أهم ما يحُول دون سقوط الإنسان وهلاك المجتمع (المحاضرة8)
من الممكن أن نتخذ من الإنفاق والمواساة أنموذجًا لإدارة المجتمع والتأسيس لحضارة/ فلننظر إلى الإنفاق والمواساة نظرة أعمق من التصدُّق!
الهويّة:
- الزمان: 07/محرم الحرام/1442 - 27/آب/2020
- الموضوع: أهم ما يحُول دون سقوط الإنسان وهلاك المجتمع
- المكان: طهران، موكب "ميثاق با شهدا" (العهد مع الشهداء)
- الصوت:(39MB) تنزیل
- A4|A5 :pdf
من الممكن أن نتخذ من الإنفاق والمواساة أنموذجًا لإدارة المجتمع والتأسيس لحضارة
- سنتناول الليلة، إلى حد ما، الأبعاد الفردية لموضوع "الإنفاق"، في مقابل "الإمساك"، وهو الذي يُعَدّ اختبارًا مهمًّا للإنسان في الحياة الدنيا، أما في الليالي القادمة فسنتطرق – إن شاء الله – إلى أبعاده الاجتماعية والحضارية.
- إن لبعض مفاهيم ديننا دلالاتٍ اجتماعية جَمَّة، في حين يظن البعض أنْ ليس لها سوى الجانب الفردي. فالتقوى مثلًا ليست سلوكًا فرديًا محضًا، فإننا لو اتّخذنا من التقوى أنموذجًا فإننا سنحصل على ضربٍ من الإدارة على مستوى المجتمع.
- وكذا هو الإنفاق، الذي هو نقيض الإمساك؛ فلو أننا جعلنا من الإنفاق الوجه المشترك لجميع المفاهيم الدالة على البذل والعطاء (مثل الزكاة، والتصدُّق، والمواساة، ...إلخ) فمن الممكن أن نتخذ منه أنموذجًا لإدارة البلد، والمجتمع، والتأسيس لحضارة؛ الحضارة نفسها التي سيقيمها الإمام صاحب الزمان(عج)، والتي ستكون العدالة إحدى صفاتها البارزة. فإنه لا بد، من أجل تصميم الحضارة الإسلامية وتعريفها، من التركيز على مصطلح "الإنفاق" المفتاحي.
- لا بد أن نطبّق هذه المفردات والمفاهيم بمعانيها الفردية وسنجد – بطبيعة الحال - أن آثارها الاجتماعية ستتحقق أيضًا. فقد رُوي عن نبينا الكريم(ص) قوله: «كَما تَكُونُونَ يُوَلَّى عَلَيكُمْ» (النهاية في غريب الحديث والأثر/ ج1/ ص116)؛ أي كيفما تكونوا يكون الحاكم الذي يحكمكم. فحين يسود بين الناس "الإنفاقُ" لا "الإمساك" فلن يمسك مقاليد أمورهم مسؤولون سيّئون، وهذه أول الآثار الاجتماعية السياسية لمثل هذه المفاهيم.
يصرّح الله عز وجل: "أريد أن أختبركم بما أعطيتُكم"
- يقول الله عز وجل في مُحكم كتابه العزيز: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُم» (الأنعام/165). وإن الحد الأقصى لمعنى قوله: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ» هو أنّ في وسع الإنسان أن يكون خليفة الله في الأرض، وهو مقام للإنسان في قمة السُمُوّ. أما الحد الأدنى من معناه فهو أن الإنسان يرث أسلافَه وأنّ ما كان لديهم من إمكانيات هي الآن تحت تصرفه. «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ»؛ أي هناك فوارق بين بعضكم البعض، وأنا مَن أَوجَدَ هذه الفوارق؛ فترى البعض أقوى بامتلاك أشياء معيَّنة، وترى البعض الآخر يمتلك أشياء أخرى أكثر وهو أقوى بها.
- يستهل الله تعالى كلامه بوصف عامٍّ لحياة الإنسان ثم يقول: "لقد جعلتكم خلفاء لي في الأرض وأوجَدتُ بينكم فوارق أيضًا. ثم يقول: «لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُم»؛ أي لأختبركم بالأمور التي أعطيتكم إياها. إذن الله عز وجل يقولها بكل وضوح: "أريد أن أمتحنكم بالأشياء التي تملكون". وإذا بالإنسان مشغول بتملُّك المزيد! وإنكم لتعلمون أن الحد الأدنى من اجتياز الاختبار في الممتلكات بنجاح هو الشُكر، وإن التوقع الطبيعي لله تعالى منا فيما يتصل بما نملكه هو أن "نُنفِق" ونَبذُل منه.
- يقول القرآن الكريم في موضع آخر: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرات» (المائدة/48)؛ أي جعلنا لكُلِّ واحدٍ منكم شريعة وطريقًا واضحة... لكن الله عز وجل يريد أن يمتحنكم بالأشياء التي أعطاكم إياها (ويُنَمّي مواهبكم المختلفة)، إذن فسابِقوا بعضَكم بعضًا بالخيرات والحسنات.
- يقول تعالى: "لقد خلقتُكم وبينَكم فوارق لأختبركم بما تملكون". إذن على الإنسان أن يعي أن كل ما يملك هو عُرضَةً للامتحان، وأن الله إنما أعطاه إياه ليمتحنه به، وأنه سيفقد كل واحد من هذه الممتلكات بطريقةٍ ما. كلام الله تعالى هذا هو في منتهى الصراحة، ولا بد أن نُوليه اهتمامًا لكي ترسخَ، بإذن الله، في المجتمع - شيئًا فشيئًا - فكرةُ أنه "ليس من المُفتَرَضِ أن نحتفظ بشيءٍ"، وذلك من باب كون هذه الفكرة ضربًا من التأهُّب الروحي أو قيمةً من القيم.
