أهم ما يحُول دون سقوط الإنسان وهلاك المجتمع (المحاضرة4)
سقوط الفرد والمجتمع يبدأ من "الإمساك عن العطاء"/ ما الحكمة من العطاء؟ لماذا يعطينا الله شيئاً ثم يستردّه منا؟
الهويّة:
- الزمان: 03/محرم الحرام/1442 - 23/آب/2020
- الموضوع: أهم ما يحُول دون سقوط الإنسان وهلاك المجتمع
- المكان: طهران، موكب "ميثاق با شهدا" (العهد مع الشهداء)
- الصوت:(27MB) تنزیل
- A4|A5 :pdf
الإنسان "مُريدٌ لكل شيء" ولا يقف عند حد معيّن
الإنسان غير المُطالِب بكل شيء يصبح جنديَّ سُخرَة للقوى الانتهازية
لماذا يصبح كلُّ مَن ليس مع أهل البيت(ع) عدوّاً لهم؟
درس الأخلاق السليم لا يمكن السكوت فيه عن السياسة
متى تحطِّم صفةُ المطالبة بكل شيء صاحبَها؟/ حينما يودّ الاحتفاظ بما يملك!
ما الشيء الذي إن أراد الإنسان الاحتفاظ به هلَك؟ كلّ شيء؛ السُمعة، المال، ..الخ
بداية سقوط الفرد والمجتمع هي "الإمساك عن العطاء"/ لنكن متأهّبين لبذل كل ما نملك في سبيل الله
قد تُسَلّمك خصلةُ الإمساك سيفاً وتقول لك: "اقتُل إمامك"!
سيأخذ الله تعالى منك كل ما تملك، إما بالتكليف أو بالتقدير
ما هي الحكمة من البذل؟/ بل لماذا يعطينا الله شيئاً ثم يعود ليستردّه منا؟!
من لوازم الاختيار العطاء والمعاناة/ المعاناة هي أن يؤخَذ منك ما تحب
الإمام علي(ع) يُطلِع الشباب على المعاناة من خلال رسالة
لماذا المعاناة في الدنيا؟ لأن فيها اختيار
قد تكون المعاناة بسبب الاختيار، وقد تأتي من التقدير الإلهي
بعض معاناة الإنسان ترجع لاختياراته؛ سواء السليمة أو غير السليمة/ الاختيار السليم معاناتُه أقل
غاية بعض الآلام كَبْح تكبر الإنسان
الغرض من بعض البلايا تبديد الخوف من المعاناة
متى يسقط الإنسان؟ يسقط حينما لا يطيق معاناة العطاء
معاناة العطاء تكون أحياناً أشق من معاناة بذل النفس!
- نحن معاشر البشر طالبون للكمال. وطلبُنا هذا للكمال، إن فُسِّر جيداً، يعني: أننا نريد كل شيء، ولا نغُضّ الطرفَ عن كل ما يمنحنا اللذة، ولا نقف عند حد من السلطة، ولا نكتفي بمقدار معيّن من النعمة.. لقد خُلقنا هكذا، ولولا أننا طالبون للّانهاية سنعجز عن عبادة الله تعالى.
- وكما قد أسلفنا في المحاضرات الفائتة فإن الدين هو منهاج لبلوغ هذا الـ"كل شيء" الذي نصبو إليه؛ أي إنه يعرّفنا بالـ"كل شيء" من جهة، ويدلّنا على الطريق للحصول عليه من جهة أخرى، ويقوّينا على بلوغه من جهة ثالثة. فالدين، في النهاية، يُعلّم الإنسان أن كل شيء بالنسبة إليك هو الله، وأنه تعالى سيعطيك كل شيء؛ سيعطيك في هذه الدنيا، وسيعطيك الباقي في الآخرة.
- لكن ما الذي يجعل هذا الإنسان الطالب لكل شيء والمريد للّانهاية يتوقف عن الطلب؟ وهو لا يتوقف عن بلوغ كل شيء فحسب، بل يمسي في خدمة الذين يطالبون بكل شيء على نحو خاطئ؛ أي يعمل سُخرَةً لطلاب السلطة الجبابرة الذين يسعون لنهب الآخرين، وهذا سيّئ ومثير للاشمئزاز جداً. وأمثال هؤلاء سيكونون في نارجهنم مع المجرمين وطلاب السلطة والفراعنة. إنهم ليسوا سيئين فحسب، بل في قمة السوء!
