۹۹/۰۶/۲۵
ما هو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟(المحاضرة17)
السؤال: "وماذا بعد؟" يأخذ الإنسانَ إلى أسمى الأهداف/ الإنسان بحاجة إلى هدف سامٍ تنتظم باقي الأهداف بنظامه/ الذنب هو كل ما يُقصي الإنسان عن أسمى أهدافه.
-
المكان: طهران، مسجد الإمام الصادق(ع)
-
الزمان: 22/أيار/2019 ـ 16/رمضان/1440
-
الموضوع: ماهو الذنب؟.. كيف تكون التوبة؟
-
A4|A5 :pdf
على كل امرئ أن يجيب عن السؤال التالي: "افرض أني بلغتُ جميع أهدافي، وماذا بعد؟ ماذا سيحصل في النهاية؟" يفتّش الإنسان عن هدف يعلو على جميع الأهداف التحضيرية والوسطية، وعلى جميع الأهداف الأخرى في كل مرحلة من حياته. هو يسعى لوضع الهدف الأسمى ذاك نُصب عينيه لتسكُنَ روحُه فلا يعود يسأل: "وماذا بعد؟"
الفاقد لهذه الخصائص لا تتلاءم شخصيّتُه مع الدين أساساً؟
- ذكرنا في الحلقات الفائتة خمس خصائص كممهّدات للتديّن؛ وهي أن يكون المرء طالباً للنفع نافراً من الضرر، ومُمَنهجاً لحياته، ومن أهل التنافس، وأن يُذعن لقيود الدنيا. أما الخصيصة الخامسة فهي أن يرى عالم الآخرة، ويؤمن بالمعاد، ويكون عالَمُه واسعاً.
- فالذي يمتلك هذه الخصائص يكون مهيَّأً للتديّن والإقلاع عن المعصية، ويكون في وسعنا التكلم معه عن الدين، لأن الفاقد لهذه الخصائص لا تتلاءم شخصيته مع الدين أساساً! وما زلنا، في بحثنا هذا، لم نتطرّق بعدُ إلى موضوع الدين، والإيمان، وأوامر الله تعالى. ومن ميسورنا القول، إنْ صَحَّ التعبير: بهذه الخصائص تُكتسَب "التقوى السابقة للإيمان".
ما معنى "التقوى السابقة للإيمان"؟
- المراد من التقوى السابقة للإيمان هو أن يكون المرء من أهل المراقَبة، والتفحّص في الأمور، وأن يتصرّف بعقلانية. فشخصية إنسانٍ كهذا تكون مهيَّأة لتقبّل الإيمان، بل إنها تتقبّله بسرعة.
- يستهلّ الله سبحانه وتعالى كتابَه العزيز بقوله: «ذلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (البقرة/2)، ولعل مراده من التقوى في هذه الآية هو ما ذكرنا من التقوى السابقة للإيمان. فهو تبارك وتعالى لا يقول: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمؤمنين"؛ إنه لا يقول: هذا الكتاب يهدي المؤمنين؛ إذاً لا بد أن تؤمن أوّلاً، وعندها فقط سأكلّمك! بل يقول: "هذا الكتاب يهدي المتّقين"؛ أي فلتحصل، بادئ ذي بدء، على بعض التقوى كي أكلمك، وعندذاك ستؤمن! بمعنى أن أمثال هؤلاء يؤمنون ويُصَلّون لأن في داخلهم جوهرة اسمها "التقوى"؛ «ذلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون» (البقرة/2-3).
- والحقيقة، استناداً إلى الآية القرآنية أعلاه، إن القرآن الكريم يعجز عن هداية الفاقد لهذه الجوهرة (التقوى). فمهما أتيتَ شخصاً كهذا بالبراهين وأثبَتَّ له وجود الله لا يقتنع، وإن اقتنعَ فلا جدوى من اقتناعه.
السؤال: "وماذا بعد؟" يأخذ الإنسانَ إلى أسمى الأهداف
- مَن يتوافَر على الخصائص أعلاه يسعُنا أن نكلّمه عن موضوع في غاية الأهمية وهو: "إنك من الذين يطلبون منفعتهم، ويُمَنهجون حياتهم، ومن أهل التسابق والتنافس، ومتقبّل لقيود الدنيا، ومُحبّ لعالم الآخرة، لكن ماذا بَعْد؟ ما الذي سيحصل في النهاية؟" إنه سؤال في منتهى الأهمية، وقاتل! إذ حين يتبادر هذا السؤال إلى ذهن الإنسان ولا يعثر له على جواب، فإنه سيهلك! ولا تعود ثمة جدوى لأي شيء آخر تعرِضُه عليه، إذ سيقول: "لا شيء في هذا العالم على الإطلاق ذو قيمة أو فائدة!"