إن لم ينفق الإنسان في سبيل ولي الله، فسينفق من أجل عدو الله!
- إن من العقلانية بمكان أن نتنازل طواعِيَّةً – لكن في سياق أوامر الله تعالى بالطبع – عما نملك (كأن نُنفِقَ وَنُزَكّي، ..إلخ)، وإلا فإننا سنُسلَبُ هذه الممتلكات بأفظع الطرق! وإن من أسوأ الطرق التي يَستَرِدُّ اللهُ بها من الإنسان ما يملك هي أن الأخير إذا لم يتحرك من أجل ولي الله ولم ينفق في سبيله فسينفق في سبيل عدو الله؛ أي إنه سيرى نفسه في أوضاع تضطره إلى أن ينفق من أجل عدو الله، ويبذل له من كرامته، وهذه قمة القباحة؛ «مَنْ لَمْ يُنْفِقْ فِي طَاعَةِ اللهِ ابْتُلِيَ بِأَنْ يُنْفِقَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلّ، وَمَنْ لَمْ يَمْشِ فِي حَاجَةِ وَلِيِّ اللهِ ابْتُلِيَ بِأَنْ يَمْشِيَ فِي حَاجَةِ عَدُوِّ اللهِ عَزَّ وَجَل» (من لا يحضره الفقيه/ ج4/ ص412).
- ولا تقتصر القدرات والممتلكات على الأموال، فإن الله تعالى سيمتحننا بكل ما أعطانا. ويا ليت الأمرَ يقف عند إفناء الله لممتلكاتِنا هذه إذا ما أخفقنا في الاختبار؛ كأنْ يسرقها سارق، أو شيئًا من هذا القبيل، إلا أن بعض أنماط العقوبات التي يُنزِلها الله سبحانه بعباده، على الخصوص في ما يتصل بقضية ولي الله، هي أشد من هذا بكثير.
- إن لموضوع الإنفاق أبعادًا سياسية اجتماعية واسعة النطاق جدًّا، يرتبط جزء منها بولي الله. على سبيل المثال، إن لم ينفق امرؤٌ كرامتَه وسُمعتَه في سبيل ولي الله فسيبتليه الله عز وجل بأن ينفقهما من أجل عدو الله. وهذا الصنف من الأفراد في مجتمعنا نحن لم يكونوا قلة؛ أحدهم كان بمستوى مرجع تقليد، وإذ إنه لم ينفق سمعته وماء وجهه في سبيل الإمام الراحل(ره)، تسرّبَ عنه شريطُ تسجيل فيما بعد يبذل فيه ماءَ وجهه من أجل رئيس الولايات المتحدة!
إن لم تكن على أُهبَةٍ روحيةٍ للعطاء فلن يتقبل الله منك أكثر تضحياتك
- هذا الإنفاق والعطاء (في مختلف أبعاده) اختبار مهم، وعلينا أن نستعد لمثله. ولا بد أن يكون تأهّبُنا له على مستوى من العُلُوّ ما يجعلُنا نخاطب الله جل شأنه كلما استيقظنا صباحًا قائلين: "إلهي، ما الذي عليَّ إنفاقُه الآن؟"
- على أننا، من خلال هذا الامتحان، سنحصل على الكثير أيضًا، فإن الله تعالى لا يعطّل حياتَنا. وإن للدفع والعطاء قواعد؛ فلا ينبغي إنفاق كل شيء متى ما كان وأينما كان، لكن لا بد أن نكون على استعداد روحي لهذا على أية حال. فإن لم تكن مستعدًّا روحيًّا للعطاء فإن الله لن يقبل أكثر قرابينك، بل لن يمنحك الاستحقاق لتقديم أكثر التضحيات. كان الشهداء يضجّون ضجيجًا من أجل الشهادة. ينقل قائد الثورة الإمام الخامنئي (حفظه الله) في ذكرًى عن أحد الشهداء أنه شاهد في المنام، قبل استشهاده، شهيدًا آخرَ فسأله: "ما الذي عليَّ صنعُه لأستشهد؟" فأجابه: "عليك بذرف الدموع.. الدموع!" أي إن الأمر لا يُحَلّ بطلب بسيط. وإن لموضوع العطاء وإنفاق ما في اليد دائرةً في منتهى السعة، أحد مظاهرها الشهادة. يجب أن تكون جهوزيتك بحيث لا تقول: "إن لزم الأمر، فلا مناص من ذلك، يجب أن أُنفق!" فإن قلتَ ذلك فإن الله تعالى سيتوقف عن القبول منك بعد حَدٍّ معيَّن.
فلننظر إلى الإنفاق والمواساة نظرة أعمق من التصدُّق!
- إذا أردتم أن يتنظّفَ مجتمعٌ ما من أنواع السرقة، ولا يأكل مسؤولوه الريع، ولا تستشري فيه سلوكيات تتناسب مع النظام الرأسمالي الظالم الجائر، ولا يتولى المناصب فيه مسؤولون متغرّبون، ...إلخ فبَرِّزوا فيه "الإنفاق" على نحو موصول.
- لا ينظرَنَّ البعضُ إلى موضوع الإنفاق والمواساة نظرة سطحية فيظن أن المواساة هي التصدُّق عينُه! فإن التصدّق والمساعدات بدافع الإيمان ليست هي إلا مستوًى ضئيلًا من المواساة، إذ إن للأخيرة حدودًا في قمة العلُوّ لا يمكننا تطبيق بعضها إلا في زمن ما بعد الظهور.