- إن مشكلة الذي يتوقف (عن طلب كل شيء) هي أنه يتحول إلى وسيلة لاستقواء طلاب السلطة الجبابرة الذين يستعبدون البشر! يقول الله تعالى في كتابه العزيز: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين» (البقرة/256)؛ فإن لم تشأ أن تكون ذا دين فلا تكن.. لا بأس.. لا إكراه في الأمر، لكن لماذا تُعِين جبابرة العالم؟ لماذا تموت في سبيلهم؟ إنّ من الجميل أن تُنتَج أفلام عن العهود التي كان فيها البريطانيون الخبثاء يرسلون الجنود الهنود إلى أرجاء العالم المختلفة ليُقتلوا! لا يجوز لقلب أحد أن يحترق ألماً على أولئك الذين يُقتلون في سبيل الجبابرة!
- إن لم يكن المرء مطالباً بكل شيء فسيصبح – شاء أم أبى – جنديَّ سُخرة للظّلَمة المطالبين بكل شيء، وسيكون في خدمتهم حتى وإن لم يخدمهم في الظاهر! فإن قلتُم: "لا نريد أن نطالب بكل شيء، حسبُنا هذه اللُقَيمات التي تسد رمَقنا!" أصبحتم، بالقوة، جنودَ سُخرةٍ للقوى الانتهازية، وسيعوِّل الصهاينة المجرمون على مساعداتكم، ويحبونكم، بل ويولَعون بكم.
- لو أحببتُ أن أكتب لكم مقولة من أمير المؤمنين علي(ع) كتذكار فسأكتب لكم هذه المقولة: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا كَانَ عَلَيْنَا» (الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد/ ج1/ ص303). فالذين قالوا على مر التاريخ: "نحن أقل بكثير من أن نستحق شخصاً كعليّ(ع)، ولا نريد أن نصطبغ بصبغة عليّ إلى هذا الحد" قد آلَ أمرُهم في النهاية إلى أن يُمسوا أعداءه(ع)! وحتى إن لم ينصروا أعداء أهل البيت(ع) واكتفوا بالانزواء جانباً والسكوت، فإنهم مساهمون أيضاً في قتل أهل البيت(ع) أو ظلمهم؛ لأنهم، بسكوتهم، قد أعانوا معسكر الباطل وأعداء أهل البيت(ع).
- إن بعض الذنب وراء فوز مَن لا يتحرّج من الاستسلام للقوى الكبرى في الانتخابات هو ذنب الحوزة العلمية؛ فلو أنها عرّفَت الناس بالدين بشكل جيد، أو أن أنظمة التربية والتعليم ووسائل الإعلام العامة قد قدّمَت الدين إلى الناس على نحو سليم لعَرف الناس أن الذي لا يتورّع من الاستسلام للقوى الكبرى لا بد وأن يكون خطراً على أرواح الناس، وعلى الأمن، وعلى المصالح الوطنية.
- الإنسان مريد لكل شيء، والويل له إن تخلّى عن هذه الصفة، وإلا سيصبح عبداً لجَشِعي العالم الذين يريدون الاستحواذ على كل شيء ولَسَيطروا عليه. وإن تخلّى المرء عن صفته في إرادة كل شيء فسيسقط. فما الذي يقيه من هذا السقوط؟ ليت بالإمكان إعطاء درس في الأخلاق دون الحديث فيه عن السياسة! لكن هذا مستحيل! وهو بالضبط كقولك: «لا إِله» دون أن تقول: «إلا الله».
- أقل درس في الأخلاق هو أن تقول: "كُن صالحاً وإلّا صرتَ عبداً لذئاب العالم! كُن إنساناً صالحاً، ولا تكن جنديَّ سُخرةٍ للطواغيت والصهاينة قَتَلة البشر والأطفال!" هذه جملة كاملة مفيدة. فلا يمكن أن يخلو درس الأخلاق الجيد من السياسة. فالقرآن أيضاً يتكلم في السياسة: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» (النحل/36)؛ كلاهما معاً.
