ما هو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟ (المحاضرة26- الأخيرة)
مَن الذين يحفظهم الله من المعاصي؟/ ينتاب "العبدَ" اضطرابٌ وانكسارٌ إذا أخطأ في امتثال أمر المولى/ الانكسار الحاصل للإنسان على أثر الاستغفار يؤهّله لتلقّي النور الإلهي
- المكان: طهران، مسجد الإمام الصادق(ع)
- الزمان: 25/رمضان/1440
- الموضوع: ماهو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟
- A4|A5 :pdf
لا سبيل أمامنا للاستفادة من الله سبحانه وتعالى سوى "الانكسار"؛ لأنه الانكسار الذي يجعل العبد في منتهى الاستعداد لتلقي الفيض من المولى، ويجعلنا في غاية الصِغَر أمامه جل وعلا. إلهي، إني قد صغرتُ خمسين بالمئة حين قلتُ: "سمعًا وطاعة" امتثالًا لأمرك، أما لحظةَ أخطأتُ، وقلتُ: "العفو" فقد تضائلتُ مئةً بالمئة!
متى يضطرب الشخص النفعي والمُمنهِج لحياته وينهار روحيًا؟
- لا شك أن الإنسان بحاجة إلى وقت وجهد وتمرين ليجتاز المراحل التحضيرية لبناء شخصيته ويُدَعِّم بُناها التحتية. نعم، يوجَد من يطوي هذا المسار بسرعة، لكن أمثال هؤلاء هم استثناء للقاعدة.
- وكما قد أشرنا سابقًا فإن من المراحل التحضيرية لبلوغ الشخصية السليمة هي أن يكون الإنسان نفعيًّا؛ وهو أن يلاحظ منافعه جميعًا، ولا سيما السامية منها، لا أن ينظر إلى منافعه الهابطة دون السامية! فالنفعية الرديئة هي أن يرى المرءُ منافعَه الهابطة، لكنه أمام منافعه العالية أعمًى وعاجز (هذا وإنّ منافع الإنسان العالية تُستحصل دومًا عن طريق رؤية منافع الآخرين). وإن ميزة الساعي وراء المنافع السامية أنه يضطرب وينهار حين يواجه صعوبات في الوصول إليها.
- كما أنه إذا أصبح الشخص "مُمنهِجًا لحياته" وتَقيَّد بهذا المنهاج فلن يكون العمل وفقًا لهذا البرنامج مُمتعًا له فحسب، بل إنه سيضطرب روحيًّا إذا ارتبك منهاجُه. فماذا سيحصل إذا تحوّل هذا المنهاج إلى "منهاجٍ وفقًا لأوامر الله تعالى"؟
إذا أخطأ "العبد" في امتثال أمر مولاه ينتابه اضطراب وانكسار
- في ما يتصل بالعلاقة بين العبد والمولى فإنه حين يُطيع العبدُ مولاه قليلًا ينشأ لديه مَيلٌ يسمَّى بـ"مَيلِ العبد لمولاه!" وهذه العلاقة هي أرَقّ بكثير من علاقة الطفل بأمه، وأشد عاطفية بكثير من العلاقة بين الزوجين.
- فحين يمتثل شخصٌ، بصفته "عبدًا"، أمْرَ مولاه تنشأ بينه وبين الله تعالى صِلة. فإنْ هو أخطأ ولم يمتثل أمر المولى ينتابه من الاضطراب والانكسار ما لا ينتاب الأشخاص العاديين المؤمنين بالله إذا عصوا ربهم.
- الذي تكون علاقته مع الله عز وجل علاقةَ عبدٍ بمولاه تراه يرتبك ويضطرب بكل ما في الكلمة من معنى إنْ هو أذنب. وإنّ إحساس العبد هذا بالذنب والخجل أمام مولاه إنما ينتابُ من نشأت لديه علاقة خاصة بينه وبين الله تعالى، وهي علاقة العبد بالمولى، كما أن هذا الإحساس الخاص لا ينشأ إلا إثر امتثال أوامر الله عز وجل؛ أي إنه بطاعته اللهَ تعالى تتولد للهِ عنده حرمةٌ خاصة.
