ما هو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟ (المحاضرة20)
كيف يربّي الله عبيده، وكيف يربّي غيرُه عبيده؟/ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» تعني: لا يكفي أن تقول: "أنا أعبدك"، بل لا بد أن تقول: "سوى الله لا أعبد"/ الذي يرفض العبودية لله يعترض على الله بكل سهولة
- المكان: طهران، مسجد الإمام الصادق(ع)
- الزمان: 25/أيار/2019 ـ 19/رمضان/1440
- الموضوع: ماهو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟
- A4|A5 :pdf
العيب الكبير الذي في مناهجنا لتعليم الدين هو أنها تسعى لإثبات وجود الله لنا ثم تقول: "والآن كن عبدًا لله!" ولهذا يتمرّد البعضُ قائلًا: "كلا! أنا لا أريد أن أكون عبدَ أحد، أريد أن أكون حُرًّا!" والحال أنه كان يجب أن يقال لأمثال هؤلاء: "إن لم تكن عبدًا لله فستكون عبدًا لسواه لا محالة!"
بعد الإيمان بالله والتصديق به يأتي الدور لعبادته
- من أجل أن نتقبّلَ أوامر الله تعالى، ويصبحَ موضوع الذنب ذا أهمية لنا، ونحذرَ دائمًا معصية الله عز وجل فإنه يتوجب علينا اجتياز مراحل تربوية، وهي مراحل في وسع الإنسان إدراكها وتطبيقها في وجوده حتى من دون دين.
- لو استطاع امرؤٌ، بادئ ذي بدء، أن يبني لنفسه "شخصية مناسبة" ويتمتعَ بحياة سليمة فسيكون في وسعه أيضًا امتلاك الأُهبة للتدين. فمَن يكون مُمَنهِجًا لحياته، مُدَقّقًا في شؤونه، مراقبًا لنفسه سيكون - عمومًا - على استعداد لتقبل الدين؛ ذلك أن مركز التكاليف الدينية هو "التقوى"، وما التقوى إلا الدقة والمراقبة. والآن لا بد من الاهتمام بهذه الدقة والمراقبة في سلوك الإنسان، وفي نيته على حد سواء.
- الذي يتمتّع بشخصية مناسبة وعيشٍ سليم لا يعود تصديقُه بالله أمرًا شاقًّا؛ أي إنه سيصدّق بالله بكل سهولة. غير أن القصة لا تنتهي بالتصديق بالله تعالى، بل بعد أن يصدّق الإنسان بالله سيكون عليه أن يعبدَه!
للإنسان خصيصة هي حس العبادة، والتبعية، والعبودية!
- إن لنا نحن معاشر البشر خصيصة تدعى "العبادة، والتبعية، والعبودية" وإن علينا إيقاظها في داخلنا. فإن لم تستيقظ بمشاهدة الذين يطيعون لله تعالى، فإن باستطاعتنا إيقاظها في أنفسنا بمشاهدة الذين يمتثلون أوامر غير الله والذين هم عبيدٌ لما سوى الله! كأن نسألهم: "لماذا أنتم عبيدٌ لغير الله؟ لقد كنتم أحرارًا وكان بإمكانكم أن لا تكونوا عبيدًا لأحد، فلماذا أصبحتم عبيدًا؟!"
- نظرة القرآن الكريم للإنسان هي أنه يقول له: "لا تعبد غير الله!" لكن السؤال هو: مَن الذي يريد أن يعبُد أصلًا؟ والجواب: "إنما خلق اللهُ الإنسانَ عبدًا وليس باستطاعته أن لا يكون عبدًا! فإن لم يصبح عبدًا لله، فمن الطبيعي إذن أن يصبح عبدًا لغيره! وهذا بالذات هو التعليم الديني الجوهري الذي لا يُعلَّم للناس بشكل جيد!
- العيب الكبير الذي في مناهجنا لتعليم الدين هو أنها تسعى لإثبات وجود الله عز وجل لنا ثم تقول: "والآن كن عبدًا لله!" ولهذا يتمرّد البعضُ قائلًا: "كلا! أنا لا أريد أن أكون عبدَ أحد، أريد أن أكون حُرًّا!" والحال أنه كان يجب أن يقال لأمثال هؤلاء: "إن لم تكن عبدًا لله فستكون عبدًا لسواه لا محالة!"
الذي يرفض العبودية لله يعترض على الله بكل سهولة
- مَن يكون عبدًا لله تعالى حقًّا لا يعترض على الله، أما الذي ليس عبدًا لله فتراه يعترض على الله بكل سهولة! بالطبع لربما تكون الاعتراضات التي يسوقها على الله معقولة في الظاهر أحيانًا! كأن يقول: "إلهي، لماذا خلقتَ هذا الطفل مشلولًا؟ أين عدلُك إذن؟! في حين أن الله حين خلقه مشلولًا فإنه لا يتوقّع منه أكثر ما يتوقّعه من إنسان مشلول، أو إنه حين خلقه مشلولًا فلا بد أن يكون أعطاه نعمات بديلة! لكن المعترض على الله لا يرى هذه الأمور.