- فليكن في بالكم أيها الشباب الأعزاء أن لو شاهدتُم في التلفزيون أو حضرتم في المسجد أو أي مكان آخر درسَ أخلاق يقول: «أَنِ اعْبُدُوا اللهَ» ولا يقول: «وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ»؛ أي يقول: "كن إنساناً طيباً" ولا يقول: "لا تكن عبداً للطواغيت" فلا تُنصتوا إليه لأنه يَحرفُكم، ويُفسد أذهانكم شيئاً فشيئاً، حتى وإن تُليَت على مسامعكم فيه آية قرآنية أو نُقِل فيه حديث شريف. لماذا؟ لأنه يقرأ الآية ناقصة، ولذا فإنه سيترك عليكم، تدريجياً، أثراً سلبياً. عبارة: "كُن صالحاً" لوحدها ستجعلك عبداً للطالحين والأشدّ طلاحاً في العالم، ستصير عبداً لهم لإراقة دماء الآخرين ولتُقتل في سبيلهم!
- الإنسان طالبٌ لكل شيء. لكنه يتوقف عن طلبه هذا للكمال وإرادته لكل شيء، وحينها يصبح عبداً للجشعين الجبابرة الذين يريدون الاستحواذ على كل شيء!
- النقطة التي يتوقف الإنسان فيها عن المطالبة بكل شيء هي عندما يحاول، بسبب هذه الصفة، الاحتفاظ بما يملك. وإنّ ساعة الصفر لسقوطه هي قوله: "إنني أريد كل شيء؛ فلأحتفظ حالياً بهذه الأشياء إلى أن أحصل على الباقي!" وهكذا بالضبط هبطَ نبي الله آدم(ع)؛ إذ قال له الشيطان: "إن ما تملكه في قمة الروعة، أتريد الاحتفاظ به؟" فقال: "أجل"، فكان في هذا شقاؤه! ولقد بكى وتضرّعَ أعواماً حتى قُبلتْ توبتُه.
- من الجميل جداً أن يريد الإنسان كل شيء، وإن الطريق السليمة لتلبية رغبته هذه هي الطموح باللانهاية، وهو الله تعالى. ولقد جاء الأنبياء ليدلوك على الطريق السليمة لذلك. لكن في وسع هذه الرغبة في كل شيء أن تذيقك التعاسة؛ وهو عندما تحاول الاحتفاظ بما تملك والإمساك عن بذله. هذا تحديداً هو ما يُشقيك! فإنك تَهلَك إذا قلتَ: "لا أريد أن أفقد هذه الأشياء"ْ.
- من الناحية النفسية متى ما رأيتَ أنك تملك شيئاً هلكتَ! وهذا هو العُجْب! والعُجْب هو على درجة من السوء بحيث إنك لو كنتَ مذنباً لكان أفضل من أن تتصف بالعُجب؛ ففي الخبر: «إِنَّ اللهَ عَلِمَ أَنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْعُجْبِ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا ابْتُلِيَ مُؤْمِنٌ بِذَنْبٍ أَبَداً» (الكافي/ ج2/ ص313). فما الشيء الذي إن أراد الإنسان الاحتفاظ به هلَك؟ كلّ شيء! فإن أُعطيتَ مالاً واحتفظتَ به؛ فلم تدفع زكاته، وأمسكتَ عن الإنفاق منه، ولم تتصدق به، فستهلك! وإن لم تبذل ما مُنحتَ من سُمعةٍ فستهلك! فأحياناً يتحتّم عليك أن تبذل سُمعتَك لإنقاذ مؤمن، فإن لم تبذلها فستلفَح وجهَك حرارةُ النار يوم القيامة فتشتوي بها حتى وإن كنتَ من أهل الجنة! هذا ناهيك عن الذلة التي سيُذيقها اللهُ المرءَ في الدنيا. ولقد وبّخَ أبو عبد الله الحسين(ع) وُجهاء المدينة قبل اندلاع ملحمة كربلاء على عدم بذلهم سمعتَهم ووجاهتَهم! «ثُمَّ أَنْتُمْ أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ؛ عِصَابَةٌ بِالْعِلْمِ مَشْهُورَةٌ، وَبِالْخَيْرِ مَذْكُورَةٌ، وَبِالنَّصِيحَةِ مَعْرُوفَةٌ، وَبِاللهِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ مَهَابَةٌ؛ يَهَابُكُمُ الشَّرِيفُ، وَيُكْرِمُكُمُ الضَّعِيفُ... تَشْفَعُونَ فِي الْحَوَائِجِ إِذَا امْتَنَعَتْ مِنْ طُلَّابِهَا، وَتَمْشُونَ فِي الطَّرِيقِ بِهَيْبَةِ الْمُلُوكِ وَكَرَامَةِ الْأَكَابِر... فَلَا مَالاً بَذَلْتُمُوهُ، وَلَا نَفْساً خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا، وَلَا عَشِيرَةً عَادَيْتُمُوهَا فِي ذَاتِ الله..» (تحف العقول/ ص237ـ238).
