمام الحسين(ع) هذه كان "العزة"؛ نعم، لقد حصلت فيها الشهادة، وتحقق فيها الجهاد، وحدثت فيها الهجرة، وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العنصر الجوهري في تبلورها، وقد انطوت على مقارعة الظلم والجور، والكثير من المفاهيم الأخرى، بل تم بها إحياء الدين كله، وأثبتَ أصحاب أبي عبد الله الحسين(ع) فيها قضية الولاية والولائية، وكشف أصحاب المعسكر المقابل عن أنهم قبلوا ولاية الطاغوت وقد بانت في ذلك المعسكر النتائج الوخيمة لهذا القبول. كما قد برزت في معسكر الحسين(ع) الثمار النيّرة لقبول ولاية ولي الله... فالكلام في كربلاء يطول، وملحمة الطف ليست ملحمة أحادية البعد، غير أن أصل القضية هو "العزة".

لا بد أن نلحظ "العزة" إلى جانب أي بُعد نتناوله من أبعاد عاشوراء؛ مثلًا "ظلامة الإمام الحسين(ع) وعزته"

  • والآن، ماذا علينا أن نصنع بهذه العزة؟ إن في أي كلام نسوقه حول عاشوراء وكربلاء، وأي لطمية نلقيها، ومرثية نقرؤها، وصدر نلطمه، وشعار نرفعه، بل وفي كل حركة نقوم بها يجب أن تكون "العزة وإلى جانبها مواضيع أخرى"؛ فمثلًا: العزة وعاطفة أبي عبد الله الحسين(ع)؛ أي حين نُظهِر عاطفة أبي عبد الله الحسين(ع) لا بد أن نتذكر أن نحفظ عزّتَه(ع) وأنْ نعلم أنه(ع) أرادَنا نحن أيضًا أن نكون أعزة. فإن أحببنا أن نكون صلحاء فيجب أن نكون صلحاء بعزة، لا أن نكون صلحاء من دون عزة، فالصلحاء بلا عزة كثيرون.. الذين يصبحون صلحاء من منطلق الضعف والخوف لا يخدمون نهج الإمام الحسين(ع) في شيء.

    ما من بُعد من أبعاد عاشوراء نتناوله إلا ويجب أن تكون العزة حليفته؛ فإن تناولنا ظلامة الإمام الحسين(ع) مثلًا، تَوجَّب علينا حفظ العزة إلى جانبه، وإن تحدثنا عن مقارعة الحسين(ع) للظلم تَحتَّم علينا أن نلحظ العزة أيضًا. صادفَت في أحد الأعوام (الشمسية) مناسبتان لعاشوراء في أول العام وآخره، وإذ أراد الإمام الخامنئي حينها تسمية العام باسم الإمام الحسين(ع) كان اختياره للشعار السنوي في منتهى الحكمة؛ أسماه "عام العزة والفخر الحسينيَّين"؛ فأتى باسم أبي عبد الله الحسين(ع) مقرونًا بـ"العزة"؛ يعني: إننا مصابون بالحسين(ع)، لكننا نفتخر بهذه العزة، وهذه الملحمة العظيمة، وهذه الشخصية الجليلة.

 

الكل، بما فيهم السيئون، يطلبون العزة

  • فالعزة، إذن، هي أساس أحداث الطف. ما الدرس الذي علينا أخذه من كربلاء؟ إنه العزة مضافًا إلى دروس أخرى كثيرة؛ لا أن نلغي العزة! بل يجب أن تكون على رأس سائر الدروس وأصلها. فالإنسان كائن عزيز، كائن يطلب العزة.. نعم، قد يطلبها من طريق خاطئة، أو يسعى وراء العزة الزائفة، لكنه يطلب العزة على أية حال. فالإنسان غير العزيز إنسان كريه والعزة، في كل عصر ومصر، شيء حسَن. حتى السيئون من البشر يحبون العزة، البلطجيون أيضًا يهوَون العزة؛ كل ما في الأمر أن البلطجي قد يكون منطقه مثلًا: "أنا ضربتُ ضربتَي سكّين أزيَد" ويريد - من خلال هذا - تحصيل العزة، أو تحصيلها بما في وجهه من جروح وخدوش، أو يود شخص آخر تحصيل العزة عبر موديل سيارته، أو يطلبها آخر بشهادته الدراسية.

