أهم ما يحُول دون سقوط الإنسان وهلاك المجتمع (المحاضرة7)
لا يمكن إقامة العدل بالقوالب المستوحاة من المجتمع الغربي/ الحضارة الليبرالية مبنية على الإمساك، والحضارة الإسلامية قائمة على الإنفاق
الهويّة:
- الزمان: 06/محرم الحرام/1442 - 26/آب/2020
- الموضوع: أهم ما يحُول دون سقوط الإنسان وهلاك المجتمع
- المكان: طهران، موكب "ميثاق با شهدا" (العهد مع الشهداء)
- الصوت:(25MB) تنزیل
- A4|A5 :pdf
يتاجر الله معنا لنكتسب قابلية أَخْذ "كل شيء"
- لقد خلَقَنا الله جميعًا وفينا صفة المطالبة بـ"كُل شيء". ولا شك أنه تعالى لا يقصد إيذاءنا، وليس هو بمُهمِل لنا ولم يكن كذلك؛ فلو كان مُهمِلًا لنا لما خلَقَنا أساسًا. ولقد كان مُحِبًّا لنا، نحن عبادَه، قبل أن يخلُقَنا، واستمر حبه لنا بعد خلقنا حتى أودع في كياننا كل هذه القابليات المتميزة وأسْلَمَ كل أوليائه هؤلاء إلى مصارعهم في سبيل هدايتنا والأخذ بأيدينا. فواقعة عاشوراء هي علامة على ذروة حب الله تعالى لنا. العلامة الثانية على قمة محبة الله سبحانه لنا هي طول غيبة صاحب العصر والزمان(عج)؛ وهو أن يتجرع(ع) كل هذه الآلام ليهدينا من وراء حجب الغَيبة ويوصلنا إلى المستوى المنشود.
- لقد خلَقَنا الله عز وجل نريد كلَّ شيء، وهو سيمنحنا كل ما نريد؛ فليس الله ببخيل، إنه وَهّاب مِعطاء، بل إنه ما أصبح إلٰهًا إلا لكي يُعطي ويهب. بل إنه إذا تاجر معنا لا ينفك يُهيل علينا الأرباح ويعطينا من طَرَف واحد. فالله تعالى ليس بتاجر، نحن هم التجار.. إنه نحن الذين يُفترَض أن نربح في تجارتنا مع الله تبارك وتعالى. الله مُحبّ، مُحبّ يريد أن يمنحنا أشياء، مُحِبّ يحاول أن يُمَتِّعنا بلذات عالم الوجود كلها. كل ما في الأمر أنه يترقب أن نكسب نحن قابلية التمتع بها. فهو عز وجل لم يوجِد هذه التجارة بدافع بُخله وعلى خلفية أنه لم يشأ إعطاءنا كل شيء بالمجان، بل إنها لكي تكتسب أنت، بواسطة هذه التجارة، قابلية الحصول على كل شيء. فالرضيع لا يستطيع تناول طعام الكبار، وإن الأم تراقب نُمُوَّ طفلها لحظة بلحظة؛ تقول فَرِحة: تمكّنتُ اليوم من أن أُطعِمَه بعض الطعام! أو، مثلًا: أصبحتُ أُطَرّي البسكويت بالحليب وأطعمه إياه. فإذا جلس الطفل على المائدة وتناول الملعقة بيده وصار يأكل بمفرده، تطير أمُّهُ فرحًا؛ فلقد قاست المشَقّات والمتاعب لكي يصل ولَدُها إلى هذه المرحلة.
باختيارنا نكتسب قابلية أن يعطينا الله كل شيء
- إنما خلَقَنا الله تعالى لأنه يحبنا، ليس ثمة أي علة أخرى لخَلْقنا. وقد خلقَنا نريد كل شيء، لأنه يحبنا. ولقد هيأ لنا أسباب التجارة والامتحان والاختيار لكي نكتسب، عبر اجتيازنا الامتحان بنجاح، القابلية والاستعداد والقوة لأن يعطينا هو كل شيء، فنشرب، ونأكل، وننظر، ونلبس، و..الخ. إنه تعالى يريد أن يعطينا كل شيء، ويُصِرّ على ذلك كل إصرار. فلأنه يحبنا يود أن يمنحنا كل شيء. العاطفيون فقط هم الذين يستوعبون هذه الأمور، فإن القاسي – الذي لا يحب أحدًا قط – لا يمكنه أن يدرك أن الله تعالى يحبه! يقول: من أجل ماذا يحبني الله؟! ما الذي يحبه فِيَّ؟!