- ما الذي يحصل للإنسان فيسقط، ويُمسك عن العطاء؟ إنك إنْ خشيتَ أن تفقد ما تملك فعليك السلام!
- إني أستشعر خطراً وأريد أن أخبركم به. وقلقي هذا يرتبط بامتحان من تلك الامتحانات التي فشل فيها آدم(ع) في الجنة! ولا أدري إن كنتم قادرين على اجتياز هذا الامتحان أم لا؟ أنا، بالطبع، متيقّن من أن معظمكم مستعد لبذل النفس في سبيل الله، لكن القلق والخطر الذي أتحدث عنه أعظم من هذا بكثير! فقد جاء في الخبر أن لكل ما تملكون زكاة؛ «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاة» (الكافي/ ج4/ ص62)، وعليكم بذل جزء منه، أي لا بد لكم من العطاء.
- "العطاء" صعب، وإن الإمساك عنه هو ساعة الصفر لسقوط الإنسان والمجتمع. فلقد روي عن الإمام الصادق(ع) أن هلاك الأمة بمنعها الزكاة: «مَا فَرَضَ اللهُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ شَيْئاً أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ وَفِيهَا تَهْلِكُ عَامَّتُهُم» (الكافي/ ج3/ ص497).
- وسقوط الفرد هو الآخر يكون بسبب أنواع "الإمساك"، وإنّ أحد أنواع الإمساك كان قد أَهبطَ آدمَ(ع) من الجنة! أتريد أنت أيضاً أن تُخدع بأن لا تفرّط بما تملك؟! لقد اغترّ نبي الله آدم(ع) بإبليس! والله تعالى كان قد أخبره بأن "الشيطان عدُوّ لك!" وآدم(ع) لم يكن مثلنا؛ فلقد كان في وضعٍ جيد من ناحية، وقد أُخبِر بشفافية عن كل ما يتصل بعداء إبليس له من ناحية أخرى، ثم إنه قد عُلِّمَ «الأسْمَاءَ كُلَّهَا» (البقرة/31) من ناحية ثالثة؛ أي أنه عُلِّم كل شيء. أما أنا وأنت ففي غاية الضعف مقارنةً بآدم(ع)!
- أتريد الإبقاء على ممتلكاتك؟! إنك إن قلقتَ على ما تملك هلكتَ! وإن ظننتَ أنك تملك شيئاً (فساورَك العُجب) تحطّمتَ! وإن اغتررتَ بما عندك فنَيت، وإذا رغبتَ في الاحتفاظ بها هلكتَ! فماذا عسايَ أصنع إذاً؟! عليك أن تتأهّب لبذلها جميعاً في سبيل الله.. أن تتهيأ للقول: "إن لي ربّاً، وهو يعطيني ما يشاء متى يشاء، أنا لم أعُد قلقاً على فقدان شيء". بالطبع إن قول مثل هذا الكلام صعب. نعم حينما يكون المرءُ خالي الوفاض فمن السهل عليه قول هذا، لكنه حينما يمتلك شيئاً سيصعب عليه العطاء. وهذا من الامتحانات التي فشل فيها آدم(ع) وهو في الجنة! فماذا عسانا نحن نصنع في هذه الدنيا؟!
- قد تظنون، أيها الشباب، أن محاربة خصلة الإمساك هذه سهلة. ولو كان الأمر كذلك فلماذا كان أمير المؤمنين(ع) يضج بالبكاء كل ذاك الضجيج؟! ولماذا كان لونُ الزهراء(س) يتغيّر ساعة الصلاة؟! ما كان السبب وراء قلقهما كل هذا القلق؟
- إن خصلة الإمساك هذه هي من الخطورة ما قد يجرّد فؤادَك من حبك لأهل البيت(ع)! وقد لا تقوى هذه الخصلة على تجريد قلبك من الحب، بل تُسَلّمك سيفاً وتقول لك: "هيّا اقتُل إمامك!" هكذا كان شعور أهل الكوفة تجاه الإمام الحسين(ع)! كانوا: «قُلُوبُهُمْ مَعَكَ وَسُيُوفُهُمْ عَلَيْك» (دلائل الإمامة/ ص182).