- وكذا حين يقع بعضهم في ورطة أو مشكلة فتراه يعترض على الله ويحسبُه السبب في كل مشاكله! والحال أن هذا الشخص هو مَن خلَقَ لنفسه هذه المشاكل في الأساس! وهذه مؤشّرات من لم يتقبّل العبودية لله جَلّ وعلا.
عبد الله لا يعترض على الله، وكذلك عبد الطاغوت فهو لا يعترض على الطاغوت!
- واللافت أن الذي يصير عبدًا للطاغوت لا يعترض على الطاغوت، مع أن الأخير يحطمه.. يسحقه تحت قدميه، ومع ذلك كله فإن عبده هذا لا يعترض عليه!
- وهكذا هم بعض المتغرّبين - المولَعين بالغرب والظانّين أن أمريكا زعيمة العالم بلا منازع – إذ لو أخبرتَهم وبيّنتَ لهم مقدار ما تمارسه أمريكا في حقهم، الآن تحديدًا، من جرائم لا يتخلّون عن تغربّهم وولَعهم بالغرب، ولا يعترضون! ونحن نسمي هؤلاء متغرّبون لكنهم في الواقع عباد الطاغوت!
- حين تُخبِر أمثال هؤلاء بأن: "البريطانيين الخبثاء هم أنفسهم من تسبب في هلاك تسعة ملايين نسمة في إيران جرّاء القحط!" فإنهم لا يعون أبدًا هذه الجريمة الواضحة ولا يتضايقون منها، في حين أن وثائقها موجودة. ومع الأسف فإن هذه الوثائق لا تُدَرَّس لأطفالنا في مناهج التاريخ المدرسية.
- عبد الله لا يعترض على الله، وكذلك عبد الطاغوت فهو لا يعترض على الطاغوت! على أن الفرق بينهما هو أن عدم اعتراض عبدِ الله على الله يستند إلى منطق، أما عبد الطاغوت فلا منطق لعدم اعتراضه على الطاغوت. وإن عين وأُذُن عبدِ الله تنفتحان، أما عين وأُذُن عبد الطاغوت فتَعمَى وتَصَمّ!
«إِيَّاكَ نَعْبُدُ» تعني: لا يكفي أن تعبد الله، بل لا بد أن تقول: "سوى الله لا أعبد"
- تتناول سورة الحمد قضية عبادة الله وعبادة ما سوى الله هذه بشكل واضح جدًّا، حين تقول: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» (الفاتحة/5)؛ أي: أنا أعبدك أنت فقط، ولا أعبد سواك! لكن هل كان يُفترض أن نعبد أحدًا آخر أصلًا؟ أجل، بل إن الموضوع من الأساس هو أنك إن لم تكن عبدًا لله، فانظر عبدُ مَن أنت إذن؟
- يؤكد الله تعالى في سورة الحمد، التي علينا قراءتها عدة مرات في اليوم، قائلًا: «إِیَّاكَ نَعبُدُ وَإیّاكَ نَستَعِینُ» (الفاتحة/5)، مع أنه كان بإمكانه القول: «نعبدُك اللهُمّ»! والمعنى: لا يكفي أن تعبدني، بل يجب أن تقول: "أنا لا أعبد سواك". بل اعلَم أنك عندما شرعتَ بعبادتي فقد امتنعتَ عن عبادة غيري!
- حين أراد يوسف الصديق(ع) التحدُّث إلى صاحبَيه في السجن وتعليمهما عقيدتهما قال: «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» (يوسف/39). هو لم يقل: "اعبُدا الله!" بل قال: «أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ»؟ أي إن الأمر يدور بين قضيتين اثنتين: إمّا عبادة آلهة متفرقة أو عبادة إله واحد. النقاش يدور حول أنه: "عبادُ مَن نحن؟" فالقائل: "لا أريد امتثال أمرَ الله!" لا بد أن يقال له: "أمرُ أيِّ رَبٍّ تريد أن تمتثل إذن؟"
كيف يربّي الله عبده وكيف يربّي غيرُه عبده؟
- يتصف الإنسان بخصائص معيّنة حينما يصير عبدًا لله ويمتثل أمره. لاحظ كيف يربي الله تعالى عبده: على سبيل المثال، لا يعاقب الله عباده على الفور إن وجّهَ إليهم أمرًا فلم يمتثلوه! كما لا يُعَجِّل في تشجيعهم إن امتثلوه أيضًا! فإن أصدر لعباده أوامر تركَ حسابَهم ليوم القيامة! لاحظوا كم يجعل هذا التصرف العبادَ كرامًا!