لا بنبغي حفظ عزة المؤمنين فحسب، بل عزة العدو أيضًا ما أمكن

  • في النهاية قد لا يطلب الناس العزة من طريقها السليمة، لكنهم جميعًا يطلبونها. ولا نريد الخوض في موضوع العزة، فالكلام فيه يطول، فإن علينا أن نصون عزة أعداء الإسلام أيضًا حتى آخر لحظة؛ فلقد طرح أميرُ المؤمنين(ع) عمرو بن عبدِ وُدّ أرضًا لكنه لم يسلبه درعَه، وكان باستطاعته أن يغنمه، فعادةً ما كانوا يفعلون ذلك في الحروب، ولقد كان درعًا ثمينًا. نادى الجميع: لماذا لا تسلُبه درعَه؟ وحين أقبل(ع) نحو رسول الله(ص) وجّه إليه النبي(ص) السؤال ذاته فقال أمير المؤمنين(ع): «ضربتُه فاتّقاني بسوأته، فاستحيَيتُ من ابن عمي أن أسلُبَه» (الصحيح من سيرة الإمام علي(ع)/ ج٤/ ص75)؛ أي: أردتُ صون عزته. وكأنه(ع) أراد القول: إنه عدو لنا وقد جاء لقتالنا، ولقد دعوته بدايةً إلى الإسلام فرفض، فقُتل في نهاية المطاف. لكنه كان عزيزًا موقّرًا في قومه.

    إن من عظيم مصائبنا في الطف هي أن الأعداء حاولوا النيل من عزة الإمام الحسين(ع). فلقد ارتكب الكثيرون يوم عاشوراء جرائم، بدءًا من حرملة وانتهاءً بالشمر، لكن بعضهم دنا من أبي عبد الله الحسين(ع) لانتهاك عزته، وقد ذكرتْ بعضُ الأخبار أنهم أُبيدوا في الحال؛ أي لم يُطِق الله هذا الفعل منهم.

    إن أمر العزة عجيب. حتى أمير المؤمنين(ع) أمرَ بصيانة عزة قاتله. بالطبع لم ينطق بهذا صراحةً، بل قال: «فَاضرِبوهُ‏ ضَرْبةً بِضَربَةٍ وَلا تُمَثِّلوا بِالرَّجُلِ فَإِنّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ(ص) يَقولُ: إِيّاكُم وَالمُثْلَةَ وَلَو بِالكَلبِ العَقور» (نهج البلاغة /ص422). فيجب المحافظة على عزة السيئين أيضًا، هكذا حافظ رسول الله(ص) على عزة الكثير من المنافقين حتى صَلفوا، وإنكم على علم بهذه القصص.

    العزة مسألة مهمة للغاية، وإن عزة المجتمع الإسلامي لأمر في منتهى الأهمية، بل عزة المؤمن الواحد أمر جِدُّ مهم. على أنه لا ينبغي الخلط بين العزة والتكبّر؛ فقد يتحتم على المرء التنازل أمام المؤمنين والصفح عنهم، أما في مقابل الأعداء الأجانب فإن العزة مهمة جدًّا. فلا تعجبوا أبدًا إذا فَنِيت أُمةٌ لأنها لم تحفظ عزتَها أمام عدوها بسبب [سوء تصرّفِ] ساسَتها فإن الله يفني هذه الأمة قائلًا لها: "لماذا لم تصوني عزتك؟! ما الذي بقي لك عندي؟!"

أهم عنصر من عناصر عزة المرء هو استقلاله

  • من ناحية أخرى لا يجوز للمرء أن يدوس على أمر الله تعالى في سبيل صون عزته لأنه، في هذه الحالة، سيُذَل. فمن الممكن أن تُكتسب العزة عن طريق صائبة أو طريق خاطئة. أين هو أهم مَكمَن لعزة الإنسان؟ أهو ممتلاكته؟ كلا. أهو قدراته؟ كلا. أهو مهاراته التي اكتسبها؟ كلا. أهو كفاءاته العلمية؟ كلا. ما الذي يوَلِّد للإنسان العزة؟ ممتلكات الإنسان وكفاءاته وقدراته وجماله وما إلى ذلك بمقدورها جميعًا أن تجعل للإنسان عزة؛ سواء أكانت عزة حقيقية أم زائفة، مؤقتة زائلة أم دائمة باقية، عميقة أم سطحية، ..إلخ، فلا شأن لنا بهذا. سؤالنا هو: ما هي أهم عناصر عزة الإنسان؟ أهم هذه العناصر لا هي ممتلكاته ولا قدراته، بل استقلاله. لاحظوا أن معظم إمكانياتنا التي نفخر بها تملكها الحيوانات أيضًا، بل وتملك أفضل منها أحيانًا، لكن الحيوانَ حيوان في النهاية ولو أطلقتَ اسمَه على شخص ما تكون كمَن شتمَه.

    فإن للحمار مثلًا القدرة على حفظ الطريق إذا سار فيه مرة وباستطاعته أن يعود فيه من دون أن يتيه مهما كان هذا الطريق مُعقَّدًا، وكأنّ ضربًا من "الجي بي أس" أو نظام تحديد المسار مُودَع في دماغه! لكن بما أنه لا استقلالية للحمار فلا قيمة لهذه المهارة فيه، وهي لا تمنحه العزة؛ إنه حيوان ولا يملك نفسَه، كما أنه لم يكتسب هذه المهارة بنفسه.