- علينا أن ننظر إلى الإنفاق نظرةً أعمق بكثير، لا في حدود التصدّق! فدفع الصدقات موجود في الدول الغربية أيضًا؛ إذ حتى الكارتلات والتراستات تقيم المؤسسات الخيرية، وتتصدق على الفقراء ببعض المال، وتَظهَر بمظهر المُحسن، وقد تكون بعض هذه السلوكيات صادقة أيضًا. فهؤلاء الذين يتسببون بأفدح حالات الفقر والحرمان في العالم يدفعون إلى بعض الفقراء بعض الفلوس. ما أقصِدُه من الإنفاق والعطاء ليس هذه الأمور.
كل مسؤول متغرّب هو مولّد للفقر في المجتمع
- إن كل متغرّب وكل مسؤول متغرّب فكريًّا هو مولِّد للفقر في المجتمع. ومن أجل أن لا يكون لدينا مسؤول متغرّب فلا بد أن تُبَرِّزوا موضوع الإنفاق والمواساة كل تبريز وتمنحوه أهمية كبرى وتؤكّدوا عليه بشدة.
- خلال العام أو العامَين الماضيَين، وفي أحلك الظروف الاقتصادية التي يمُرّ بها البلد، شُيِّد في إحدى مدن البلاد عدد كبير من الفِلَل، بعضها لمسؤولين. وحتى لو لم تكن هذه الفِلَل من أموالٍ مسروقة وشُيِّدت بشكل قانوني – على أنّ أكثرها لم يحصل على تصاريح قانونية – فيجب أن نتساءل: "من أين لكم هذه الأموال؟!" لسنا بُخلاء، لكنّ بناءَ هذا العدد من القصور في غضون عامين بعيدٌ كل البعد عن المواساة، هذا وهناك بين أصحابها مسؤولون أيضًا! هذا الوضع تفصله عن ثقافة المواساة مسافةٌ شاسعة. وإنه ليتحتّم علينا في مثل هذه المَواطن أن نأخذ بتلابيب أمثال هؤلاء قائلين لهم: "أين عيشُ المواساة خاصَّتُك؟!"
لكي تنفق في سبيل الله لا بد أوّلًا أن تُكثِر التوسل إلى الله ليوافق
- لكي ننجوا من السقوط والهلاك (سواء سقوط الفرد أو هلاك المجتمع) علينا أن نبلغ حد التوسّل إلى الله عز وجل ليعِينَنا على البذل والعطاء. ومن النماذج على هذا الأمر هو قول الشيعة ومُحِبّي أهل البيت(ع) علَنًا إذا جاؤوا أئمة الهدى(ع): "جُعِلتُ فِداك!" ولم تكن هذه مبالغة، كما لم يكن الإمام(ع) يمنعهم من هذا قائلًا: "لا داعي لكل هذه الأحاسيس!" كلا، بل إن واجبهم كان يحتِّم عليهم ذلك.
- استعدّوا للبذل والإنفاق. نبي الله آدم(ع) فكّر لحظة في أنه: "أتريد الاحتفاظ بكل هذا إلى الأبد؟" فانتهى الأمر! لقد سقط.. أي تركه الله، فسقط أرضًا.
بعض مراتب العطاء سهلة، بل واجبة
- يجب أن نكون على استعداد للعطاء في سبيل الله، وأن نعلم أنه عز وجل لا يقبل منا بسهولة! فمن أجل الشهادة مثلًا عليك أن تذرف الدمع.. أن تنتحب، فإن الله لا يقبل قربان كل امرئ بكل بساطة.
- الله تبارك وتعالى لم يقبل من إبراهيم الخليل(ع)! بالطبع لا أقصد أن إبراهيم(ع) قصَّرَ في تقديم قربانه، بل قصدي هو أن الأمر ليس بهذه البساطة. إن بعض مراتب الإنفاق سهلةٌ، بل وواجبةٌ أيضًا، وإنّ على الدولة الإسلامية أن تتعامل معها بجدية؛ مثل قضية الزكاة. بالطبع نحن نعاني اليوم من بعض المشاكل في هذا المجال؛ كموضوع الضرائب، وكل ما شابهها.
- إذن في ما يتصل بالبذل والإنفاق فإن على الدولة الإسلامية أن تنهض بجانب منه، وفي جانب آخر منه فإن من الواجب عليك أنت أن تدفع، وفي جانب ثالث لا بد أن تبذل قصارى جهدك، وتخاطب ربك: "إلهي، أين علَيَّ أن أنفق نفسي، ومواهبي، وقدراتي؟"
- في أي مجال نريد أن ننفق قدراتِنا في سبيل الله؟ إنْ كنا نرغب في العمل، فماذا علينا أن نصنع؟ علينا – بادئ ذي بِدْء – أن نتوسل كل توسل، ونستجدي من الله المِنّة، قائلين: "يا إلهي، أريد أن أخصص وقتًا (للبذل)، أتوسّل إليك... أُقسِمُ عليك بأوليائك...". فيقول الله تعالى: "كم تريد أن تخصّص من الوقت لذلك؟". فنقول: "يا رب، أُخصِّصُ ساعتَين في اليوم". ولربّما يقول لك الله: "أَقبَلُ منك دقيقتَين فقط!" هذا إذا قَبِل، وأعطاك فرصة العمل من أجله. ثم بعد العمل يأتي الدَورُ لمسألة أنّه: هل سيقبل عملك أو لا؟!
- إن موضوع البذل والإنفاق ليجنِّن الإنسان. العقيلة زينب(س) جاءت إلى المصرع (يوم الطف) تتوسّل إلى ربها أن يَقبَلَ منها أخاها الحسين(ع)! «إِلهِي، تَقَبَّلْ مِنّا هذا القُربان» (عوالم العلوم والمعارف والأحوال/ ج11/ ص958).
لربما يكون بذل النفس أهون من بذل السمعة، وبذل السمعة أهون من تخصيص الوقت!