- دخل رجل على الإمام الصادق(ع) «فَقَالَ(ع) لَهُ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: مِنْ مُحِبِّيكُمْ وَمَوَالِيكُم»، ولم يقل: من شيعتكم، كي يقول له الإمام(ع): لكنك لست من شيعتنا! فمقام الشيعي أعلى من هذا، بل قال: من محبيكم. فقال له(ع): «مِنْ أَيِّ مُحِبِّينَا أَنْت؟ فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ سَدِيرٌ: وَكَمْ مُحِبُّوكُمْ يَا ابْنَ رَسُولِ الله؟ فَقَالَ(ع): عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَات...» (تحف العقول/ ص325).
- ما الذي يحصل للإنسان المريد لكل شيء فيسقط؟ إنه يسقط حين يُعطَى القليل فيغتَرّ به، أو لا يعطي زكاته، أو يقلق بشأنه. يقول الإمام علي(ع): «زَكَاةُ الْعِلْمِ نَشْرُه» (غرر الحكم/ ص390)؛ فانقُل ما تعلّمتَه للآخرين، لأنك إن احتفظتَ به لنفسك فستُصاب - رويداً رويداً - بالحُمق، ويذهب علمُك. فما من شيء تحصل عليه حتى تُسلَب شيئاً آخر بسرعة.
- الليلة سأجيب على السؤال الذي طرحتُه في الليلة الماضية: ما هي منزلة البذل والعطاء في الدين؟ ما هي الخطة الإلهية وراءَ عملية الأخذ هذه؟ إنك حتى إن لم تكن ذا دين فإن الله سيسترد منك كل ما تملك، سيُخْليك من كل شيء بالموت. إنه عز وجل يمنح الإنسان أشياء كثيرة في شبابه ثم يستعيدها منه، الواحد تلو الآخر، خلال الخمسين أو الستين عاماً من عمره. لكن، يا إلهي! إن المدة التي أعطيتني فيها ما أعطيت كانت قصيرة جداً، أما المدة التي أخذتَ تسترد فيها الأشياء التي أعطيتنيها واحداً واحداً فطويلة للغاية!
- "إلهي، في ذلك الثلث الأول من عمري الذي وهبتَني فيه الكثير كنتُ صغيراً ولم أفقَه شيئاً! وكأنّ غايتك من عملية إعطائنا الأشياء كانت الأخذ أكثر مما هي الإعطاء، وذلك لكي تختبرنا". خطة الدين هي أن تبذل وتُعطي أنت بنفسك، وإلا فستُؤخذ أشياؤُك منك، شئتَ أم أبيت. لماذا هكذا؟ لماذا يجب أن يأخذ الله مني الأشياء أصلاً؟ ألَم يخلقني راغباً في كل شيء؟ إلهي! إنني أتعلّق بالأشياء التي تمنحُها لي.. لا أستطيع أن أنتزعها من روحي.. فلماذا تريد استردادَها منّي بالتكليف أو بالتقدير؟!
- أساساً ما قصة عملية الأخذ هذه؟ إن الله عز وجل يأخذ هذه الأشياء لأنه قد زوّد الإنسانَ بميزة وقال في كتابه: لقد خلقتك من أجل هذه الميزة! البذل، بالطبع، صعبٌ على الإنسان فدعوني، إذاً، أحدثكم عن العلّة أو الحكمة من ورائه وانظروا إن كنتم ستقتنعون بالحكمة منه أم لا. بل لربما أحببتم هذه الحكمة.
- لقد جُعلتَ مخلوقاً اسمه "الإنسان"، لا ملاك ولا حيوان. إنك المخلوق الوحيد القادر على الاختيار. والله عز وجل لم يقل في كتابه: لقد خلقتك أيها الإنسان من أجل "الاختيار"، بل قال: خلقتك "لأبلُوَك وأمتحنك": «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» (المُلك/2)؛ أي: لأرى كيف ستختار؟ أيها المخلوق المختار! أتنزعج لأنني خلقتك مُختاراً؟! أتستاء من أن تكون ذا قيمة بالاختيار؟! أكنتَ تودّ أن تكون بهيمة؟! إذاً الاختيار قضية محورية للإنسان، بالضبط كقضية "الحرية" التي ترى كم قد أصبحتْ شعاراً محورياً وعالمياً ومهماً.