- والله تعالى لا يخدع عباده إذا أمَرَهم أمرًا، أما الدعايات الإبليسية فمليئة بالخداع. بل إن الشيطان، على حد نقل القرآن الكريم، هو يقول: «لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعين» (الحِجْر/39)؛ أي أزيّن للناس ما في الأرض والدنيا وأُظهِرُه جميلًا! أما الله فلا يخدعنا ولا يُظهِر الأشياءَ لنا أجمل مما هي عليه. بل إنك لتشعر أحيانًا عند قراءتك القرآن الكريم أن الله يتحدث إليك بفظاظة؛ مع أنه كان بمقدور الله عز وجل أن يُنزِل كتابه بما يجذب الجميع إليه، غير أن ما أُودِع في القرآن الكريم من قوّة جَذْب ودَفْع هما مما يمنح الإنسان توازنًا. ولذا يتوجب أن تسعى بعض السعي لأن تنجذب لأشكال الحلاوة في القرآن الكريم.
- روي عن الإمام الصادق(ع) قوله: «القُرْآنُ كُلُّهُ تَقْرِيعٌ وَبَاطِنُهُ تَقْرِيب» (معاني الأخبار/ ص232)؛ أي: إن ظاهرَ لهجتِه تقريع وفظاظة لكنْ ما إن تدخل في عالمِه حتى تراه جميلًا! لكن لماذا يفعل الله تعالى ذلك؟ يفعل ذلك لأنه لا يريد دعوتنا إليه عبر دعايات جذّابة وحسب.
الله تعالى يمنح عباده قوة
- الله جل وعلا يعرف الطريقة المُثلى لتربية عباده وهو يمنحهم العظمة والمَنَعة. وكل من يصير أكثر عبودية له يصبح أشدَّ بأسًا، وتنفتح عينُه وأذنُه أكثر. بل إنه تعالى يجعل من عبيده قُوًى عظمى؛ وإنكم لتشاهدون أي قدرات خارقة ينالها العرفاء!
- إذا جعل الله تعالى شخصًا عبدًا له منَحَه قوة وعظَمة. لكن انظر ما الذي يصنع غيرُه بالشخص إذا صيّره لنفسه عبدًا؟! إبليس مثلًا إذا جعل شخصًا ما عبدًا له قال له: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ» (الحشر/16)، أما الذي يصبح عبدًا لله عزّ وجلّ فإنه حتى إن أذنبَ وتابَ يقول الله له: إني أحبك: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابين» (البقرة/222).
القضية هي: أنصير عبيدًا لله أم لغير الله؟
- قضيتنا ليست أن نصير عبيدًا لله أو لا نصير! بل: أنصير عبيدًا لله أم لغير الله؟ منطقنا هو: تعالوا نصبح عبيدًا لله جلّ وعلا لأن الله يستطيع أن يُصلح أمورنا، أما غير الله فلا يستطيع ذلك. يقول الله: في إمكاني أن أبدّل السيئات حسنات؛ إن أفسدْتَ أنت أمرَك، فأنا أُصلحه لك: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَنات» (الفرقان/70).
- هناك فرق كبير بين العبودية لله والعبودية لسواه. ترى كيف يربّي الله عز وجل عبدَه؟ إنه يفعل ذلك بشهامة وكرامة لا حدود لهما! وكيف يربّي سواه عبدَه؟ إنهم يسلكون مع عبيدهم سلوكًا غير إنساني؛ كأن ينشئوهم مَشروطي السلوك عن طريق العقاب والثواب الآني؛ بالضبط كما يُفعَل بالحيوان إِنْ أُريد جعلُه مشروط السلوك؛ فيثيبوه في الحال كلما نفّذَ أمرًا، ويعاقبوه في الآن كلما أخطأ!
- ليست القضية أننا أساسًا نكون عبيدًا أو لا نكون؟ بل القضية هي: عبيد مَن نكون؟ فأولئك الذين رفضوا ولاية علي بن أبي طالب(ع) صاروا عبيدًا أذلاء لمَن فيما بعد؟! لأمثال الحجاج بن يوسف الثقفي، السفاك الجلاد الذي كان يقتُل لمجرّد التهمة دونما تحَرٍّ! كان من سعادة المرء (في ظِلّ حُكمه) أن لا يكون له عدو، وإلا فما أسهل ما كان يُتَّهَم الشخصُ ويُعتَقَل وتُضرَب عنقُه لمجرد معاداته لشخصٍ ما، من دون تحَرٍّ فيما إذا كانت التهمة ضده صادقة أصلًا أم لا!