يملك البعض الكثير لكن غياب الاستقلال عنه يجعله لا يستمتع بما يملك

  • یملك بعض الناس الكثير من الإمكانيات والكفاءات لكن غياب الاستقلالية عنه يجعله لا يستمتع بما يملك. أجل، قد يشجعه بضعة أشخاص، ويصفقون له أحيانًا فتجتاحه بعض السعادة، لكن ما إن ينتابه هذا الإحساس بضع مرات حتى يخبو بريقُه ويختفي. فالاستقلال أمر مهم للغاية، والإنسان كائن طالب للعزة، وإن مَكمَن العزة الأساسي هو "الاستقلال"؛ وهو أن يكون "هو"، فلا يرغّبه أحد في فعل شيء أو يدفعه إليه دفعًا، ولا يكون تبَعًا لأحد، ولا متطفّلًا على أحد، ولا يخشى أحدًا. ولقد أطلقوا على قسم من هذا الاستقلال لفظة "الحرية". أتلاحظون كم أن الحرية مهمة للبشر؟ وكم أن لفظة العبودية والرق بذيئة وتمثّل حالة سيئة للإنسان؟

للاستقلال معنى أشمل من الحرية/ "حرية" الإنسان هي جزء من استقلاله

  • ثم إن "الحرية" تصوِّر جزءًا من استقلال الإنسان فقط، وإن للاستقلال معنًى أشمل من الحرية. فـ"الاستقلالية في الاختيار" أو "الاستقلالية في الإرادة (لإنجاز عمل ما)" يسمّونها "حرية"، بل وفيما يرتبط بالمجتمع. الاستقلالية هي في غاية الأهمية للإنسان. على أنهم يُمَنُّون الناس بمفهوم "الحرية" أيما تَمنِية ويكررونه على الأسماع، لكن الحرية هي أحد جوانب الاستقلال، وفي العادة نحن لا نتحدث كثيرًا في عالَمنا هذا عن الاستقلال كله؛ إذ لو استقل الناس لأصبحوا – بطبيعة الحال – شوكةً في عيون طواغيت الأرض.

    لماذا يقول الله تعالى للعبد إذا جاءه الأخير بحَسَنة: "إن كانت خالصة لوجهي قَبِلتُها وإن لم تكن خالصة لا أقبَلُها"؟ أمرٌ لافت جدًّا؛ لأن الحسَنة بلا استقلالية لا تُجدي نفعًا. إذ سيقول له: لمَن فعلتَ هذه الحسَنة؟ إذن الإخلاص هو الآخر يعني "الاستقلال"؛ يعني: إلهي، لك وحدك لا لسواك. فأن تكونَ "مستقلًا" عن الآخرين حقًّا فهو الإخلاص بعينه. على سبيل المثال: إن أتيتَ بفعل طمعًا في شيء أو مرضاةً للآخرين فإنك لا تعود مستقلًا، بل تكون تبَعًا؛ تبَعًا لأيما شيء، أو أيما أحد!

    يقول أمير المؤمنين(ع) في ما روي عنه: «الإِخلاصُ غايَةُ الدِّين» (غرر الحكم/ ص44)؛ أو بتعبير آخر، وبلغتنا المعاصرة: "غاية الدين هي الاستقلال عما سوى الله"، وبالمعنى الإنساني للكلمة: إنه الاستقلال بعينه.

    موضوع بحثنا في هذه الليالي لا يتناول الاستقلال، بل نود التحدث عن إحدى ركائز الاستقلال وواحدة من المواطن التي يمكننا التمرّس فيها عليه. على أننا قد نضطر في الليالي القادمة للتحدث عن الاستقلالية من جديد.

يُنَظّر البعضُ للتبعية والضعف، الضعف الذي يبدد استقلالية صاحبه

  • "الاستقلال، الحرية، الجمهورية الإسلامية" الذي أصبح شعارَ بلدِنا هو شعار يَنُمّ عن فطنة وحكمة في آنٍ معًا؛ فهو ينُمّ عن حكمة لأنه يمكن تأليف مئة كتاب في شرحه، وينم عن فطنة لأنه جعل الاستقلال في الصدارة، بل وقبل الحرية. إذ من الممكن أن يزودوك ببعض درجات الحرية ويسلبوك استقلالك في الوقت ذاته، فاحذر أن يستغفلوك ويخدعوك! فالاستقلال هو المهم بالدرجة الأولى، ومن ثم تأتي الحرية مَظهرًا من مظاهر هذا الاستقلال. فلقد جرى التقليد في عالمنا المعاصر أن يتم التأكيد على الحرية من دون أن يشار إلى أن هذه الحرية موجودة في الاستقلالية أيضًا.