لماذا يكون ارتباك العبد أشدَّ بكثير إذا خالف أمر ولي الله؟
- يرتبك الشخص الواصل لمرحلة علاقة العبد بالمولى والمُدرِك لهذه العلاقة ويضطرب إذا عصى مولاه (الله عز وجل). لكن الأشد هو أن يصل إلى مرحلة العلاقة بوَلِيّ الله، فحينها سيكون اضطرابه وارتباكه إذا أذنب وعصى أشدَّ بكثير، إلى درجة أنه حتى لو أتاه ولي الله قائلًا: "لقد صفحنا عنك"، يقول هو: "لكنني قد آذيتُك، فماذا عساي أصنع بفعلي هذا؟!"
- لماذا يكون ارتباك العبد أشدَّ بكثير إذا خالف أمر "ولي الله"؟ الجواب: لأن الله سبحانه وتعالى لا يتأذّى حين نعصيه، أما ولي الله فإنه يتأذى من عصياننا له؛ فهو أيضًا إنسان ويتضايق.
- وهذا القرآن الكريم أيضًا يقول: إنه ليَشُقّ على رسول الله(ص) أن يتحمّل آلامكم ومعاناتكم؛ «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّم» (التوبة/128)؛ فالنبي(ص) إنسان له عواطف، وهو شفيق، ويبكي من أجلكم.
مَن الذين يحفظهم الله من المعاصي؟/ مَن يحترسْ من اضطراب حاله الروحية بسبب المعصية لا يصاب بالعُجب
- أحصينا لحد الآن ثلاثة عوامل مهمة لاضطراب الإنسان وارتباكه؛ وهي أن يكون نفعيًّا، ومُمَنهِجًا لحياته، وعبدًا. (بالطبع ثمة عوامل أخرى بينّاها في المحاضرات السابقة كمراحل تحضيرية للوصول إلى الشخصية السليمة). فإنّ مَن سَلَك هذا المسار التربوي بشكل صحيح تراه يرتبك ويضطرب، بالمعنى الحرفي للكلمة، إذا أذنب، وللحيلولة دون اضطرابه وارتباكه فإن الله عز وجل لا يدَع عبدَه هذا يذنب. وإن الذي يرتدع عن المعصية خشية الاضطراب والارتباك لا يصاب عادةً بالعُجب والغرور بسبب عدم المعصية هذا.
- واستنادًا إلى ما فات فإن بضعة دَواعٍ مهمة للاضطراب (من الناحية النفسية) تتولد عند المؤمن إذا أذنب. ولذا فإن الله تبارك وتعالى يحرص على أن لا يذنب عبدُه هذا، لأنه يعلم أنه إن أذنبَ يضطرب وينهار تمامًا. أمثال هؤلاء يحفظهم الله عز وجل في مستوى العصمة.
- فكأنّ الله تعالى يقول، كما جاء في الخبر: إنْ علمتُ أن عبدي يوَدّ أن لا يذنب أحفظه أنا من الذنب إلى درجة العصمة؛ «إِذا عَلِمَ اللهُ تَعالَى حُسْنَ نِيَّةٍ مِنْ أَحَدٍ اكتَنَفَهُ بِالعِصمَة» (أعلام الدين في صفات المؤمنين/ ص301). وإنّ فرحة عبادٍ كهؤلاء هي في عدم اقترافهم المعصية، وفي هذا فرق كبير مع أن يفعلوا الخير ويغترّوا بأنفسهم! فأشخاص كهؤلاء يرون أنفسهم على شَفا جهنم. وإنك لترى هذا الانكسار في حياة أولياء الله، كما تلاحظ أن أدعية أهل البيت(ع) يغلب عليها موضوع الحذر من النار، لا تمني الجنة! بمعنى أن حِسّ اجتناب المعصية لديهم عالٍ جدًّا وهم على حذر لئلا تضطرب حالُهم النفسية.