- الله عز وجل يعشق البشر. يقول لنفسه حين يخلق الإنسان: «فَتَبَارَكَ اللهُ أَحسَنُ الخَالِقِينَ» (المؤمنون/14). يخاطبه: "لقد خلقتك في قمة الجمال. انظر إلى الكائنات. إنك أفضلُ منها. إن عالم الوجود جانب صغير من وجودك، الجزء الأعظم من براعتي خصَّصْتُه لخِلقَتك". لكن لماذا أقحمَنا الله في هذا الضيق إن كان يحبنا؟! لأنه علينا نحن أن نكتسب القابلية لتلقي كل شيء. الملائكة والحيوانات ليس باستطاعتها تلقي كل شيء لأنها لا تختار.. لأنها ليست حرة وهي عاجزة عن الكد لاكتساب استحقاقها، أما نحن فباستطاعتنا ذلك. لقد هيّأ الله عز وجل لنا مجال الكَدّ والكَدْح، ومجال الكدح هو الامتحان نفسه، ومجال الامتحان هو الاختيار ذاته. وإن واحدة من هذه "الكل شيء" التي يريد الله مَنحَنا إيّاها هي أن نحب أن نكون مختارين، وغيرَ مُجبَرين.. أن نكون مُبدعين، وأن نكون المقررين.
- وحين تَقرَّرَ أن يكون الإنسان مختارًا تَوَجَّب عليه أن يختار بين شيئين يحبهما؛ أن يفرِّط بأحدهما ويحتفظ بالآخر ليتحقق الاختيار. فإن المرء لا يختار بين الكباب والحصى أيهما يأكل، فليس ثمة هنا خياران للأكل، بل هو خيار واحد لا غير. فإنما يكون للاختيار معنًى حين يكون بين الكباب الحرام والخبز اليابس الحلال. إنه لا يكون لاختيارك معنًى إلا إذا اقترن بترك شيء محبوب، وهذا يعني أن تُعاني. وإنما بأشكال الاختيار هذه تتولَّد عندنا الأهلية لكي يعطينا الله كل شيء. لا تنسَ أبدًا أن الله تعالى يحبنا، ولو نسيَ المرءُ هذا هلَك. لا تنسَ أبدًا أن الله عز وجل إنما هيأ لك أسباب الاختيار لأنه يحبك ويرغب في منحك الحد الأقصى من الأشياء. لا تنسَ على الإطلاق أنك تستحق كل شيء، لا أفضل الأشياء فقط. لا تنسَ أبدًا أن الاختيار مقرون بالمعاناة، ولا تخشَ المعاناة! هذه هي المقدمة الأولى لبحثنا.
الذي يجعل الإنسان يسقط هو "الشُحُّ والإمساك"
- المقدمة الثانية هي: ما الذي يحصل فيسقط الإنسان؟ اجتَز اختباراتك بنجاح وامضِ قُدُمًا. ألم تلعب إلى الآن ألعاب الحاسوب؟ إنك تنتقل، هكذا، من مرحلة إلى أخرى حتى تبلغ مستوًى أعلى، ثم تختار مرحلة أصعب. المراحل السهلة غير ممتعة لك. وإنما صُمِّمتْ ألعابُ الحاسوب لتحاكي حياتَنا. حذارِ من أن تخسر في لعبة الحياة!
- ما الذي يحصل للإنسان فيخسر؟ هذا الإنسان نفسُه الذي يريد كل شيء، والذي لا يعتريه أي عيب أو سوء؛ «وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا» (الشمس/7)، الإنسان الذي خُلق في قمة الجمال، ما هو الشيء الذي لا يُتقنه؟ لماذا يسقط؟ هذا الإنسان نفسُه الذي يريد الحصول على كل شيء يغفل عن قضية "الاختيار"، و"معاناة الاختيار"، و"ضرورة التنازل عن بعض محبوباته لينال محبوبات أكثر"، يود لو يحتفظ بالأشياء التي سبق أن امتلكها، يريد أن يكتنز، ولذا تراه لا يُقبِل على الاتّجارِ مع الله تعالى. اِتَّجِرْ يا هذا! فالله يقول: "أنا نفسي سأشتري منك، تاجِرْ معي". فيجيب الإنسان: "كلا، لن أُنفق!" وهذا هو سبب سقوطه؛ إنه "الشُحُّ والإمساك".