    لا بد للإنسان أن يكون كائنًا مستقلًا، ويتحتم على الآباء والأمهات الموّقرين أن يُنشئوا أبناءهم مستقلين. فالبلد الذي يصبو إلى الاستقلال لا بد أن يكون أبناؤه جميعًا مستقلين، وأن لا يكونوا تبعًا. البعض يُنَظّر للتبعية والضعف، الضعف الذي يبدد استقلال صاحبه؛ فيَنحو مثلًا – تحت عناوين شتّى – منحى المصالَحة والتسوية بذريعة: "فلنتنازل عن بعض استقلالنا عَلّنا ننال الرفاهية، عَلّنا نتطور اقتصاديًّا، بل وعلميًا أيضًا!" وهو لا يدري أن الذي يفرط باستقلاليته لن يدعه الله تعالى يتطور أو ينال مآربه الأخرى؛ لا سيما المؤمنين، إذ يتوقع ربهم منهم المزيد من الاستقلالية.

هل يحظى "الاستقلال" بهذه الأهمية في الآيات القرآنية أيضًا؟

  • إذا كان الاستقلال بهذه الأهمية فلا بد أن تكون أهميته ملموسة في الآيات القرآنية أيضًا. أيما امرئ قال لك: "هذا أمرٌ مهم جدًا" قل له: "أرني أهميته في القرآن الكريم لأرى صحة مُدّعاك". فإن كان ثمة أمر مهم فلا بد أن يكون القرآن الكريم قد اهتم به بالغ الأهمية، ولقد اهتم القرآن كل الأهمية بموضوع الاستقلالية، بل لقد جاء ذكر الاستقلالية في كتاب الله أحيانًا قبل الإيمان بالله وعبادته، وبشكل لافت جدًا؛ نحو قوله تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت» (النحل/ الآية36)؛ واجتناب الطاغوت يعني: احفظ استقلالك ولا تكن عبد أحد!

    فقول أمير المؤمنين(ع) في ما روي عنه: «وَلا تَكُن عَبدَ غَيرِكَ وَقَد جَعَلَكَ اللهُ‏ حُرًّا» (تحف العقول/ ص77) يشير إلى هذا الاستقلال بعينه. وكما مر ذكره فإن الحرية هي مظهرٌ لهذا الاستقلال وتعبير عنه أيضًا.

    والطاغوت هو الذي يطغى ويتجاوز حده ويريد سلبك كل شيء؛ يعني: الذي يتجبر عليك ويحاول – بشكل من الأشكال – أن يجردك من استقلاليتك.

لقد جعل الله "اجتناب الطاغوت" مقدَّمًا على الإنابة إليه

  • وأشيرُ هنا إلى مثالين من القرآن الكريم يجعل الله تعالى فيهما "اجتناب الطاغوت" مقدَّمًا حتى على الإنابة والرجوع إليه هو؛ أحدهما قوله تعالى: «وَالَّذينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى‏ فَبَشِّرْ عِباد» (الزمر/ الآية17)؛ أي: الذين اجتنبوا الطاغوت ولم يعبدوه، ثم قال: «وأنابوا إلى الله» أي إنه ذكر الرجوع إلى الله بعد اجتناب الطاغوت.

    وفي موضع آخر، وهي الآية الثانية من آية الكرسي، تراه أيضًا قدّم اجتناب الطاغوت، والذي عبّر عنه "بالكفر به" فقال تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى» (البقرة/ الآية256)؛ والكفر بالطاغوت هنا هو الاستقلال نفسه، وإنّ مَن يكفر به يكون قد تمسك بالعروة الوثقى.

    وحول "الكفر بالطاغوت"، الذي جاء سابقًا على الإيمان بالله تعالى في الآية، يؤكد المفسرون أيما تأكيد على أن له مكانة خاصة ويطيلون الوقوف عنده. فحين يقول الله عز وجل لك: "لا تكن عبدَ شخص آخر"، فهو يتعامل مع هذا الموضوع بمنتهى الحساسية، حتى جاء في الحديث الشريف: «مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَه» (الكافي/ ج6/ ص434). فكيف نتحدث نحن إلى بعضنا البعض ويصغي أحدُنا إلى الآخر إذن؟ يقول: "اسمَع قول الآخر، لكنْ أنْ تصغي إلى كلامه بالشكل الذي تعطيه الأفضلية قائلًا: عليَّ أن أصغي إلى كلامه، فإنك تكون قد شرعتَ بعبادته من الآن!" "لكني قد لا أنفّذ ما يقول!" "لكن لرُبّما نفّذتَه في وقت ما! إنك حين أصغيتَ إليه في البداية فقدتَ استقلالك! لماذا أساسًا وجدتَه أفضل منك حينَ تكلَّم؟! اللهم إلا أن ينطق بكلام الله تعالى".