- لا بد أنكم سمعتم أن "بعض الناس يحملون أرواحهم على أكفهم"؛ وهذا يعني أنهم حاضرون للتنازل عن أرواحهم وبذلها. والآن يوجد آخرون قد حملوا ليس الأرواح فقط، بل باقي ما يملكون أيضًا على أكفهم ليقدّموها لربهم. على أن بذل النفس أحيانًا يكون أهون من بذل السمعة، وإن بذل السمعة أحيانًا يكون أهون من تخصيص الوقت لأمر ما! فالبعض لا يخصّص وقتًا حتى للإعجاب ببضعة منشورات على شبكات التواصل، أو حتى لمتابعة بضع صفحات اجتماعية رصينة، ليعلن أنه: "أنا من أنصاركم". بل لا رغبة له أساسًا في نشر منشور، أو تأسيس صفحة، أو التواصل مع بضعة أشخاص، أو المجاهدة قليلًا (في مجال تنوير الآخرين)...
- في الخبر إن الله تعالى إذا كره عبدًا من عبيده شغل قلبه شغلًا لا يتفرغ معه لتخصيص بعض الوقت لربه، وإذا به يقول: "للأسف، ما عندي وقت!" لا تخطئ يا هذا، بل للأسف هو الذي لا يفسح لك المجال؛ «...وَإِنْ لَا تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ قَلْبَكَ شُغُلًا بِالدُّنْيَا، ثُمَ لَا أَسُدَّ فَاقَتَكَ، وَأَكِلْكَ إِلَى طَلَبِك» (الكافي/ ج2/ ص83). إن على الذين يخصصون وقتًا للموكب الحسيني، ويُوَفَّقون لفعل شيء للحسين(ع) أن يُكثِروا من السجود شكرًا لله تعالى. وإن عليك إذا قرأت زيارة عاشوراء أن تسجد لله شكرًا؛ وكأنك تخاطب ربك: "إلهي، أنا شاكرٌ لك أن سمحتَ لي أن أخصّص وقتًا لهذا".
لا يقبل الله القرابين من كل أحد/ إنْ تردّدتَ قليلًا ساعة البذل فـ...
- المشكلة هي أن الله تعالى لا يقبل بهذه البساطة من كل أحد. فعندما جاء الإمام الحسين(ع) إلى عُبيد الله بن الحر الجعفي ودعاه إلى نصرته، قال عبيد الله: «وَاللهِ مَا خَرَجتُ مِنَ الكوفَةِ إِلّا مَخافَةَ أَنْ تَدخُلَها، وَلا أُقاتِلَ مَعَكَ، وَلَو قَاتَلتُ لَكُنتُ أَوَّلَ مَقتول»؛ أي: إني أعلم أنك لن تنتصر.
- فتركه الحسين(ع). ثم قال عبيد الله: «وَلٰكِنْ هٰذا سَيفي وَفَرَسي فَخُذهُما!» وكان أهل البيت(ع) يقبلون الهدايا، لكن الإمام الحسين(ع) هنا أعرض عنه بوجهه وقال: «إِذا بَخِلتَ عَلَينا بِنَفسِكَ فَلا حَاجَةَ لَنا في مَالِك» (تفسير نور الثقلين/ ج3/ ص268-269). أَوَهَل يقبلون من الآخرين بهذه البساطة؟!
- في ما يخص موضوع الإنفاق عليك أن تجتث أصول الإمساك من قلبك بالكلية. فما إن تتردد (بالإنفاق) قليلًا حتى يقول الله: "يا ملائكتي، لا تمتحنوه امتحانَ إنفاقٍ من الطراز الأول أبدًا".
- ليس الله بغائب عن أعماق قلب الإنسان إذا امتلك هذا شيئًا وتعلّق به ولم يحب تركه، فهو تعالى ينظر إلى أعماق قلبه. ففي الخبر إن الله ينظر إلى ما يُسِرّه الإنسان في أعماق نفسه فيُخرجه (إن كان خيرًا أو شرًّا) ويُلبسه إياه كالرداء: «مَن أَسَرَّ سَرِيرَةً أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ» (الكافي/ ج2/ ص296). والسِرّ هو ما خفي من مكنون القلب، وإن الله تعالى يرتّب مقدَّرات الإنسان على أساسٍ من سِرّه.
- إن الله تعالى لا يتقبل القرابين من كل أحد، فانظر إذن مَن كانت "الرباب" حتى يتقبل الله عز وجل منها هذا القربان العظيم؟ تفحّص ما كان يجول في أعماق سِرّها؟ أَوَتُقبَل القرابين بهذه البساطة؟! انظر أي عظمة كانت لسيدتنا الزهراء(س) وما كان يجول في قلبها حتى تقدّم كل هذه التضحيات الجسام؟!
إن لم تُطِق بذل بعض ما تملك فتوسّل بربك
- على المرء أن يُنَقّي قلبَه ويهيئَه. حتى وإن لم تُطِق بذل بعض ما تملك فلا بأس عليك، توجّه إلى ربك مناجيًا متوسّلًا به؛ قل له، على سبيل المثال: "يا رب، لستُ أستطيع... إن لي بيتًا، لكني عاجز عن التبرع بنصفه في سبيلك. اللهم ارحمني فإني ضعيف، بَيدَ أني أحب أن أبذل في سبيلك كل وجودي، أوَدّ لو أمنح صاحب الزمان(عج) كل وجودي...". ناجِ الله بخصوص هذه المسائل عَلَّهُ يدبّر لك أمرًا.
- إن لم يحصل الفتى الذي يشارك في مجالس أبي عبد الله الحسين(ع) على توقيع على صك شهادته من الإمام الحسين(ع) فما الذي حصلَ عليه يا ترى؟! أسأل الله أن يطيل في عمرك ويديم عزك ويجعل حياتك وَقفًا لأبي عبد الله الحسين(ع)، لكن هل سيقبلون منك؟! هل سيأخذون منك شيئًا؟ عَلَّهم يأخذون منك ذاتَ يوم مالًا أو سُمعة. في النهاية اُبذُل شيئًا ما...