كيف يستفيد عبد من مولاه؟
- ما الذي يحصل إذا انكسر العبد بشدة عند أعتاب الله (بالاستغفار، والخوف من النار، ..إلخ)؟ إنه يستفيد من الله تعالى، وإن الله يَجبُر له كَسْرَه. وهذه أساسًا طريقة لمغازلة الله عز وجل، وإن الله ليلاطف عبدًا كهذا، وإن الأخير ليذوق لذة ذلك أيضًا.
- لكن ألا يمكن أن نذوق من الله لذةً من دون انكسار؟ وهنا يدخل موضوعُنا مرحلة جديدة، وهي أنه: كيف يمكن لإنسان أو عبد أن ينتفع من مولاه أصلًا؟ كيف له أن يلتّذ بذكره ولقائه؟ كيف باستطاعته أن يتذوق مولاه نفسَه، ويشمّه، ويستفيد منه؟
- ما أكثر ذِكْرٍ لله يجب علينا ترديده بوصفه ذكرًا واجبًا؟ إن أهم ذكر واجب علينا ترديده كرارًا هو "الله أكبر"؛ ومعناه: انتبه! إن الله كبير، وإن عليك أن تكون صغيرًا أمامه. ولا شيء كالمعصية يُصَغِّر الإنسان بين يدَي ربه. ولا يعني هذا بالطبع أن نتعمد المعصية كي نصغُر أمام الله؛ فهذا بحد ذاته هو التكبّر بعينه، ولا يصغُر أحد بذنب كهذا!
لا سبيل إلى الاستفادة من الله غير "الانكسار"
- إذا تربَّت شخصيتُنا بشكل سليم، بحيث نضطرب ونرتبك كلما خرجنا عن المنهاج الذي أعددناه لأنفسنا، أو كلما خالفنا منافعنا الراقية، أو عصينا أمر الله أو أمر وليه، ينتابنا هذا الانكسار فيُفتح - عند ذاك - البابُ ويحُل الله تعالى في وجود الإنسان؛ بحيث يمكننا القول إنه ليس ثمة سبيل آخر إلى الانتفاع من الله تعالى وتذوق حلاوته غير سبيل الانكسار؛ لأنه الانكسار الذي يجعل العبد في منتهى الاستعداد لتلقي الفيض من المولى، ويجعلنا في غاية الصِغَر أمامه جل وعلا. إلهي، إني قد صغُرتُ خمسين بالمئة حين قلتُ: "سمعًا وطاعةً" امتثالا لأمرك، أما لحظةَ أخطأتُ، وقلتُ: "العفوَ" فقد تضائلتُ مئة بالمئة!
- لاحظ ما يفعله أولياء الله في مناجاتهم؟ إنهم لا يكترثون لطاعتهم كثيرًا، بل يُوْلون جُلّ اهتمامهم للاستغفار والاعتذار من تقصيرهم في امتثال أوامر الله عز وجل والخوف من عذابه.
انكسار المرء يجتذب نور الله إليه
- وهنا قد تسأل أنه: ماذا لو لم يذنب المرء أبدًا؟ ماذا عن أهل البيت(ع) الذين لم يقترفوا معصية على الإطلاق؟ عندما يفتح الله تعالى عينَ الإنسان وأذنَه فإنّ أمورًا، غيرَ ما نتعارف عليه نحن من الذنوب، سيراها هو - كلما تقدم في سيره وارتفع في مقامه - ذنوبًا بينما لا نراها نحن كذلك! فكلما دنا الإنسانُ من الله أكثر وشاهد أوجَ نوره، وطهارته، ونقائه، وجماله فإنه سيعتذر أيضًا لو رأى في وجوده شائبةً بضَآلة ذرة الغبار. أَوَيجب أن يعتذر المرء من هذا المقدار الضئيل أيضًا؟ هذا يعتمد على أنه كم يود أن يجني من ربه! وهكذا هم أولياء الله، فإنهم لا يستطيعون العيش، ولو للحظة، من دون الله وبعيدًا عنه، ولذا فإنهم يرون هذا في غاية اللزوم والأهمية بالنسبة إليهم.
- إن انكسار الإنسان يجتذب نورَ الله إليه. من هنا فإن أولياء الله، في مقامهم السامي ذاك، ينكسرون لمجرد ذرة الغبار تلك إن رأوها في وجودهم، ولذا تراهم يهرعون إلى الاستغفار، فإن دخلوا وادي الاستغفار راحوا يتلقون من مولاهم فيوضات في غاية الحلاوة واللذة.