يمتحننا الله، بحسب القرآن، ليرى إن كنا نجاهد أو نرزح تحت سلطة أحد ما

  • يستخدم القرآن الكريم مصطلح "الوليجة" في قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنينَ وَليجَةً» (التوبة/ الآية16)؛ وتُقال الوليجة لصاحب السلطة على الإنسان. فكأنه تعالى يقول لك: لماذا يتسلّط فلانٌ عليك؟ لماذا تطيعُه في كل ما يقول؟

    يقول تعالى في الآية الآنفة الذكر: أتظنون أني لا أختبركم لأعلم إن كانت لكم وليجة أو لا؟ فالآية الكريمة تجعل فلسفة الامتحان الإلهي في أمرين: الأول هو أن الله يمتحنكم ليرى إن كنتم تجاهدون أو لا. والثاني يختبركم ليعلم إن كنتم تَنضَوُون تحت سلطة شخص ما أو لا. فلا ينبغي أن تنضوي تحت سلطة أحد سوى الله ورسوله والمؤمنين. وفي الخبر: المؤمنون هم أهل البيت(ع)؛ «عَن أبي الحَسَن(ع) في قَولِ اللهِ تَبارَكَ وَتَعالَى: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون‏، قالَ: نَحْنُ هُمْ» (بصائر الدرجات/ ج‏1/ ص427-428).

ألا ينبغي أن نكون مستقلين عن الله؟

  • السؤال المطروح هنا هو: إن كان لا بد أن نستقل عن الجميع، أفلا ينبغي أن نستقل عن الله عز وجل أيضًا؟ وهنا مَربَط الفرس! الكلام الذي أريدُ طرحَه الآن سنواصل الكلام فيه حتى الليلة الأخيرة من مجلسنا هذا. نريد أن نعرف: لماذا لا يفهم أهل العالم هذا الأمر؟ لماذا البوحُ به صعب؟ إن استقلالك شيء ثمين. صحيح أن عزتك ثمينة، لكنك إن اكتسبتها بسبب أيِّ كفاءة من كفاءاتك أو قدرة من قدراتك فلا قيمة لها بمعزل عن الاستقلال، لا بل لو اكتسبتها من خلال الأعمال الصالحة فلا قيمة لها من دون الاستقلال، لأن العمل سيكون عملًا صالحًا دونما إخلاص! فلا بد أن تأتي بالصالحات وأنت مستقل.

    على المرء أن يستقلّ عن الجميع ولا يعبد أحدًا سوى الله عز وجل. فهل ينبغي أن نكون تبَعًا لله؟ أيجب أن نكون أذلاء مع الله؟ ألا يريد الله أن يحفظ استقلاليتنا؟

إذا كنتَ عبدًا لله فسيجعلك الله مستقلًا

  • أتعلمون أيها الأصدقاء ما معنى أن يكون المرء عبدًا لله تعالى؟ ما من أحد تعبدُه إلا ويحطّم استقلاليتك، أما إذا عبدتَ الله عز وجل فإنه سيحفظ لك استقلاليتك، ويصون لك عزتك. إن السبب وراء قولهم: "كُن تبَعًا لله" هو أن الله هو الشخص الوحيد الذي يمنحك الاستقلالية ويُنشئك مستقلًا حتى في ذروة تبعيّتك له. لا تخطئ الفهم حين يقال لك: "كن عبدًا لله"، فعبدُ الله ليس ذليلًا، بل هو عزيز في أعماقه. إنك دائمًا بحاجة إلى الله تعالى ليجعلك دائمًا مستقلًا.

    إنك بحاجة إلى التبعيّة لله عز وجل، وإن ربك هذا يعرف كيف يصون استقلالك. إنه "رب" وباستطاعته حفظ استقلاليتك، فلقد قال: «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَني‏ آدَم» (الإسراء/ الآية70).