- يقال إنه حينَ لم يأخذ الله تعالى من إبراهيم الخليل(ع) ولَدَه أخذَ بالبكاء، وحين استفسر الله منه عن سبب بكائه وانقباض قلبه تعلل نبي الله(ع) بأنه: أوَيمكن أن لا يقدم العبد بين يدي ربه أضحية؟ حذار من أن نكتشف ساعة الاحتضار أننا لم نقدم في سبيل الله تضحية تُذكر. يقال إن كل من ليس في بدنه يوم القيامة جُرحٌ من حرب سيحس نقصًا كبيرًا لا يمكن سَدُّه! حذار من أن يكون أمرنا بحيث لا نصاب ولو بجرح واحد في سبيل الله تعالى! والقرآن الكريم صريح جدًّا في هذا المجال؛ فمنطِقُه أنه: أَوَيُمكن أن يتساوى الذين لم يتضرروا في سبيل الله أدنى ضرر (أو بالأحرى لم يقدّموا أي تضحية) مع ذوي الدرجات العالية عند الله؟! «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدينَ دَرَجَة» (النساء/95). فكيف نستأصل هذه الأمور من قلوبنا؟ نستأصلها بالدعاء، والمناجاة، والتوسل...
من شأن الوصول إلى "حقيقة العبودية" أن يجتث أصول الإمساك من النفس
- ولأَتلُ عليكم حديثًا عرفانيًّا، يهتم به العرفاء غاية الاهتمام. بالطبع جميع الأحاديث عرفانية بشكل من الأشكال، لكن أرباب المعرفة يُولُون بعضَها اهتمامًا أكبر. يقول المرحوم السيد القاضي: "اكتبوا هذا الحديث، واحملوه وواظبوا على قراءته". العمَلان اللذان كان سماحته يوصي بهما أكثر من غيرهما هما قراءة زيارة عاشوراء وقراءة هذا الحديث، وهو "حديث عنوان البصري" (مشكاة الأنوار في غرر الأخبار/ ص327). كان عنوان البصري يُصرّ على رؤية أبي عبد الله الصادق(ع) وقد قصده مرارًا لكن الإمام كان يرفض لقاءه متذرّعًا بأن لا وقت لديه.
- ولم يكن عنوان البصري معتقدًا بإمامة الإمام الصادق(ع)، لكنه في الوقت ذاته لم يكن مسلمًا سيّئًا، فقد كان يُوَقّر أهل البيت(ع). كان يعتقد بغزارة علم الإمام الصادق(ع) ويود لقاءه ليتعلّم منه شيئًا. يقول عنوان: «فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ الرَّسُولِ(ص) وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعْتُ مِنَ الْغَدِ إِلَى الرَّوْضَةِ وَصَلَّيْتُ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ وَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ يَا اللهُ يَا اللهُ أَنْ تَعْطِفَ عَلَيَّ قَلْبَ جَعْفَرٍ وَتَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِه». فأذِنَ لي بعد ذلك لما قصَدْتُه. «فَجَلَسْتُ، فَأَطْرَقَ مَلِيّاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: أَبُو مَنْ؟ قُلْتُ: أَبُو عَبْدِ اللهِ. قَالَ: ثَبَّتَ اللهُ كُنْيَتَكَ وَوَفَّقَكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ». يقول عنوان: «فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِي مِنْ زِيَارَتِهِ وَالتَّسْلِيمِ غَيْرُ هَذَا الدُّعَاءِ لَكَانَ كَثِيرًا».
- فقال الإمام(ع): «مَا مَسْأَلَتُكَ؟ فَقُلْتُ: سَأَلْتُ اللهَ أَنْ يَعْطِفَ قَلْبَكَ عَلَيَّ وَيَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِكَ... فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، لَيْسَ الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، إِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَهْدِيَهُ» أي يقع في قلب عبدِه الحقيقي. فكل من كان عبدَ الله حقًّا علَّمه الله من علمه؛ «فَإِنْ أَرَدْتَ الْعِلْمَ فَاطْلُبْ أَوَّلًا فِي نَفْسِكَ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ... قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، مَا حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ؟ قَالَ: ثَلاثَةُ أَشْيَاءَ» ويعدّد الإمام(ع) ثلاثة أشياء، الثاني والثالث منها متصلان في واقع الأمر بالأول. ونستطيع القول إن الإمام(ع) قد طرح حقيقة يمكن من خلالها اقتلاع جذور الإمساك من نفس الإنسان.
حقيقة العبودية هي "عدم إحساس المِلكية" وهو ما يسَهِّل الإنفاق على المرء
- يقول(ع): حقيقة العبودية ثلاثة أشياء: الأول أن لا يرى العبدُ أنه يملك شيئًا: «أَن لا يَرَى العَبدُ لِنَفسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللهُ مِلكًا». فإن رأى العبدُ نفسَه مالكًا فلن يتمكن بعد ذلك من ضبط نفسه. لَقِّن نفسك أنْ: "أنا لستُ مالك شيء! الأشياء التي في حوزتي أعاروها لي مؤقّتًا". فلنعتقد بهذا الشيء، فإن إحساس المِلكية يُهلك الإنسان؛ «لِأَنَّ العَبِيدَ لا يَكُونُ لَهُمْ مِلْكٌ» أي إن الرقيق لا يملك شيئًا خاصًّا به.