لنذوق حلاوة الاستغفار علينا أن نتواضع لله بقولنا: "سمعًا وطاعة" مدة من الزمن
- وماذا يصنع مَن يود تذوق حلاوة الاستغفار؟ عليه أن يتواضع إلى الله تعالى عبر قوله له: "سمعًا وطاعة" مدةً من الزمن، هذه هي السبيل لذلك. وكما قد تمت الإشارة إليه فإن هذا الاستغفار والاعتذار من الله تعالى في قولنا: "إلهي، لقد أجرَمت، فاغفر لي" هو في الحقيقة أسلوب للمغازلة بين العبد ومولاه.
- هل ذقتَ طعم الصِغَر بين يدي الله سبحانه؟ أكان لك مالِك وقائد يومًا ما؟ هل كنتَ جنديًّا في يوم من الأيام؟ أكنتَ يومًا عبدًا فتذوق طعم العبودية؟ اِعمَل مدةً من الزمن ليُذيقوك بعض طعمها، وعندها ستدرك أن انكسار الاستغفار يضاعِف لك هذا الطعم ضعفين.
إننا لا نذوق طعم الاستغفار لأننا لا نذوق التصاغر بين يدي الله!
- لماذا تراني لا أذوق طعم الاستغفار العذب واللذيذ للغاية؟ لأنني لا أذوق أبدًا طعم التصاغر بين يدي الله تعالى! فماذا أصنع إذن لأذوق طعم هذا الأخير؟ علَيّ أن ألتزم، مدةً من الزمن مع الدقة والمراقبة، بأن أُقيمَ لله وزنًا وأهابَه وأقولَ له "سمعًا وطاعة". أتدري كم يلتذ العبد من أنّ له مولًى يهابُه؟ ولكي تعلم ذلك عليك أن تلتزم مدة من الزمن، مع المراقبة، بأن تقول لإلهك ومولاك: "سمعًا وطاعة".
- ما الذي يحصل إن امتثلتَ أمر مولاك مدة من الزمن مع المراقبة؟ إنك بقولك لله: "سمعًا وطاعة" ستتذوق طعم التصاغر بين يدي مولاك. والآن، إنّ هذا الطعم وهذه اللذة التي جنيتها لا تَعدُو كونَها مقدِّمة ومُقَبِّلًا للطعام. والآن سيناولونك وجبةَ الطعام الرئيسة؛ وجبة الطعام الرئيسة واللذة الأصلية إنما تنالهما "بالاستغفار". فإنه بالاستغفار يشعر المرء، أكثر ما يشعر، بأن له مولًى، وأن له مالكًا!
- فالطفل المجهول أبواه أو الذي لا يعرفهما يكون "فاقدَ الهوية" ولا يدرك ما معنى أن يكون له أب أو أم. وفي الحقيقة فإن الذي لا يعرف ربه ومولاه أو الذي لا مولى له هو عديم الهوية أيضًا.
حين تذوق طعمَ امتثال أمر المولى ستذوق طعم الاستغفار أيضًا!
- يا ليتنا نحوّل هذا الامتثال لأمر المولى إلى ثقافة عامة؛ وهي أن نقول: "إني لأحب أن أطيع الله، أريد أن أذوق حلاوة أن يكون لي رب!" فإن تذوقنا لذة طاعة المولى، فسنتذوق أضعاف هذه اللذة في "الاستغفار"، بل إن المولى إنما يمارس مولويته أثناء استغفار العبد، بل هناك تظهر ربوبية الله تعالى، ويلوذ العبد بربه ويحس الأمن والطمأنينة كالطفل تمامًا إذا لاذ بأحضان أمه.
- إن تذوّقتَ حلاوة أن يكون لك رب فستتذوق أضعافها أثناء الاستغفار! ففي الاستغفار ينكسر العبد ويتصاغر على أعتاب ربه. وامثتال الأوامر أيضًا يكسر كبرياء العبد ويصغّرُه لأنه يضع عناده وتمرده جانبًا ويقول: "سمعًا وطاعة!"