    ليست القضية أن نكون مستقلين عن الجميع ثم ما إن يتعلق الأمر بالله تعالى حتى ننبذ استقلالنا جانبًا ونكون تبَعًا! أتعلمون ما معنى العبودية والذلة في قولنا: "نحن عبيد الله وأذلّاءَه؟" بِغَضّ النظر عن أن هذه العبودية والذلة تجعلان منك إنسانًا عزيزًا مستقلًا صلبًا أمام العالم أجمع، وتصيّرانك مستقلًا شجاًعا تجاه جميع عوامل الرعب في العالم فإنهما يغنيانك عن كل شيء، بل يجعلانك مستقلًا تجاهه "هو" أيضًا لكي تقف على قدميك أنت. ولهذا تحديدًا يكون في وسعك أن تحب الله جل شأنه، وتتقرب إليه، إلى درجة أن يقول: «في‏ مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر» (القمر/ الآية55)؛ "تعالَ واجلس إلى جانبي!" ما أروعَه من تعبير يسوقه الله تعالى! إن الإنسان ليُغشى عليه من شدة الانفعال!.. بل تفيض روحُه!.. يقول رب العزة: "أنا مَليكٌ مقتدر، تعالَ واجلس إلى جانبي.. تعال نجلس معًا!" إنه يجعلك جليسه! تقول باستمرار: "أنا ذليلُك..."، فيقول لك: "تعال أجعلكَ عزيزًا!"

"عبوديتك لله" لا تعني أن تفرّط باستقلاليتك

  • العزة هي لله تعالى، وهو الذي يمنحها للمؤمنين. أن تكون عبدًا لله تعالى لا يعني أن لا تكون عبدًا لغيره، ولا تفرّط باستقلالك عن سواه، وأن تفرّط باستقلالك عنه عز وجل! ظاهر القضية هو أنك تفرّط باستقلالك عن الله تعالى، أما باطنها فهو أن الله يخلق منك إنسانًا مستقلًا. حسنٌ، أفيمكن أن أكون مستقلًا، ثم أنقطِع عن الله جل وعلا؟ كلا، إنك لا تنقطع عن الله، ولا تسخط عليه، ولا تقول: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» (النازعات/ الآية24) كما قال فرعون إلّا حين تكون تبَعًا، ذليلًا، تطلب العزة من غير مَظانِّها وتُخطئ في حساباتك.

    ما الذي يحصل حين تستقل عما سوى الله وتكون تبَعًا لله وحدَه؟ حينذاك سيمنحك الله تعالى الاستقلالية ويجعلك تقف على قدميك، وحينها ستحب الله تعالى، بل ستكون مجنونًا بحبه، ستكون عاشقًا له. بل تعالَ وتمعّن بعض الشيء في العلاقة بين العبد والسيد، ثم تساءل: لماذا لا نجد أثرًا لعلاقتنا مع الله في أيما علاقة بين عبد وسيده في الدنيا؟ السادة في الدنيا عادةً ما يكتمون أنفاس عبيدهم، يقتلونهم، يربّونهم على الغباء. أما هذا "السيد" فماذا يصنع بعبده؟ إنه يوصله إلى درجة "النفس الراضية المرضية"! وتعني هذه الدرجة "أن نبلغ مقامًا نكون فيه راضين عن بعضنا البعض".. أتدري ما معنى هذا؟ يعني: "أنا الله في جانب، وأنت في الجانب الآخر!" راضية مرضية يعني أن يرضى أحدُنا عن الآخر! إلهي، لا ترفعني هكذا! لا تجعلني في مستوًى عالٍ هكذا إلى جوارك. يقول الله: "ألا إنني أخبرتُك إلى أي مقام أريد أن أرفعك في نهاية المطاف! «في‏ مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر»".

    لاحظ إلى أي مستوى من العظمة يريد الله أن يرفع ابن آدم! خالقُ الأكوان جميعًا سيجعلك في مستواه من العظمة! أنت أيضًا ستكون الوحيد، ستكون الفريد في عالم الوجود، ولا تعارُض في هذا أبدًا مع أن يكون كل واحد من الآخرين أيضًا مستَغرِقًا في الله ومتلقّيًا منه العظمة. أنت تقول: "إلهي، أنا عبدك" ومن ثم ماذا يصنع الله معك! وأي عزة يمنحك!

طاعة الله هي "أن تفهم منهاجه وتنفّذه" لا أن تَركُن فَهْمَك جانباً وتنفّذ أوامرَه وحسب

  • جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: «عَبدي أَطِعني». أما "ما هو منهاج طاعة الله؟" فهذا بحد ذاته سِرّ من الأسرار المهمة. البعض يسمع من بُعد لفظة "الطاعة" فيظنها سيئة لاعتقاده أنّها تعني: "مهما أمرتني أصغي إليك؛ أي أَركُن فَهمي واختياري جانبًا وأقول إزاء كل ما تأمرني به: سمعًا وطاعة!" إنه لا يستوعب أن طاعة الله تعالى تعني: نَفِّذ منهاجَه، وأنّ فهم هذا المنهاج مهم جدًا. إني لأُشفِق على طلاب المدارس جميعًا حيث قد عُلِّموا الدين بشكل سيئ. الدين في مجتمعنا يُعلَّم ويبَلَّغ بصورة سيئة.