- بالطبع شباب عصرنا لا يفهمون معنى "الرقيق" لأنهم لم يرَوا رقيقًا في حياتهم. في ذلك الزمن، حيث كان للناس عبيدٌ وأرقاء وكانوا يدركون معنى العبد، كانت هذه العبارة مفهومة تمامًا، أما الآن فاستيعابها صعب بعض الشيء بالنسبة إلينا. لكن فلتحاولوا تصور الموضوع على أية حال؛ العبدُ أو الرقيق لا يشبه العامل أو الخادم في البيت، إنه شيء أفظع من هذا بكثير.
- وبعد أن قال الإمام(ع): «لِأَنَّ العَبِيدَ لا يَكُونُ لَهُمْ مِلْكٌ» يضيف(ع) أنهم لا يحسون أنهم يملكون شيئًا، والذي لا يحس بأنه يملك شيئًا سينفق ما أمره الله به بكل سهولة: «يَرَونَ المَالَ مَالَ اللهِ يَضَعُونَهُ حَيثُ أَمَرَهُمُ اللهُ بِهِ».
- فحقيقة العبودية هي عدم إحساس المِلكية وهو ما يُسَهِّل الإنفاق على الإنسان كثيرًا، وهذا هو سر المعرفة. حقيقة العبودية هي سر المعرفة؛ أي إن باستطاعتك أن تفهم العالَم من خلال هذا الموضوع.
حين لا ترى نفسَك مالِكًا لشيء فلن تدبّر شؤون نفسك ولن تحتَجَّ على تقدير الله
- ثم يقول(ع): «وَلا يُدَبِّرُ العَبدُ لِنَفسِهِ تَدبِيرًا»؛ فحين لا ترى نفسك مالكًا فإنك لن تدبّر شؤون نفسك؛ أي إنك لن تَحتَجَّ على تقديرات الله عز وجل. والعبارة الثانية هذه هي من أجل حقيقة العبودية.
- والثالث: «وَجُملَةُ اشتِغَالِهِ فِيمَا أَمَرَهُ تَعَالَى بِهِ وَنَهَاهُ عَنهُ»؛ أي ليس في حياته كلها من شُغل يشغَله سوى امتثال أوامر الله تعالى والانتهاء عن نواهيه؛ فهو غير مشغول بجمع المال، ولا بالاكتناز، ولا بالتباهي، ولا بالتحسُّر، ولا بالحسد. يقول في ذات نفسه: "ما لي وهذه الأمور؟!"
- افرض أن صاحب عملٍ ناولك مسحاةً وسألك: "أتعمل عندي ليوم واحد إزاء أجر يومي؟" فأجبته: بلى. فإذا بالمسحاة التي ناولك إياها مثلومة من طرفها، فرُحتَ أنت تتمتم مستنكرًا: لماذا المسحاة مكسورة؟ يا هذا، وما شأنك أنت؟! أنجز أنت عملَك بهذه المسحاة بالذات. نحن حسَبْنا لك أجرًا يوميًّا، فاعمل بهذه المسحاة المكسورة المقدارَ الذي تقدِر عليه. فالمسحاة مسحاتنا، والحديقة حديقتنا، وأنت تقبض أجرك، إذن باقي الأمور لا تخصك أنت... ألا وإن حياتَنا كلَّها إزاء مالكنا (وهو الله جل وعلا) هي هكذا!
- تقول: "إلهي، هذا الجزء من منزلي معيوب". يقول لك: "لكنه ليس منزلَك، أنا الذي أعطيتك إياه". تقول: "لكن أعصابي ستتحطم بهذه الطريقة!". يجيبك: "ولماذا تتحطم أعصابك؟!".
- "لأني لا أستطيع أن أعمل جيّدًا". "فليكُن! لا أريدك أن تعمل لي أكثر من هذا المقدار". ثم يضيف: "لا تَحسَبْ نفسَك مالكًا أصلًا، إن لم تَحسَبْ نفسَك مالكًا فلن تعترض". "وماذا أصنع حينئذ؟! بماذا أشغَل نفسي؟". "اِشغَلها بامتثال أوامر الله". "إذن فوجّه أنتَ لي الأوامر، ولا شأن لي بباقي الأمور". إن مستوى هذه الرواية عالٍ جدًّا.
حين لا يرى العبدُ نفسَه مالكًا يَسهُل عليه الإنفاق
- يتابع الإمام(ع): «فَإِذا لَم يَرَ العَبدُ لِنَفسِهِ فِيما خَوَّلَهُ اللهُ تَعالَى مِلكًا هانَ عَلَيهِ الإِنفاق»! على سبيل المثال حين أمر الإمام الصادق(ع) أحد أصحابه بأن يدخل إلى التنور امتثل هو في الحال ودخل التنور! قد تقول له أنت: "احترس من الاحتراق...". فيجيبك: "جسدي ليس مِلكي، الواجب عليَّ هو امتثال الأوامر!"
- حينذاك يرتقي فَهْمُ أمثال هؤلاء رُقِيًّا حتى تُزاح من أمام بصائرهم كل أنواع الحُجُب والجهل. يقول(ع) في الحديث: «هانَ عَلَيهِ الإِنفاقُ فيما أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَن يُنفِقَ فيه».