لماذا تضيّع عُمرَك هباءً؟! اجعل أعمالك اليومية العادية أيضًا في سبيل الله!
- حاول مدة من الزمن، وعبر قولك لله: "سمعًا وطاعة"، أن تتذوق حلاوة امثتال أمره عز وجل. الكثير من الأعمال في حياتنا اليومية تستطيع عقولُنا أيضًا أن تدرك أنها حَسَنة وضرورية؛ كالتوقّف عند الإشارة الضوئية الحمراء، وما إلى ذلك. حسنٌ، مارس هذه الأعمال أيضًا امتثالًا لأمر الله! لماذا تضيّع عمرك هباءً؟! "قُربةً إلى الله" توقّفْ عند الإشارة الحمراء، وقل: "إلهي، لأنّ الإمام الراحل(ره) قال: احترام قوانين المرور واجب شرعًا فإني أحترِم هذه القوانين من اجلك أنت ربي".
- بل لنمارس أعمالنا الأخرى أيضًا، كالأكل والنوم، من أجل الله تعالى؛ أي: إني آكُلُ الطعام لأن الله تعالى أمرني بأكل الطعام. وهذا الأمر هو على جانب من الأهمية ممّا جعل النبي الأعظم(ص) يؤكد على أبي ذر(رض) أنه: ليكن لك نية القُربة إلى الله في كل عمل تقوم به، حتى الأكل والنوم، وإلا كنت من الغافلين، وإن الأخيرِين - بحسب القرآن الكريم - أضَلّ من الأنعام؛ «يا أَبا ذَرٍّ، لِيَكُنْ لَكَ في كُلِّ شَيْءٍ نِيَّةٌ، حَتَّى في النَّومِ وَالأَكْل» (وسائل الشيعة/ ج1/ ص48). وعنه(ص) أنه قال: «يا أَبا ذَرٍّ، هُمَّ بِالحَسَنَةِ، وَإِنْ لَم تَعمَلها، لِكَيْلا تُكتَبَ مِنَ الغافِلين» (الأمالي للطوسي/ ص536). و: «فَلا بُدَّ لِلعَبدِ مِنْ خالِصِ النِّيَّةِ في كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكونٍ لِأَنَّهُ إِذا لَم يَكُن بِهذا المَعنَى يَكونُ غَافِلًا وَالغافِلونَ قَد ذَمَّهُمُ اللهُ تَعالى فَقالَ: «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» (الفرقان/44)، وَقالَ: «أُولئِكَ هُمُ الغافِلُون» (الأعراف/179)» (مصباح الشريعة/ ص53-54).
لتذوق حلاوة العبودية افعلْ المباحات كذلك بنية القربة إلى الله!
- أَطِع مولاك باستمرار، واسعَ دائمًا لامتثال أوامره. حتى حين يدلّك عقلُك على وجوب فعل أمر ما، افعَلْه "قربة إلى الله تعالى"؛ أي قل: "إلهي، إنني أقوم بهذا الفعل من أجلك أنت". لكن ماذا لو رغبنا في فعل أمر مباح؟ على سبيل المثال حين تمارس ترفيهًا مباحًا عن نفسك (على أن بعض الترفيهات مستحَبّة أيضًا) فإن باستطاعتك أيضًا أن تمارسه قربة إلى الله تعالى. ما معناه أن أعمالك المباحة (أي غير المستحَبَّة) أيضًا تستطيع أن تجعلها من أجل الله سبحانه؛ فإنك إن قُمتَ بهذه الأعمال أيضًا من أجل الله فسيشتريها الله منك.
- قيلَ لنا: إن الله تبارك وتعالى يحب لعباده أن يأتوا بالمباحات بين الحين والآخر، ناهيك عن الواجبات والمستحبات؛ «إنّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَما يُحِبُّ أَنْ تُؤتَى عَزائِمُه» (النهاية في غريب الحديث والأثر/ ج3/ ص232). إذن حتى في المباحات باستطاعتنا أن نقول: "إلهي، هذا الفعل أيضًا أقوم به من أجلك أنت!" فيجيبك: "حسنٌ، افعل كل شيء طاعةً لأمري!" ماذا سيحصل حينها؟ حينها ستذوق حلاوة العبودية للمولى، وهو ما سيبعث على انكسارك، ويبدد عنادك وتمرّدك. المهم هو أن تكون أكثر عبودية. إنك بممارسة هذه الأعمال امتثالًا لأمر الله ستكون، يومًا بعد يوم، أكثر عبودية.