- ماذا يسلتزم الاختيار؟ الاختيار يسلتزم أن تُسلبَ النعمة مني، يستلزم العطاء، يستلزم المعاناة والبلاء. ومتى يصبح للاختيار معنى للإنسان؟ حينما يوضَع أمامه شيئان محبوبان ويقال له: "إن اخترتَ الأفضل سترتقي وتكون أكثر قيمة". فلو صببتُ في إناءٍ "سُمّاً" ووضعتُ في إناء آخر "طعاماً" وأنت تعرف ما هما فمن الواضح أنك ستختار الطعام لتتناوله؛ فلا معنى هنا للاختيار إذاً.
- الاختيار إنما يتحقق عندما يضعنا الله تعالى أمام "محبوبَين" فلا تختار هذا إلا وتضطرّ إلى ترك ذاك، وهاهنا تحديداً أول المعاناة في حياة الإنسان. إني لأتأسّف كثيراً من أن مدارسنا لا تعلّم الأطفال الحكمة من المعاناة. عشرَ مرات، منذ المدرسة وحتى الجامعة، يُثبتون للطالب وجود الله، قائلين له: "آمِن بأن الله موجود!" لكن حتى إبليس كان مؤمناً بوجود الله، مثلما كان آدم(ع) مؤمناً به أيضاً. ترى أيُحَلّ كل شيء بمجرد الاعتقاد بوجود الله عز وجل؟! المشكلة لا تكمن هنا.
- ما هي الفلسفة من المعاناة؟ المعاناة هي أن لا تملك ما تحبه. المعاناة هي أن يُؤخَذ منك ما تحبه. المعاناة هي أن تحاول الوصول إلى ما تحب فتوضَع في طريقك العراقيل، وتضطر إلى التخلّي عن عدد من محبوباتك الأخرى لتنال الأول. وهذه الأمور تُتعبك. لماذا يجب أن تعاني؟ لأنك إنسان مختار، والاختيار يعني المعاناة.
- يقول أمير المؤمنين(ع) في مطلع الكتاب 31 من نهج البلاغة: «مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ الْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ... إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لَا يُدْرِك [يُدْرَك] ...غَرَضِ الأَسْقَامِ، وَرَهِينَةِ الأَيَّامِ، وَرَمِيَّةِ الْمَصَائِب»؛ أي: أكتُب إلى الحدَث الذي لن يبلغ آمالَه والذي سيكون هدفاً لسهام المصائب والبلايا.
- إنه أول كرّاس تعليمي خُطّ في صدر الإسلام بيد أمير المؤمنين(ع) في إطار كتاب موجَّه إلى الشبان يعلّمهم به دينهم، وهو الكتاب 31 من نهج البلاغة. يوضح(ع) لولده في مطلع الرسالة "أن الدنيا ستنال منك، ستسلبُك أشياءك، كما سلبَت الماضين أشياءَهم، إنها لن تعطيك كل شيء...". لا ينبغي للإنسان أن يخشى المعاناة. فأمير المؤمنين علي(ع)، في هذه الرسالة، يُخبِر سبع مرات عن معاناته وآلامه بوصفه "الوالد الشيخ"، وأربع عشرة مرة عن المعاناة والآلام التي سيقاسيها الشاب في الدنيا.
- يُطلع الإمام(ع) ولَده، في هذا الكتاب، على المعاناة مخبراً إيّاه بأنك في الدنيا ستعاني! وكل من أخبرك بأنه من الممكن أن لا يصيبك في الدنيا أي ألم فقد كذب عليك، وأراد خيانتك. لا تعش في الأوهام! إنك لا بد أن تعاني. لكن هلُمَّ واجعَل معاناتك لذيذة لك، هيّا استغلّ معاناتك على نحو أفضل. تعال واجنِ من آلامك مُتَعاً عظيمة.
- حاولنا مرة أن نطبّق جميع هذه المباحث التربوية في روضة للأطفال فصمّمنا ألعابها ونظامها على غرارها. وكان أحد البرامج أن توضع أمام الطفل، إذا جاعَ، قطعتَا حلوى لذيذتان بلونين متغايرين ويقال له: "يمكنك تناول واحدة فقط". الطفل (طبعاً) يرغب في أخذ الاثنين، فيقال له: "هذا غير جائز!" لماذا؟ لأنه تمرينٌ يراد منه إنضاج عقل الطفل عبر الاختيار، فكأنما يقال له: "لك أن تختار من بين قطعتَي الحلوى واحدة فقط، هذا هو حال الدنيا حتى النهاية!" فلماذا ثمة معاناة؟ لأنه ثمة اختيار.