- يبحث الإنسان عن جواب لأسئلته: "وماذا بعد؟ ثم ماذا؟ ما هي النتيجة؟" وهذه الأسئلة تأخذ الإنسان إلى أسمى الأهداف! وإنْ كان المرء من الممنهجين لحياتهم فستُوصِلُه هذه المنهجة تحديداً، في نهاية المطاف، إلى الله؛ ذلك أن المُمَنهِج لحياته يُحصي أهدافه، ويبحث عن أسماها، ولهذا يتساءل: "والآن، ما الهدف الذي هو أعلى من هذا الهدف؟ ماذا بعد؟" وعلى هذا المنوال سيصل إلى الله تعالى.
- الطالب للنفع والفارّ من الضرر يصل في النهاية إلى الله عزّ وجلّ. والذي نهجُه التسابق يصل أيضاً، في آخر طريقه، إلى الله، لأنه يسأل نفسه: "ماذا سيحصل لو أنني سبقتُ الجميع وفُزتُ في جميع السباقات؟ ألن ينفد صبري؟" وكذا الذي يفكّر في عواقب الأمور فهو يصل في النهاية إلى الله، لأنه يتساءل: "هَبْ أننا روَينا ظمأَنا في الجنة مدة من الزمن ونَعِمنا بلذّاتها وآلائها، وماذا بعد ذلك؟ لنفرض أننا تلذّذنا بنعيم الجنة ملياراً من السنين، ألا ينفد بعدها صبرُنا؟"
دُلَّني على هدف لا أمَلّ منه حتى أبد الآبدين!
- أسأل الله تعالى أن يتغلغل هذا السؤال المهم إلى قلوبكم جميعاً بقوة حتى تسقط الدنيا، بل والآخرة أيضاً، من أعينكم، فتقولوا: "ثم ماذا؟ أخذَ السأمُ يتملّكني! دُلَّني على هدف لا أتخلّى عنه حتى أبد الآبدين ولا أمَلّ تعقُّبَه!"
- الإنسان مخلوق يحمل هذه الرغبة الفطرية، وأنبياء الله إنما يأتون لينفُضوا عن رغبةِ الإنسانِ الفطريةِ هذه الغبار لكي يسأل هذا السؤال المهم: "ثم ماذا؟ ما هي النتيجة؟" إذذاك سيصبح هذا الإنسان عارفاً! وصاحب العصر والزمان(عج) هو الآخر يملأ الأرض قسطاً وعدلاً تلبيةً للحد الأدنى من الحياة البشرية لكي يصل البشر إلى التساؤل: "ثم ماذا؟"
- على أن باستطاعة البعض أن يسأل نفسه السؤالَ ذاتَه في زمن الغيبة أيضاً؛ أي على الرغم من الكروب الحافّة بهم فإنهم يجلسون مفكرين في أنه: "هَبْ أن كروبي هذه تبدّدتْ، ثم ماذا؟" والله عز وجل يفرح لعبد كهذا أيّما فرح، وكأنه يقول: "عبدي في كَرْب ومعاناة، ولا بد له الآن، بطبيعة الحال، أن يتوسّل إليّ أنْ: إلهي، فرّج كربي.. أنا ليس بوسعي التفكير في شيء آخر! لكنه اتّخذَ رُكناً وراح يحدّث نفسه: ماذا سيحصل بعد أن تزول كروبي هذه؟" والله سبحانه يضُمّ عبداً كهذا إليه.
- والذي وصل بفكره إلى سؤال كهذا يكون قد توصّل إلى جوابه أيضاً! فما إن تصل إلى مرحلة السؤال: "ثم ماذا؟" تكون قد علمتَ إلى أي مدىً كبرتَ! لأنك رأيتَ النهاية! تخطّيتَ الجنة والنار كذلك، لتتساءل: "وماذا بعد ذلك؟" فحينما تبلغ كل هذا الارتفاع ستكون قادراً على مشاهدة الله من وراء الحُجب التي أسدلوها أمام ناظرك؛ أي ستكون قادراً على الإحساس بالله بقلبك.
الإنسان بحاجة إلى هدف سامٍ تنتظم باقي الأهداف بنظامه
- يحتاج الإنسان لحياته إلى أعلى الأهداف، هدف تنتظم بنظامه جميع أهدافه الأخرى الأسفل منه ويصل فيما بينها. فالإنسان الذي يملك بضعة أهداف مبعثرة هو إنسانٌ مشتَّت الفكر والوجود، وإنسان كهذا لا يعود مُحبّاً.
- مَن يحمل ألفَ هدف متنوّع هو إنسان مشتّتُ الكيان، إذ عليه أن ينهض بأعمال شتّى ويبلغ أهدافاً متعدّدة. فأحد أهدافه، مثلاً، "شراء المنزل"، وهدفه الآخر "الزواج"، والهدف التالي "بلوغ مركز اجتماعي"، ...الخ. غير أنه لا صلة بين أهدافه هذه، وهو يسعى إليها بباعث الحاجة والميل.