- كل من يطيع الله قليلًا يظهر عليه بعض الانكسار، وإن شخًصا كهذا يكون مستعدًّا للبدء بالمرحلة الثانية. وما هي المرحلة الثانية؟ هي أنه إذا أذنب وعصى، ثم استغفر، يزداد انكساره هذا. فإن زاد الانكسار كثيرًا إثر الخطيئة والاستغفار فإن الله سيحفظ عبده هذا من الزلل. وحين يحفظه الله عز وجل من المعاصي الكبيرة والجوهرية، فإنه سيدخل مرحلة أعلى، وهي أن الذنوب الصغيرة جدًّا ستجعله يضطرب أيضًا، فيزداد انكساره بشكل مُطَّرِد، ويتعاظم انتافعه من الله أكثر فأكثر.
الانكسار الحاصل للإنسان على أثر الاستغفار يؤهّله لتلقّي النور الإلهي
- إذن ما يحصل لدى الاستغفار بعد ارتكاب الذنب هو الانكسار الذي يطرأ على العبد، وإن هذا الانكسار الحاصل بعد المعصية تحديدًا هو الذي يؤهل العبد لتلقّي النور الإلهي. عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: «أَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلى دَاوُودَ النَّبِيِّ(ع): يا داوُودُ، إِنَّ عَبدِيَ المُؤمِنَ إِذا أَذْنَبَ ذَنبًا ثُمَّ رَجَعَ وَتابَ مِن ذلِكَ الذَّنبِ وَاستَحيا مِنِّي عِندَ ذِكْرِهِ غَفَرْتُ لَه» (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال/ ص130).
- لكن لماذا يتدخل الله سبحانه وتعالى في قضية الذنب بنفسه أصلًا مع أن أوّل مَن يضُرّ به الذنب هو أنا شخصيًّا؟ الجواب: حتى يتولد ما يسمى "العلاقة بين العبد والمولى". بل بمستطاعنا القول: إن فلسفة الذنب هي نشوء "العلاقة بين العبد ومولاه"، مثلما أن فلسفة طاعة الله أيضًا هي تبلور هذه العلاقة نفسها. بل إننا لو رغبنا في بناء علاقة بيننا وبين الله فلا يمكن لهذه العلاقة أن تكون غير علاقة العبد بمولاه. فإن بُنِيَت هذه العلاقة في إثر المعصية والاستغفار فإننا سننظر إلى عظمة الله تعالى، وسنستحي منه بسبب ما بَدَر منا من المعصية!
- ويتابع الله عز وجل قوله في الحديث: «وَأَنسَيتُهُ الحَفَظَة»؛ أي: لا أغفر له فحسب، بل أجعل المَلَكَين اللذين كتَبا ذنوبَه ينسيان هذه الذنوب! وهذا الخبر هو في منتهى الأهمية بالنسبة إلى الذين تبلورَت عندهم علاقة العبد بالمولى، وسيقولون إذا سمعوا بهذا: "إلهي، أحقًّا سينسى الملَكان ذنوبي أيضًا؟! أي إنهم إذا نظروا إليّ لن ينظروا بعين المذنب...!"
- ثم تتابع الرواية: «وَأَبدَلتُهُ الحَسَنَةَ»؛ أي أكتب له عوضًا عن الذنوب حسنات! «وَلا أُبَالي، وَأَنا أَرحَمُ الرَّاحِمين».