- من المستحيل أن يُخيِّر أحد نفسَه بين أكل خشبة أو بوظة، إذ لا أحد يرغب في أكل خشبة. فإنما يكون الاختيار بين الأشياء المرغوب فيها؛ فإن اشتهيتَ البوظة فعليك أن تبذل المال، وإن امتلكتَ مالاً أكثر وأحببتَ تناول ثلاثة أضعاف كمية البوظة فينبغي أن تتنازل عن صحتك! وإن قلت: "آكُل ما يداوي هذا المرض"، وجبَ عليك التفريط بعقلك! فالأكول يصبح أحمق. أيها المخلوق المختار، يا من تحب إنسانيتك ولا تريد أن تكون حيواناً! اِعلَم أن الاختيار يساوي المعاناة.
- إننا في كل مرة نختار نقاسي ألماً وننال لذة، هذا إذا صَحَّ اختيارنا. فإن أخطأنا الاختيار، وظهرَت اليد (في لعبة المحيبِسْ) فارغة، نكون قد خسرنا هنا أيضاً. لكن ثمة آلام تصيبنا لم نكن قد اخترناها؛ أي ليست جميع آلامنا في الحياة هي بسبب اختيارنا، ونتيجة تنازلنا عن شيء نحبه لنيل لذة ما، بل قد ينزل علينا بلاء من السماء دون أن يكون الذنب ذنبَنا أبداً.
- لأي شيء يُنزِل الله تعالى مثل هذه البلايا في الحياة؟ يُنزِلها لتعلم أنه حتى وإن لم يكن اختيارك سليماً فستجعلك الطبيعة والتقدير الإلهي تتعذّب أيضاً.. لا تخَف من العذاب.. لا تخشَ المعاناة! فلو كان مصدر معاناتنا اختيارَنا السليم وحسب لما شئنا أبداً أن نختار بشكل سليم! يقول (الله): أنا أيضاً أعذّبك! وإن لم يكن اختيارك سليماً جعلتك تعاني أكثر. بل إنّ في الدنيا معاناة وإنْ لم تفعل شيئا أبداً. إنني سأسلبك الأشياء التي تحب، هذا لمصلحتك. فتنازل أنت، بنفسك، عن محبوباتك لصالح محبوباتك الأسمى. فمن المستحيل أن تملك كل شيء معاً في هذه الدنيا، لأنه يتوجب عليك الاختيار.
- الدنيا محل اختيار، والاختيار يعني المعاناة. والله تعالى لا بد وأن يذيق كلَّ امرئٍ في حياته آلاماً. لكن الله تعالى يستردّ الأشياء هنا في غاية اللين والهدوء، يستردها بمنتهى الرأفة والملاطفة. إنه لا يعذب بقوة؛ فمتى ما سلبَ الإنسانَ شيئاً عوّضَه محلَّه ببضع نِعَم أفضل ومنحه أجراً. فإنّ إعطاء الأجر يبدأ من الدنيا. بل إنه سبحانه يعطيك الأجر حتى على المعاناة الطبيعية التي لا دخل لاختيارك بها أبداً، بل ويعطيك عشرة أمثال الحسنات الأخرى أيضاً.
- فإن أخَذَ منك بصرَك يُزيد قدرتَك على التخمين، وإن أخذ ساقَك يعطيك قدرة غيرها. إن الله لا يؤذي عبداً من عبيده، لكن لا بد من المعاناة في حياة الإنسان؛ إذ يقول عز وجل: «لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَد» (البلد/4)؛ أي في معاناة وآلام! لماذا؟ لأنه مخلوق مختار. وبعض معاناته ترجع لاختياراته؛ سواء السليمة منها أو غير السليمة. على أن الاختيار السليم معاناتُه أقل، والاختيار غير السليم معاناتُه أكثر. والاختيار السليم تصحبه معاناة قليلة في البداية، ثم تَتبعُها اللذة، أما الاختيار الخاطئ فمعاناته متأخّرة، وأشَدّ.
- لكن يا إلهي، أنت لماذا تذيقنا الآلام؟ يجيب الله تعالى: أنا الذي خلقتُ هذا الإنسان، وأعلم أنه لا يمكن أبداً السيطرة عليه (لولا إذاقته المعاناة). فمن الجميل أن يشيخ الإنسان، وأن يَطعَن في السن، وتخور قواه إذا شاخ، وإلا فلستَ تعلم ما الذي كان سيصنعه لولا هذه الشيخوخة! ولقد خلقه الله تعالى حراً أيضاً. فمن الجيّد أن يرحل البعض عن الدنيا. صحيح أننا نحزن لفراقهم، لكن لو بقوا دون أن يفارقوا الدنيا، وزادوا سمنة يوماً بعد يوم لَما وصَلَ إلينا الدور في الحياة أصلاً.