- علينا أن نتمرَّسَ على الإنفاق منذ أيام المدرسة، وعلى المدارس التي ترغب في تربية المراهقين تربية صالحة أن تعلِّمهم الإنفاق والبذل. بل هناك توصية للوالدين إذا رغبا في التصدُّق أن يضعا الصدقة بيد طفلهما فيدفعها هو إلى الفقير، ليتعلّم البذل. من الجميل أن تتصدّق يوميًّا مرّةً في الصباح ومرّةً في المساء. فإن كنتَ تتصدَّقُ في الشهر ألف تومان مثلًا، فلا حاجة لأن تعطي ألف تومان، بل تصدّق بتومان واحد صباحًا وتومان واحد مساءً. كم سيكون المجموع؟ سيكون ستين تومانًا. هذا أفضل! فلربما ترك عددُ مرّات الإنفاق أثرًا عليك لكي يَسهُل عليك البذل والعطاء. فإن مأساة الإنسان تكمن في جَمْعِه المال.
إن كنا موطِّئين للظهور فلا بد أن ننظر إلى المواساة نظرة حضارية
- لقد تخيَّل البعضُ أنني أخوض في بحث أخلاقي، بل ذهب البعض الآخر إلى أنني أُفرِغُ الدينَ من السياسة! لكنني سبق أن أكّدتُ أنكم لو شاهدتم درسًا في الأخلاق أو في العقائد لم يأخذ الجانب السياسي بنظر الاعتبار فلا تحضروه أصلًا لئّلا تنحرفوا. فلماذا أتكلّم الآن على البذل والعطاء؟ إننا نسعى إلى إرساء حضارة، حضارة مبنية على البذل. الحضارةُ الغربيةُ الآيِلَةُ للسقوط قائمة على جمع الأموال، وإن غاية قوانين هذه الحضارة قاطبة هي تسهيل عملية الجمع هذه. فما الذي نسعى إليه نحن؟ إن أغلب القوانين المُشَرَّعة في بلدنا أيضًا – وهو البلد الإسلامي – هي لتسهيل جمع الأموال. وهذه هي آثار الحضارة الغربية في هَيكَلِيّاتِنا.
- إننا لو نظرنا نظرة متفحصة لرأينا أن المواساةَ تُؤسِّسُ لحضارة. وكأنّ المطلوب منا على أعتاب الظهور هو المواساة، وإلا لن نستطيع اجتياز هذه المرحلة بسلام. لماذا؟ لأن الحضارة المهدوية لا تقوم على الشُحّ، والبُخل، وعلى جمع الأموال، والاحتفاظ بالممتلكات. فإن هذه الأمور هي التي أورثت البشريّةَ التعاسَةَ والشقاء! وقد قرأنا معًا الحديث القائل: «حَرامٌ عَلَى الجَنَّةِ أنْ يَدخُلَها شَحيح» (من لا يحضره الفقيه/ ج2/ ص64). وعلى المنوال ذاته فإنه حرام على الجنة المهدوية أن يدخُلَها الشخص أو المجتمع البخيل أو الثقافة التي تدعو إلى البخل.
- إنْ كُنّا مُوَطِّئين للظهور فلا بد أن ننظر إلى المواساة نظرة حضارية، وذلك في مقابل الحضارة الغربية المتهرِّئة المتعَفِّنة الآيِلة إلى الاضمحلال. فلقد جاءت الحضارة الغربية لتُقِرّ جمع المال قائلة: فلنشرّع القوانين التي تَحُول دون نزاع الناس أثناء جمع المال. الحضارة الشرقية التي انهارت قدّمَتْ حلًّا لجمع المال، وقدَّمَت الحضارة الغربية أيضًا حلًّا آخر. فما هو الحل الذي قدّمَتْه الحضارة الإسلامية العُظمى؟ الجزء الأول من الحل هو: اُبسُطْ يدَك ولا تقع في حبائل التحفظ وإلا شقيتَ وسقطت.