لكن ماذا نصنع لو لم ننكسر على الرغم من طاعتنا لله واستغفاره؟
- المهم في الأمر هو هذا "الانكسار" بالذات. وهو على جانب من الأهمية بحيث إنه إذا لم يتولد بسبب طاعة الله، فإنه تعالى يترك الإنسان لحاله لكي يُذنب. فماذا نعمل ليحصل لدينا هذا الانكسار؟ ماذا عسانا نصنع لو لم يتولّد فينا هذا الانكسار عبر طاعة الله تعالى واستغفاره بعد عصيانه؟ أيوجد ثمة سبيل أخرى لتذوق حلاوة ربوبية الله لنا وطعم عبوديتنا نحن تجاهه؟
- يا إلهي، إنني إن لم أتكامل عبر هذا المسار الطبيعي، ولم يتولد لدي هذا الانكسار أفلا يوجد طريق أقصر لذلك تُبَيِّنه لي؟ إنْ لم أستطع التقدّم عبر هذه السبيل فهل ثمة منطق آخر يمكنني المضي به قُدُمًا؟ بلى، هناك أيضًا طريق مختصر يمكننا من خلاله تذوّق حلاوة "أن يكون لنا مولًى" دون أن نسلك سبيل العبودية وهو أن يعطينا الله عز وجل "مولًى رحيمًا"؛ مولًى رحيمًا من مثل علي بن أبي طالب(ع)، أو أبي عبد الله الحسين(ع)؛ بل إنْ كان هذا المولى مظلومًا أيضًا فسيَسهُل علينا الأمرُ؛ فحينما تَطرُق مسامعَنا قصصُ ظلامته يقول: "أَوَتطاوِعُك نفسُك أن تعصي هذا المولى؟!"
آخر خطة ينفّذها الله ليُحدث في أنفسنا انكسارًا...
- إن الرب نفسَه الذي جعل الطريق إلى الجنة تمُرّ عبر العبادة والاستغفار، قَرَّرَ أن دمعةً واحدةً تذرفها على الحسين(ع) تُوجب لك الجنة: «وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة» (هداية الأمة إلى أحكام الأئمة(ع)/ ج5/ ص504). على أن هذا أيضًا ليس خلافًا للقاعدة؛ إذ لا بد لانكسارالعبد هذا أمام المولى أن يحصل، وهو إنما يحصل بذرف الدموع هذا. ولذا ترى الجميع أثناء الرثاء والعزاء ينادي: "سيدي يا حسين... هذا غلامُك يا أبا عبد الله..." وهذا يعني أنهم يذوقون حلاوة أن يكون لهم مولى.
- فإن لم يستَقِمْ أمرُنا مع اثنَي عشر إمامًا، هيأ الله جل شأنه لنا خطة أخرى، فجعل في أهل البيت(ع) هؤلاء أُمًّا هي "أم الأئمة(ع)"! وهي أيضًا عصمة الله الكبرى، وهي كذلك حُجّة الله على خلقه. وأظن أننا، ومن دون سَيرٍ وسلوك عرفاني، لو عرفنا أن عَضُد هذه السيدة قد انكسر من أجلنا لانتابنا أيضًا انكسار. وهذه القضية تختلف حتى عن قضية الإمام الحسين(ع). ولهذا فقد ورد عن علمائنا(ره) أن ندعو بهذا الدعاء: "إلهي بحقّ فاطمةَ وأبيها وبَعلِها وبنيها والسرِّ المستودَع فيها" (عوالِم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار والأقوال/ ج11/ ص1146). وليس لنا عِلم بدور السيدة الزهراء(س) في عالَم الخِلقة، لكن آية الله الشيخ حسن زادة الآملي، هذا العارف الجلي،ل يقول في شرح هذه الرواية: "سر ليلة القدر فاطمة الزهراء(س) نفسها".
- ولربما كانت هذه بالذات آخر خُطّة ينفذها الله جل وعلا لبعث الانكسار في نفوسنا. فإن فشلَت الروحانية، والعبودية، وفشل الاستغفار من المعاصي في خلق حالة الانكسار فينا، خلقَها لنا سَماعُنا لرثاء سيدة النساء فاطمة الزهراء(س)، ولا سيما وأن أيام العمليات (أيام الدفاع المقدس) كانت تقترن مع أيام الفاطمية. فلا أحد بوسعه المرور من زقاق بني هاشم والغفلةُ تُلهِي قلبَه....