عندما تُسَلِّم لقضاء الله وقَدَره تهون عليك مصائبُ الدنيا
- يتابع(ع): «وَإِذا فَوَّضَ العَبدُ تَدبيرَ نَفسِهِ عَلَى مُدَبِّرِهِ هانَ عَلَيهِ مَصائِبُ الدُّنيا». جاء في الخبر أن رجلًا شكى لأبي عبد الله الصادق(ع) ما يقاسي من الأوجاع فقال(ع) بحسب الرواية: «يا عبدَ اللهِ لَو يَعلَمُ المُؤمِنُ مَا لَهُ مِنَ الأَجرِ في المَصائِبِ لَتَمَنَّى أَنَّهُ قُرِضَ بِالمَقاريض» (الكافي/ ج2/ ص255). وعن أبي جعفر(ع) قال: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعالى إِذا أَحَبَّ عَبْدًا غَتَّهُ [خنقه] بِالبَلاءِ غَتًّا وَثَجَّهُ [أَسالَه] بِالبَلاءِ ثَجًّا فَإِذا دَعاهُ قَالَ: لَبَّيكَ عَبدِي لَئِن عَجَّلتُ لَكَ مَا سَأَلتَ إِنِّي عَلَى ذَلِكَ لَقَادِرٌ وَلَئِنِ ادَّخَرتُ لَكَ فَمَا ادَّخَرتُ لَكَ فَهُوَ خَيرٌ لَك» (الكافي/ ج2/ ص253). انظر أي عالَم يرسمه الإمام(ع) لنا!
أول درجات التقوى هي أن لا نشعر بالمِلكية/ شعورنا بالمِلكية يعني أننا لم نبلغ أول درجات التقوى
- ويضيف الإمام(ع): «وَإِذا اشتَغَلَ العَبدُ بِما أَمَرَهُ اللهُ تَعالَى وَنَهاهُ لا يَتَفَرَّغُ مِنهُما إِلَى المِراءِ وَالمُباهاةِ مَعَ النّاس»؛ أي حين يشتغل المرء بامتثال أوامر الله سبحانه ونواهيه لا يجد وقتًا للأمور الأخرى، من مثل المباهاة مع الناس وقياس نفسه بهم، وأمثال هذه المآسي.
- ثم يقول(ع): «فَإِذا أَكرَمَ اللهُ العَبدَ بِهٰذِهِ الثّلاثَةِ هانَ عَلَيهِ الدُّنيا وَإِبليسُ وَالخَلقُ»؛ أي سيرى الدنيا حقيرة، ويصبح إبليس عنده عبدًا طريدًا، بل لن يهمه الناس وما يقولونه. «وَلا يَطلُبُ الدُّنيا تَكاثُرًا وَتَفاخُرًا، وَلا يَطلُبُ عِندَ النّاسِ عِزًّا وَعُلُوًّا»؛ ولا يجمع أموال الدنيا، ولا يتفاخر أمام الآخرين، ولا يفتش عن العزة عند الناس فيشقَى، لا يريد أن يُمتطَى ولا أن يَعلُو.
- ثم يقول(ع): «وَلا يَدَعُ أَيّامَهُ باطِلًا»، وهذه العبارة تهم الشباب. فحين نتحدث عن الإنفاق والتكاثر وما إلى ذلك سينبري الفتى الذي هو في سن الثانوية قائلًا: "وما الذي أملك أنا كي أعطي للآخرين؟!" لكن الإمام(ع) يقول هنا: «لا يَدَعُ أَيّامَهُ باطِلًا»؛ أي لا يُمضي عمرَه في الأباطيل، ولا يُتلف وقته بالعبث. فالذي ينبذ الشعور بالمِلكية جانبًا لا يُتلف وقتَه بالأمور العبثية.
- ثم يقول(ع) في آخر الحديث: «فَهٰذا أَوَّلُ دَرَجَةِ المُتَّقين»! فتأمّل ماذا ستكون درجات التقوى الأعلى منها؟! فأول درجات التقوى إذن هي أن لا نشعر بالمِلكية. لكننا نشعر بالمِلكية، فمن الواضح إذن أننا لم نبلغ حتى الدرجة الأولى من التقوى.
أفضل تمرين على عدم التعلق بالدنيا هو شَغْل الذهن بالشهادة وبسيد الشهداء(ع)
- كيف كان الإحساس بالمِلكية يتبدد عند المجاهدين في جبهات القتال؟ طالعوا وصاياهم. كتب أحدهم في وصيته: "أبي، أمي، الدنيا لا قيمة لها! لا تتعلّقا بها!" هذا ونحن لا نملك دنيًا. فالدنيا لا تستحق أن يتعلق المرء بها حتى لأولئك الذين يملكونها. فما بالنا نحن الذين لا نملكها! لماذا نحن متعلقون بها؟!
- البعض لا دنيا له، لكن تراه متشبّث بها أيما تشبث، وأمثال هؤلاء مخلوقات مخيفة جدًّا. والبعض الآخر أقبلَتْ عليه الدنيا وهو ذائب فيها تمامًا. أمثال هؤلاء أيضًا تُعَساء مع الأسف. فإنْ أراد المرء اجتثاث الدنيا من قلبه فيجب عليه أن يشاهد عن كثب أولئك الذين اجتثّوها من قلوبهم، ونبَذوا الشعور بالمِلكية بعيدًا، ولا يجمعون المال، وهم من أعماق قلوبهم لا يسعَون للاحتفاظ بما يملكون. ليس إنهم لا يملكون شيئًا، فنحن لا نعارض الثروة؛ فقد يكون الرجل موسِرًا وصالحًا في الوقت ذاته، ليس متعلّقًا بالدنيا قيدَ شَعرة، ويُنجز بأمواله أعمالًا جَمّة.
- علينا أن نتمرس على عدم التعلق بالدنيا، وأفضل تمرين في هذا الميدان هو أن تشغل ذهنك بالشهادة، وتتردّد كثيرًا على سيد الشهداء(ع)، وتُكثِر من قراءة المراثي له. فقراءة المراثي هذه أمر عجيب للغاية! لقد تشرّدت العقيلة زينب(س) بعد استشهاد أخيها أبي عبد الله الحسين(ع) من خَرِبة إلى خربة. إلهي، ألا تدَعُها - في أسوأ ساعاتٍ يمكن أن تمُرّ على بشر؛ أي بعد استشهاد كل أحبّائها - تنزوي في ركن قَصِيّ فتنتحب! يا رب، وكأنك لا تريد إنهاء الأمر! لقد ضحَّت بكل أحبّتها، أَوَيتحتّم عليها فوق ذلك أن تبذل كل ما تملك، بشتى الصور، في سبيل الله؟! هذه المراثي والمآتم هي أروع دروس لنا في البذل والعطاء. كم نادى ذوو الشهداء عند جثامين أحبتهم: "فداء لرأس السيدة زينب!" يا زينب، لقد تمسكنا بك...