حين يحتفظ المرء بما يحب يتحول تدريجيًّا إلى ظالم أو عبد للظلَمة
- الأمة التي لا ترى جمع المال والاحتفاظ بالممتلكات وعدم البذل قبيحًا ستفنى. تساءلوا أنتم، في أي المَواطِن أقرَّ مجتمعُنا، بكل وقاحة، هذه الأنماط من جمع المال وعدم البذل؟ ما الذي يحصل فيسقط الناس؟ ما الذي يؤدي إلى فناء المجتمع البشري؟ إنه حين يواجهون ما واجهه سيدنا آدم(ع) أبو البشر من امتحان وهو أن يحتفظ لنفسه بما يملك.
- ولماذا امتحن الله تعالى آدم(ع)؟ لأن إحدى مطالبات آدم الجميلة هي أنه أراد أن يكون مختارًا. فمَن يا ترى لا يريد أن يكون مختارًا، ويريد أن يحيا كالخِراف؟! إنك حين صرتَ مختارًا تحتَّمَ عليك أن تختار بين شيئين تحبهما، أي أن تفرّط بأحدهما. وتكمن المشكلة في أن الإنسان عادةً ما لا يبذل، لا يعطي ما في يده. فماذا يحصل حين يحتفظ بمحبوباته؟ يحصل أنه إما أن يصبح – تدريجيًّا – ظالِمًا ويحاول سلب الآخرين ما يملكون أيضًا، أو يكون عبدًا للظلَمة. فليس الظَلَمةُ وحدَهم سيئين، بل إن عبيدَهم أسوأُ منهم؛ فإنهم الممهّدون للظُلم، والذين لا يسمحون ببسط العدالة.
- إذن فإننا نتحدث عن صفة أخلاقية إنسانية. بل يمكنك القول: إننا نخوض في رسالة دينية رصينة لها طابع استراتيجي لمجتمعنا. بل إن الموضوع أهم من هذا كله، إذ يُعَد هذا الكلام اليوم، سواءٌ بالنسبة إلى مجتمعنا أو المجتمع البشري عمومًا، كلامًا استراتيجيًّا لتجاوز الحضارة الغربية الآيِلة هي إلى السقوط؛ يقول تعالى: «إِنَّ البَاطِلَ كانَ زَهُوقًا» (الإسراء/81). فلماذا نرى أراذل القوم وسِفلتهم هم مَن يحكم الولايات المتحدة دائمًا؟ انظروا إلى الدعاية التي كان قد أطلقها الرئيس الأمريكي الحالي (ترامب) نفسه! لقد أصبح هو الآن رئيس الولايات المتحدة، أي وَجْهَها أمام العالم. لماذا رؤساء الولايات المتحدة هم أعتَى المجرمين، لكن بلباس أنيق؟ لأنهم قد أقروا في مجتمعهم الاحتفاظ بالأموال والممتلكات ولم يروه قبيحًا. وحين تؤول الأمور إلى هذا المآل سيمتطيك كل صاحب ثروة أكبر.
من المتعذر إقامة العدل بالقوالب المستوحاة من المجتمع الغربي/ لن تكون ثمة عدالة دونما تقوى وإنفاق
- القانون في الحضارة الغربية إنما يشرَّع لبسط النظام في مجتمع متوحش يتنازع أفراده من أجل البقاء، وإن من المستحيل بسط العدل في مجتمع كهذا. فالعدالة هي مؤشّر، وتعني أن يستقر كل شيء في موضعه. فماذا عسانا نفعل لكي يستقر كل شيء في موضعه؟ العدالة نفسها لا تستطيع الإجابة على هذا السؤال. الذي يجيب على هذا السؤال هو التقوى والإنفاق؛ فمن دون التقوى والإنفاق لن يكون ثمة عدل أيضًا.
- ما الشيء الذي يحُول دون بسط العدالة؟ إنه الإمساك والبخل. وإن مَن يتحدث عن العدالة ولا يتكلم في سبُل تحققها فقد يكون إنسانًا مخادعًا، أو ساذجًا على الأقل. حينما يموت أصلُ قضية المطالبة بالعدالة في المجتمع يتعيّن على المرء المناداة بالعدالة عاليًا، لكن عندما يكون الناس مقتنعين بموضوع العدل يكون على الجميع التوجّه صوبَ "سبُل بسط العدل".