    إذن حين يقول تعالى: «عَبدِي أَطِعني» فهو يعني: نفّذ منهاجي. ثم يقول: «أَجعَلْكَ مثلي، أَنا حَيٌّ لا أَموتُ، أَجعَلكَ حَيًّا لا تَموتُ، أَنا غَنِيٌّ لا أَفتَقِرُ أَجعَلكَ غَنِيًّا لا تَفتَقِر، أَنا مَهما أَشَأ يَكُنْ أَجعَلكَ مَهما تَشَأ يَكُن» (مشارق أنوار اليقين/ ص104). وفي حديث قدسي آخر: «يا ابنَ آدَمَ، أَنا غَنِيٌّ لا أَفتَقِرُ أَطِعنِي‏ فِيما أَمَرتُكَ‏ أَجعَلْكَ غَنِيًّا لا تَفتَقِرُ. يا ابنَ آدَمَ، أَنا حَيٌّ لا أَمُوتُ أَطِعْنِي فِيما أَمَرتُكَ أَجعَلْكَ حَيًّا لا تَمُوتُ. يا ابنَ آدَمَ، أَنا أَقُولُ لِلشَّيءِ كُنْ فَيَكونُ أَطِعني فيما أَمَرتُكَ أَجعَلْكَ تَقولُ لِشَيءٍ كُنْ فَيَكون» (عدة الداعي/ ص310). فهل لهذا معنى غير الاستقلال يا ترى؟

    فلنتخلص من الرق، ولنتخلّص من الذُلّ، ولننبذ أشكال التربية المُذِلة. يقول: "لا تكن أسيرًا لهواك، لأني أريد أن أجعلك مستقلًا"... من هنا تبدأ الأمور. والآن ماذا في جعبة الله من خطط لإيصال الإنسان إلى هذه الاستقلالية؟ سنبدأ، من الليلة القادمة إن شاء الله، بإلقاء الضوء على هذا الموضوع.

خطة الله لكي نعبده هو ولا نعبد غيره هي: "لأكن مستقلًّا"

  • إذن خطة الله جل شأنه لكي نعبده هو ولا نعبد غيره هي: "لأكُن مستقلًّا". لكن كيف يوّجه الله تعالى لنا الأوامر ثم - في الوقت ذاته - يربّينا على الاستقلالية؟! كيف يتحتم أن نكون أذلاء لله، ثم لا نكون – في الحقيقة - أذلاء، لا بل نكون في قمة العزة؟! كيف لنا أن نكون مطيعين لله عز وجل، ثم نكون نحن أنفسنا مثله تعالى؟! كيف يكون هذا؟

    أهم عنصر في تاريخ البشرية باعثٍ على العزة وأكبر مُعلّم للعزة هو الإمام الحسين(ع). أهم ركيزة للعزة هو الاستقلال الروحي، وإن الدين، كُلَّ الدين، هو سِرّ إيصال الإنسان إلى هذه الاستقلالية. وإن هناك في صلب الدين – وهو ما سنتطرق إليه أكثر في الليالي الأخيرة - جوهرةً ساطعةً تعمل - أكثر من أجزاء الدين جميعًا - على إيصالنا إلى حالة الاستقلال هذه.

    لقد منحَنا الله تعالى الإرادة، منحَنا القوة، منحَنا الإدراك، إن علينا أن نبلغ أعلى وأرفع ذُرى الحرية، وهذا هو قمة الازدهار، إنه قمة الاستقلالية. إن الله تعالى لا يُضَحّي بالإمام الحسين(ع) من أجل مفهوم هزيل، ولم يخلق حادثة كربلاء ليعطينا درسًا سهلًا مُبتذَلًا يفهمه الجميع. لا نحصُرَنّ حركة أبي عبد الله الحسين(ع) في حدود "مقارعة الظلم" الضيقة، فمقارعة الظلم هي جزء يسير من واقعة الطف. لماذا تريد مقارعة الظلم أصلًا؟ لأن الظالم يسلبك عزتَك. طيّب، تفوَّهْ بهذا إذن!

حتى "مقارعة الظلم" لا قيمة لها من دون صون العزة

  • إذا قارع الشخصُ الظلمَ لكنه كان ذليلًا ولم يصُن عزّتَه ولا عزّة غيره، فأي مقارعة للظلم هذه يا ترى؟! ما قيمتها؟! مقارعة الظلم شيء جيد، إلا أنه لا قيمة للشيء الجيد إذا لم يمنح الاستقلال والعزة ولم ينطوِ على الإخلاص والتقرب إلى الله. أتقرأ القرآن؟ أتصلي؟ أتذهب إلى الحج؟ أعندك أخلاق؟ ما قيمة الأخلاق إذا كان الشخص ذليلًا غير مستقل وغير مخلص لله؟! تعسًا لحُسن الخُلق إذا كان صاحبه ذليلًا، ضعيفًا، مَهينًا! لا تُقبَل الصالحات جميعًا إذا عَدِمَ صاحبُها العزةَ والاستقلال، أو ما يُصطلَح عليه في الدين "الإخلاص".