- اِرمِ بطَرفِك إلى سيد الشهداء(ع)، هذا هو الدرس الذي علينا استقاؤه من محرم والمآتم. لا بد أن يحصل في مجالس عزاء أبي عبد الله الحسين(ع) أعظم أشكال الإنفاق والمواساة. لا بد لأسوأ أنواع الكروب والمآسي التي يعيشها المؤمنون المحرومون أن تُفَرَّج في شهر مُحرّم. فهذا الشهر هو شهر البذل والعطاء.
حين يريد الحسين(ع) قطعَ تعلّق امرئٍ بالدنيا فإنه يحدّثه عن نبي قطيع الرأس!
- ما الإحساس الذي يجب أن يجتاحك حين تجد نفسك في العشرة الأولى من المحرم في أجواء أبي عبد الله الحسين(ع)؟ إنه إحساس أنّ علينا أن نستلهم من الشهادة هذا الدرس، وهو: " أنّ علينا قطع تعلّقنا بالدنيا"، وهو الأسلوب الذي انتهجه أبو عبد الله(ع) نفسُه.
- بحسب ما ينقله مقتل أبي مِخنَف فإنه لما عزم أبو عبد الله الحسين(ع) على الرحيل جاءه عبد الله بن عمر وحذره من الذهاب، فوعظه الإمام الحسين(ع) من أنه لا قيمة لهذه الدنيا؛ فهي الدنيا ذاتها التي كان بنو إسرائيل فيها يذبحون أنبياءهم صباحًا ثم ينشغلون بأعمالهم وممارسة حياتهم العادية نهارًا، ودعاه هو أيضًا إلى نصرته؛ «...ثُمَّ جاءَ عَبدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ فَأَشارَ عَلَيهِ بِصُلحِ أَهلِ الضَّلالِ وَحَذَّرَهُ مِنَ القَتلِ وَالقِتالِ. فَقالَ(ع): يا أَبا عَبدِ الرَّحمٰنِ، أَمَا عَلِمتَ أَنَّ مِن هَوانِ الدُّنيا عَلَى اللهِ تَعالى أَنَّ رَأْسَ يَحيَى بْنِ زَكَرِيَّا أُهدِيَ إِلَى بَغِيٍّ مِن بَغايا بَني إِسرائيلَ؟! أَما تَعلَمُ أَنَّ بَني إِسرائيلَ كانُوا يَقتُلُونَ مَا بَينَ طُلُوعِ الفَجرِ إِلى طُلُوعِ الشَّمسِ سَبعينَ نَبِيًّا ثُمَّ يَجلِسونَ في أَسواقِهِم يَبيعونَ وَيَشتَرونَ كَأَنْ لَم يَصنَعوا شَيئًا... اتَّقِ اللهَ يا أَبا عَبدِ الرَّحمٰنِ وَلا تَدَعْ نُصرَتي» (بحار الأنوار/ ج44/ ص365). فحين يود الحسين(ع) أن ينتزع حب الدنيا من قلب امرئ يحدّثه عن نبي قطيع الرأس! ما الذي ينبغي للشهادة أن تصنع بقلوبنا؟!
بوسع عزاء سيد الشهداء(ع) أن يقطع تعلقاتنا بالدنيا
- حين بلغ الإمامَ الحسين(ع) خبرُ مقتل مسلم بن عقيل ظل الجميع يترقب ما سيقوله(ع)، وهل سيواصل المسير أو يعود؟ لاحظ عبارة الإمام الحسين(ع) هنا: «لا خَيرَ في العَيشِ بَعدَ هٰؤُلاء» (الإرشاد للشيخ المفيد/ ج2/ ص75)؛ أي: إنني، الحسين، قد قطعتُ تعلقي بالدينا بعد سماع خبر شهادة مسلم بن عقيل! على أن الإمام(ع) دائمًا مقطوع التعلق بالدنيا ولم يتشبّث بها يومًا، لكنه يعلّمنا أن: متى ما سمعتم خبر استشهاد شخص كونوا هكذا.
- ماذا قال الإمام الحسين(ع) بعد شهادة ولَده علي الأكبر؟ قال: «عَلَى الدُّنيا بَعدَكَ العَفا» (مناقب آل أبي طالب(ع)/ ج4/ ص109). بل إن المرء ليكره البقاء في مثل هذه اللحظات. هذا هو أثر الشهادة. أتصلُح الدنيا التي يُمطَر فيها علي الأكبر بالنبال للإقامة؟!
- شهادة أبي عبد الله الحسين(ع) والمراثي التي تُتلى علينا بهذه المناسبة لا تحتاج معها إلى دروس أخلاق، فالعزاء وحده كافٍ، ويتعين أن ينتزع قلوبَنا من الدنيا، الدنيا التي لم تحتفظ بأعز ما يملك الحسين(ع)، وهو ولده علي الأكبر(س)، لحظة واحدة. ساعةَ توجَّه علي الأكبر إلى ميدان القتال وحين استأذن أباه في القتال أَذِنَ له الحسين(ع) دون أي تردد: "اِمضِ عزيز قلبي!" كي لا يُفهَم أنه: "من الصعب عليَّ بعض الشيء أن أضحي بأعزِّ ما أملك، كلا، أبدًا....".