- الشخص "المتعدد الأهداف" يُشقِي نفسَه؛ هو شخص منفعل، لا حرارة فيه؛ إنه إنسان بارد مُحطَّم الأعصاب. هو دائم اللَّهَث وراء نَيل هذا النفع أو ذاك، أو دفع ما يحيق به من أضرار مختلفة، ولهذا تراه، على الدوام، متعباً عديم الرضى، دائم الشكوى، غير شاكر! فإن أوى إلى الفراش كان من الإنهاك والكآبة ما لا يسعك أن تطلب منه الاستيقاظ في السحَر!
- إن الإنسان بحاجة إلى هدف سامٍ يوجّه جميع أهدافه الصغيرة، وكافة غاياته القصيرة الأمد والطويلته. (ولا دخل لنا، في الوقت الحاضر، بالله والهدف الإلهي). فإن عثر الإنسان على هدف كهذا؛ هدف يُشبع، أوّلاً، رغبته في الخلود كل إشباع، إلى درجة أنه لا يعود يسأل: "ثم ماذا؟"، فإنه يمثّل أسمى أهداف الإنسان، ويُلهب كيانه. ثانياً، سيحقق هذا الهدف جميع الأهداف الصغيرة الأخرى. يقول علماء النفس: "إن الإنسان بحاجة إلى هدف كهذا". بل وقال بعض علماء النفس الآخرين أيضاً: "النتيجة الوحيدة التي استنتجها الإنسان لهذا الهدف هو الله".
أول التفات الإنسان إلى الله هو حينما يختاره كأسمى هدف له
- تتطلب روح الإنسان هدفاً سامياً؛ وإذا فكّر الإنسان "بأسمى هدف" تفكيراً عميقاً فسيحسّه بقلبه! وكل مَن فكّر في هذا الهدف قليلاً فإنه سيرى الله رويداً رويداً؛ أي سيحسّه بقلبه! كيف؟ كالأم التي تترقب مجيء ولدها ولا يمكنها الاتصال به، وإذا بولدها يقف على باب الدار! فتقول: "كأنّي بولدي خلف الباب!" ثم يطرق ولدُها الباب ويدخل! فكيف أحسّتْ هذه الأم بوجود ولدها وعلمتْ بقدومه؟ لأنها تقول: "قلبي دليلي!" كقصة نبي الله يعقوب(ع) الذي كان يترقّب مجيء يوسف(ع)؛ إذ حينما انطلقوا بقميص يوسف إليه أحسّ يعقوب ذلك بقلبه على مسافة شاسعة فقال: "إني لأشم رائحة يوسف": «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» (يوسف/94).
- لقد أحس يعقوب رائحةَ قميص يوسف عندما خرجوا من مصر متوجّهين به إليه، وهو على مسافة شاسعة منه، وهو قميص ولده، وليس موجوداً بعظمة "الله تبارك وتعالى" الذي صنعك لنفسه، والقريب منك أيما قرب، إلى درجة أنه قال: «نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد» (ق/16).
- أين يبدأ التفات الإنسان إلى ربه؟ حينما يجعله الهدفَ الأسمى بالنسبة إليه؛ الهدف الذي يصبو لبلوغه بعد كل شيء ولا ينعم بالسّكينة حتى يصل إليه هو. وحينها ستغدو الجنة برُمّتها محل إقامة للقاء الله عزّ وجلّ! وسترجع جميع محاسنها في نظرك إلى كونها من الله، وكأن الله قد بعث إليك ببطاقة دعوة خاصة. وستعود مرارات جهنم إلى كونها تَجَلّياً لغضب الله وسخطه.
- الإنسان في حياته بحاجة إلى هدف. بالطبع هناك أهداف مبعثرة تحيط به في العادة، لكنه بحاجة إلى الهدف الأسمى الذي من شأنه أن يوحّد أهدافَه جميعاً؛ أي يجمع شتات قلبه فيجعله خالصاً لا شائبة فيه؛ وهنا تحديداً ينبثق الحب. حتى أولئك الذين يحبّون بالخطأ (أي تأسرُهُم أنماط حب أخرى) يودّون لو يكون كل شيء فيهم - كنمط سلوكهم، وكلامهم، ..الخ - في سبيل محبوبهم.
- ما الذي سيحصل لمن أصبحَ قلبُه خالصاً؟ سيتحفّز التفاتُ قلبِه جميعاً ويتركّز في نقطة واحدة؛ كالعدسة المقرّبة التي توضع أمام أشعة الشمس وتركّزها جميعاً في نقطة واحدة فتُحدث في تلك النقطة حرارة شديدة إلى درجة الإحراق.