- كيف يمكن أن تتحرك جميع بُنى نظام الحكم باتجاه العدالة؟ أَوَيتسنّى بسط العدالة من خلال هذه البُنى والقوالب المستوحاة من المجتمع الغربي الطافح بأشكال الظلم؟ ما الأشياء التي علينا تغييرها؟ حين نقول "بُنَى" فإننا لا نقصد القوالب الاجتماعية التي يغلب عليها الطابع الثقافي والرُؤيَوي، بل نقصد البُنى التي تسود المجتمع؛ كالنظام الاقتصادي، والنظام المالي والمصرفي، ونظام حقوق الأسرة. أيُّ هذه الأنظمة يقودُنا نحو الشُحّ والبخل؟ أيُّ واحد منها يُقِرّ صفة البخل؟ وأي بُنية تنأى بنا عن البخل وتحارب الشُحّ؟ أيُّ هذه البُنى يأخذ بأيدينا لنكون من أهل الإنفاق والعطاء؟
البخل جامع لكل سوء
- في موضوع الأخلاق الأُسرية، وحين يقع النزاع بين المرأة وزوجها، يسوق الله تعالى في سورة النساء الجملة التالية: «وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ» (النساء/128)؛ أي إن البُخل حاضر دائمًا في نفس الإنسان. مرادُه عز وجل أنه: لماذا تتشاجران أيها الزوجان؟ تصالَحا! فلا هذه تُغضي على حقّها، ولا هذا يتنازل عن حقه، هذه تخشى على ما في حوزتها من الضياع، وهذا يخاف أن يفقد ما يملك. يقول تعالى: إن تتصالَحا فهو أفضل. لكن الله تعالى يتأسف هنا على الإنسان بقوله: "إنّ بخل المرء حاضر دائمًا، فالبشر يتنازعون فيما بينهم بسبب البخل، فلا استعداد لهم للإنفاق والبذل، ولا وجود للتنازل في قاموسهم!"
- روى أحدهم أنه رأى أبا عبد الله الصادق(ع) يطوف من أول الليل إلى الصباح وهو يقول: «اللهُمَّ قِني شُحَّ نَفسي»؛ (أي خلّصني من البخل؛ على أنّ بين الشح والبخل فرقًا سنذكره إن شاء الله) «فقلتُ: جُعلتُ فداك، ما سمعتُك تدعو بغير هذا الدعاء! فقال(ع): وَأَيُّ شَيءٍ أَشَدُّ مِن شُحِّ النَفس، إنَّ اللهَ يقولُ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحون (الحشر/9)» (البرهان في تفسير القرآن/ ج5، ص400).
- وسأقرأ عليكم بضع أحاديث في شُحّ النفس. روي عن الإمام الصادق(ع) قوله: «مَا رَأيتُ شَيئًا هُوَ أَضَرُّ لِدينِ المُسلِمِ مِنَ الشُّحّ» (بحار الأنوار/ ج67/ ص400). ونُقل عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: «إِذا لَم يَكُنْ للهِ في عَبدٍ حَاجَةً ابتَلاهُ بِالبُخل» (الكافي/ ج4/ ص44). أو بعبارة أخرى: متى ما أراد الله أن ينبُذ عبدًا بعيدًا تركَه وحيدًا مع بُخله ولم يُعِنْه على التخلص منه. وعن أمير المؤمنين(ع) أيضًا فيما يتصل بالبخل أنه قال: «البُخلُ جامِعٌ لِمَساوِئ العُيوبِ وَهوَ زِمامٌ يُقادُ بِهِ إِلى كُلِّ سُوء» (نهج البلاغة/ الحكمة378).