- في الجنة مهما أكلنا يتحوّل الطعام إلى عرق عَطِر الرائحة أو عِطْر، أما الدنيا فنظامها يختلف. لماذا جعل الله عز وجل نظام بدن الإنسان في الدنيا بحيث ما إن يتناول الطعام حتى تحدث له أمور قبيحة جداً ويكون مضطراً للذهاب لبيت الخلاء؟ قالوا إنه للسيطرة قليلاً على تكبّره عبر هذه الحالة: «تَصْغِيراً لِابْنِ آدَمَ لِكَيْلَا يَتَكَبَّرَ وَهُوَ يَحْمِلُ غَائِطَهُ مَعَه» (علل الشرائع/ ج1/ ص275).
- بعض البلايا يُنزلها الله تعالى هو بك كي لا تخاف البلاء كثيراً ولتتهيأ للآلام التي تصيبك جراء اختيارك أنت. ليس هناك اختيار من دون معاناة. لماذا؟ لأن الاختيار يكون دائماً بين شيئين محبوبين. إنك تحب الاختيار، ومن أجل هذا أنت تحب الحرية أيّما حب. إنك تكره أن تكون بهيمة؛ فالبهيمة لا تختار، إنه الإنسان الذي يختار. ولا يكون الاختيار إلا بين شيئين تحبّهما، وإنك تعاني كلما تخليتَ عن شيء تحبه.
- لكن ما فلسفة الأشكال الأخرى من المعاناة؟ فلسفتها أنه حين تزداد معاناتُك يقلّ فرارك من المعاناة. يقول الله في محكم كتابه: «يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَة» (النساء/78)؛ أتريد الفرار من الجهاد هرباً من ألَم الموت؟ لكن الموت سيدرككم جميعاً، فلماذا الخوف؟ وإن الحكمة من أنماط المعاناة الأخرى هي إعدادك لتقبّل المعاناة، المعاناة التي ستقاسيها باختيارك.
- الملاحظة الأخرى حول علة وجود الآلام والمعاناة هي أنه في خِضَمّ الآلام يُجري الله عليك أغلب امتحاناته ليختبر اختيارك؛ فهو يُنزِل بك بلاءً ليرى كيف تختار، إنه مشهد اختبار واختيار؛ فإنّ نصف مشهد الاختيار يكون في البلاء، ونصفه الآخر في الرخاء.
- الإنسان مُحب لكل شيء، فمتى يفسد أمرُه؟ يفسد أمرُه إذا أراد الاحتفاظ بكل ما يملك. لكن الله سيأخذها منه، إنه سيسترد منه أشياءه التي يحبها. لماذا يستردها؟ لماذا لا يدعني أحتفظ بما أملك؟ لأنّ علَيَّ أن أختار، وحين أختار لا بد أن أتخلّى عن شيء في حوزتي، وإلا فليس ثمة معنى للاختيار. يتحتم عليّ أن أتنازل عن أحد محبوباتي، عن أحد ممتلكاتي، وإلا لن أسمح لإنسانيتي أن تبرز وتتجلى!
- متى يسقط الإنسان؟ إنه يسقط حينما لا يطيق معاناة العطاء. إذاً فابذِلْ.. لا تُمسِك.. وإلا سوف تسقط.
- معاناة العطاء تكون أحياناً أشق من معاناة بذل النفس. وسنتحدث حول هذا الموضوع، إن شاء الله، في الليلة القادمة. أيها الشباب، لا تخشوا الآلام والمعاناة. فالذي يخشى الآلام سيُرَغِّبه الإمام الحسين(ع) بنفسه في أن يتركه ويرحل عنه! لقد قال(ع) لأصحابه ليلة العاشر من المحرم: أنا راضٍ عنكم جميعاً، ولستُ أتوقّع منكم شيئاً، فانهضوا وارحلوا عني! فرحلَ عنه الذين ما كانوا يتحمّلون أن يُضرَبوا ولا يطيقون المعاناة وضرب السيوف، ولم يبقَ معه إلا القليل...