    عندما تحارب الظلم يجب أن تفصح عن أنه: لماذا أنت تحارب الظلم؟ السبب هو أن الظالم يلطّخ عزة الناس بالعار، لأنك عزيز وتريد أن تصون استقلالك ولا ترضخ للظلم! أجل، هذا شيء نفيس. وحينذاك فإنك، على طريق مقارعة الظلم، لن تحترم استقلال نفسك وعزتها فحسب، بل ستحرص على استقلال الآخرين وعزتهم أيضًا؛ كما هو شأن أمير المؤمنين(ع)، إذ قَتلَ عمرو بن عبد وُدّ لكنه صان عزته. لقد كشف(ع) عن صدقه في مقارعة الظلم. لماذا؟ لأن فلسفة مقارعة الظلم هي منح الناس هذا الاستقلال تحديدًا لكي لا يكونوا عبيدًا لغير الله. ومن ثم إن أثر هذا الاستقلال هو العزة، وعليه فيجب عليَّ أنا الآن أن أصون عزة عمرو بن عبد ود، فإن كانت فلسفتي في محاربة الظلم هي هذه، فلا بد أن أحفظ الآن فلسفتي هذه.

    لا نقولن: "قُتِل الإمام الحسين(ع) من أجل الصلاة". صحيح أن الصلاة ركن ركين للدين ومهمة للغاية، لكن تعسًا للمصلين الأذلاء عديمي الاستقلال عبيد الطاغوت! فلتلعنهم صلاتُهم! ما فائدة صلاتهم هذه؟! عبدُ من أنت وتصلّي؟! تهاب عدو الله ثم تقف للصلاة! هذا الكلام من صنف الكلام الصريح الذي يقلب موازين البعض فجأةً رأسًا على عقب. فالمُنجمدون على الألفاظ يصيبهم هنا "عَطَب فجائي في المحرك!" وتختل موازينهم.

    دينيًّا يعبَّر عن استقلال الإنسان بـ"الإخلاص"، والعمل من دون إخلاص غير مقبول دينيًّا، فهو إذن غير ذي قيمة. لماذا تنتاب البعضَ رِعدةُ خوف من هذا الكلام؟! الإخلاص هو أن لا تكون عبدًا لغير الله تعالى، وأن يكون الدافع لأفعالك هو الله وحسب. حسنٌ.. إلهي، إذا كان دافعي هو أنت فقط، أي إذا صرتُ مستقلًا عن الأغيار ولم أعد عبدًا ذليلًا لهم، فهل يجب أن أصبح عبدك وذليلًا لك؟!

إذا كنتَ عبدًا لله فسربيك الله على الاستقلالية

  • التفتوا، هنا السر.. إذا كنتَ عبدًا، وذليلًا، وتبَعًا لله فإنه تعالى يعلم كيف يربّي عبده. ماذا سيصنع؟ سيربيك على الاستقلالية. إنه سيصدر الأوامر ويعاقب بالطريقة التي يحفظ بها استقلالك، بل يربيك على نهج الاستقلال. وسنتحدث في الليالي القادمة، إن شاء الله، عن أنه كيف يعمل الله عز وجل من خلال دينه على استقلال عبده. إن جنسَ طاعة الله يختلف أساسًا عن جنس طاعة غيره، بل إن نمط توجيه الله للأوامر يختلف عن نمط توجيهها من غيره. وسنحاول الكشف عن هذه الأسرار حتى آخر ليلة من مجلسنا هذا.. فلو كنتَ مؤمنًا مُسلمًا مُصلّيًا لكن لم تطّلع على هذه الأسرار فمن غير الواضح أنك إلى أين تتوجه!

    لقد غربل الإمام الحسين(ع) أصحابَه في الطريق إلى كربلاء. بل عمد ليلةَ عاشوراء أيضًا إلى سراج خيمته فأطفأه مخاطبًا إياهم: من شاءَ فليرحل...! لم يشأ أبو عبد الله(ع) أن يكون لديه أصحابًا كأصحاب أبيه أمير المؤمنين وأخيه الحسن(ع). كان يريد أصحابًا خُلَّصًا، أصحابًا مستقلين. بل جعلهم مستقلين عن نفسه كذلك قائلًا لهم: «فَانطَلِقوا جَميعًا في حِلٍّ، لَيسَ عَلَيكُم مِنّي ذِمام» (وقعة الطف/ ص197)... ما أصعبه من أمر! لو كنتم مع الإمام الحسين(ع) في مُخيّمه أكنتم ستطيقون قولَه(ع) لكم: إن شئتُم فارحلوا؟....

تعليق