سنستعمل للشُحّ والبخل لفظة "الإمساك" ونجعل لكل ألوان البذل والعطاء لفظة "الإنفاق"
- إنني سأجعل للشُحّ والبخل وكل كلمة من هذا القبيل لفظة مشتركة، موجودة في القرآن الكريم أيضًا، وهي "الإمساك". وماذا هنالك في مقابل الشح؟ هنالك الزكاة. ولقد سبق أن أشرتُ إلى أنه، استنادًا إلى العديد من الروايات الواردة في باب الزكاة، يتوجب عليك أن تعطي زكاة كل ما تملك؛ أي أن تنفق شيئًا إزاء كل ما يعطيك الله عز وجل. فإنّ لكل لحظة من لحظات عمرك زكاة، وإن لكل شَعرَة من شعرات بدنك زكاة، بل إن لكل تفصيل في حياتك زكاة. وسأستعمل للمصطلحات من قبيل الزكاة، والصدقة، والقرض الحَسَن، والمواساة، وما إليها لفظة "الإنفاق"، وهي الأخرى مذكورة في القرآن الكريم، وهي تستعمل حتى لبذل النفس في سبيل الله. إذن سنجعل كلمة واحدة للتعبير عن منع البذل والعطاء هي الإمساك، وكلمة واحدة للتعبير عن كل أشكال البذل والعطاء هي الإنفاق.
- ولقد ساق القرآن الكريم تعابير شتى لبيان مظاهر الشُحّ في الإنسان؛ مثلًا يقول تعالى: «إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا» (المعارج/19)، وهذا مَظهَر من مظاهر الشح. ثم يقول: «إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا» (المعارج/20)؛ فإنَّ جزَع الإنسان وفزعه عند البلاء هو مظهر آخر من مظاهر الشح. ثم يقول: «وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا» (المعارج/21)، وهنا تشير كلمة "منوعًا" بصراحة أكبر إلى الشح والبخل.
- ويقول عز وجل أيضًا: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الإِنْسانُ قَتُورًا» (الإسراء/100)؛ أي لو كنتم تملكون هذه الخزائن لأمسكتم أيضًا عن الإنفاق، لما تتصفون به من البخل، وذلك خشية أن يتسبب الإنفاق بفقركم وعوزكم، وإن الإنسان لبخيل.
- وعلى الرغم من أهمية هذا الموضوع الكبرى وما أُولِي من اهتمام كبير من القرآن الكريم والسُنّة الشريفة فإنه لا يحظى بهذا الاهتمام في المجتمع ومناهج التعليم الديني والمدارس. لِمَ عدم الاهتمام هذا؟ ومَن ينبغي أن يهتم به؟ كل من يتعين عليه الاهتمام به تراه هو أيضًا يشكو بعض البخل. فليس الأمر كدرس العقائد إذ يقال لك: "آمِنْ بالله"، فتقول: "حسنٌ، أنا مؤمن بالله"، إذ ليس ثمة من متضرِّر هنا. فما الشيء الذي يعارضه الإيمانُ بالله في الإنسان؟ لا شيء! ولذا تراهم يُثبتون وجودَ الله لك في المدرسة والجامعة مئات المرات! إننا نطالب بمدارس تعلّم الأولاد محاربَة الشُح في نفس الإنسان. إننا بحاجة إلى عمل تربوي. وليس هناك أيما فرق بين العمل التربوي وبين تلك البُنى والهيكليات السياسية والحضارية القائمة في المجتمع؛ كلاهما واحد.
الحضارة الماركسية والليبرالية قائمة على الإمساك، والحضارة الإسلامية مبنية على الإنفاق
- إننا نسير باتجاه الحضارة الإسلامية، وإن الحضارة الإسلامية الأصيلة هي تلك التي لا تُبنى قوانينُها على أُسُس من الحرص والمنع والبخل والشح. ما الذي يجعل الحضارة الغربية توشك على الانهيار؟ ولماذا تكاد هذه الحضارة تَفنَى وهي التي بدت في بادئ الأمر في منتهى الروعة؟ وما الذي جعل الحضارة الماركسية الشرقية تنهار؟ نعم، ما تزال أطلالُها في الصين الآن، لكننا نرفض حتى هذه الأطلال؛ أي إننا لسنا على استعداد للتشبُّه بالصين لمجرد أن نتقدم اقتصاديًّا، بل إن هذا خطأ أيضًا.
- لا الحضارة الماركسية نجحت ولا الحضارة الغربية. لكن ما الذي في جُعبتنا نحن؟ وعلى أي أساس نريد أن نبني قولنا؟ حضارة أولئك قائمة على الإمساك، هذا وإن حاولوا معالجة الأخير عبر وضع حَلَّين خاطئين، أما حضارتنا فمبنية على الإنفاق. السؤال هو، أولًا: كيف بَنَوا هم حضارتَهم على الإمساك حتى آلَتْ الآن للسقوط؟ وثانيًا: كيف لنا أن نشَيّد حضارة على أُسس من الإنفاق لتبقى شامخة ومن ثم تتصل بحضارة الإمام المهدي(عج)، ويرانا(ع) أهلًا لرفقته؟ إن على كل فرد، أينما كان وبمقدار وِسعِه، أن يتمرس على هذا الأمر في حياته الشخصية، وإن على مسؤولي البلد أيضًا أن يتحركوا في هذا الاتجاه فيما يتصل بهيكلَة بُنى المجتمع الحقوقية وتدوين قوانين إدارة الدولة.
يا ليت مستوى الشُح عند الأشخاص قابل للقياس!
- إن لديّ مطالبة، على أنني لا أدري إن كان بالإمكان تنفيذها أو لا؟ على سبيل المثال، مجلس صيانة الدستور لا يصادق على أهلية اللص والقاتل [عند الترشيح للانتخابات] لكنه يوافق على التغريبي الشغوف بالحضارة الغربية والذي يحمل هذا الفكر المتآكل، في حين أن الأخير إذا تولّى المسؤولية يشَلُّ البلدَ شَللًا. أوليس في التغريب وقاحة؟ ماذا تنتظرون من أشخاص كهؤلاء؟ إنهم لا يحسنون سوى التوسل بـ"عُمدة القرية" (أي أمريكا)! أَوَتنتظرون من أمثال هؤلاء بسط العدالة ورعاية المُعدَمين وما إلى ذلك؟! فلو كان الغرب قادرًا على ذلك لحَسَّن أوضاعَه هو!
- ليت مجلس صيانة الدستور أو المسؤولين يقدرون على قياس مستوى شُحّ المرء إذا أرادوا تَولِيتَه منصبًا. فالمرءُ، وإن كان فاضلًا، سيُلَطِّخ فضائله جميعًا إذا كان بخيلًا. وفي وُسعنا أن نَلحَظ في التاريخ أشخاصًا فاضلين قد لطَّخوا فضائلهم بسبب صفة الشح عندهم. كما كان البعض، مثلًا، يستنكر على النبي الأعظم(ص) كثرة بذله وعطائه!
إن الله لا يأخذ من الأم البخيلة طفلها ذا الستة أشهر..
- كان الإمام أمير المؤمنين(ع) يعرف الذين ليس في أنفسهم شُحٌّ حق المعرفة، فقد كانوا أزهارًا في أجوافها جواهر. يُروى أن شيخًا أتى المدينة في أيام الخليفة الثاني يريد أن يدخل الإسلام، وكان الإمام علي(ع) يجلس في زاوية من المسجد غريبًا. فاستفسر الرجل عن كيفية دخول الإسلام، فقيل له أن ينطق الشهادتين، فنطقهما وأسلَم. فسأل عما يجب أن يفعل الآن، فعلّموه تكاليف دينه. وحين هَمّ بالرحيل أشارَ الإمام علي(ع) إلى ولديه الحسنين(ع) بالنهوض للذهاب. كان الإمام(ع) قد لمسَ جوهرة وجود هذا الرجل. فكأنّ أمير المؤمنين(ع) قد دنا من الرجل وسأله إن كان يعرفه فأجاب الرجل بالنفي، إذ إنه ليس من أهل هذه الديار وقد دخل الإسلام للتَوّ. فقال له الإمام علي(ع): «أنا علي بن أبي طالب بن عم النبي(ص) وهذان ابناي من ابنته، وقد رغبنا في صهرك فأنكِحْنا». فكانت البنتُ التي خطبها من الرجل للحسين(ع) هي "الرباب" أُمّ عبد الله الرضيع! «قال: ...وأنكحتُكَ يا حسين الرباب بنت امرئ القيس» (الإصابة لابن حجر العسقلاني/ ج١/ ص٣٥٥).
- لقد ربّى هذا الرجل في بيته بنتًا ليس في وجودها مثقال ذَرّة من بُخل! البنت التي كان من المفترض أن تبذل أعزَّ ما عندها في سبيل الحسين(ع) في أشد لحظات عاشوراء حساسية! فالله عز وجل لا يأخذ من أم بخيلة طفلَها ذا الستة أشهر. انظر من كانت الرباب؟ وما الذي قالته في ذات نفسها؟ إن القرابين لا تُؤخذ من أي أحد...