خصيصة الإنسان الطبيعي أنه «مُحِبّ»
- من الخطأ أنْ نسأل: "ما هي خصائص الإنسان الطبيعي؟" سؤالنا يجب أن يكون: "ما هي خصيصة الإنسان الطبيعي؟" والجواب: خصيصة الإنسان الطبيعي أنه مُحِبّ! إنه قد شاهد نهاية العالم، واختار أعلى الأهداف. بل وكم من الأهداف الأخرى في العالم أساساً كي نرغب في اختيارها؟! وكَمْ من "الله" عندنا كي نود التوجّه إلى سواه؟! ألا وإنه ما من أحد بعظمة الله تعالى في هذا العالم! وكل مَن اختار غير الله فإنه، في الحقيقة، لم يصل إلى اختياره النهائي بعد!
- على الإنسان، لتحديد هدفه، أن يسأل نفسه السؤال التالي: "ما الذي سيحصل بعد بلوغي أهدافي الصغيرة هذه؟ ما هي النتيجة؟" الإنسان يفتش عن هدف يعلو على جميع الأهداف التحضيرية والوسطية وعلى جميع الأهداف الأخرى في كل مرحلة من حياته. إنه يسعى لوضع الهدف الأسمى ذاك نُصب عينيه لتسكُن روحُه فلا يعود يسأل: "وماذا بعد؟"
- لا بد للإنسان أن يتعرّف هذا الهدف العالي، "وهو قُرب الله"، تعرُّفاً بحيث يقول: "لقد فهمتُ ما القصة!" شخص كهذا بعد أن يختار هذا الهدفَ الأسمى لا يعود يقول: "ثم ماذا؟" فهنا تبدأ للتو معرفة الله! فحين يبلغ الإنسان مثل هذا الهدف السامي، تتّخذ جميعُ أهدافه الوسطية والقصيرة الأمد وكافة أهدافه الأخرى في أبعاد حياته المختلفة وُجهة واحدة! وقد طالبَنا الله تعالى أيضاً بأن: "كُلْ لي أنا، ونَمْ لي أنا، وقُم لي أنا، وألبَس لي أنا، ...الخ".
مَن لا نيّةَ إلهيةَ لكلّ حركة من حركاته فهو من الغافلين!
- في وصية النبي الأعظم(ص) لأبي ذر(رض) أن فلتكن لك نية التقرب إلى الله حتى في نومك وأكلك: «يَا أَبَا ذَرٍّ، لِيَكُنْ لَكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ نِيَّةٌ حَتَّى فِي الأَكْلِ وَالنَّوْم» (مجموعة ورام/ ج2/ ص58)؛ أي اجعل جميع أعمالك وتصرفاتك لله. وفي الخبر إن مَن لا ينوي التقرب إلى الله في كل عمل من أعماله وكل حركة وسكَنة له فهو من الغافلين: «فَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ خَالِصِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ لأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ غَافِلاً، وَالْغَافِلُونَ قَدْ ذَمَّهُمُ اللهُ تَعَالَى فَقَالَ: «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» وَقَالَ: «أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُون»» (مصباح الشريعة/ ص53-54). ويقول تعالى: «أُولئِكَ كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُون» (الأعراف/179). ولماذا هؤلاء أسوأ من الحيوانات؟ يجيب الله: لأي شيء قد خلقتك؟ وانظر بماذا أنت مشغول الآن؟!
- تعالوا نبدأ من هذه اللحظة ونسأل أنفسنا: "ما هدفك؟" ما هي أهدافكم الآن؟ أيها الطالب المدرسي المحترم، يا طالب الثانوية العزيز، يا تلميذ الابتدائية الحبيب، ما هو هدفك في الوقت الحاضر؟ قد تجيب: "هدفي الحصول على فرصة عمل، فأذهب يوميّاً إلى عملي ثم أكسب بعض المال لأتمكّن من تسيير حياتي ضمن الحد الأدنى". سنسألك: "ثم ماذا؟" ويودّ الشيطان لو يُلهينا عن هذا السؤال الخطير والمفتاحي، كأن يعمل، من خلال الأغاني المختلفة والتسالي غير المناسبة، على أن لا يتبادر مثل هذا السؤال إلى أذهاننا قطّ.
يُلهي البعضُ نفسَه بانفعالات عبثية فراراً من أن يسأل نفسه: "وماذا بعد؟"
- أحد أسباب تحريم الإسلام للكثير من الممارسات التي تولّد انفعالات عبثية (كشرب الخمر، والرقص، والدبكة، ولعب القمار، وما إليها) هو أن الناس يُلهون أنفسهم بهذه الأمور كي لا يسألوا أنفسهم السؤال التالي: "وماذا بعد ذلك؟ إلى أين أريد الوصول بعد هذا؟!"
- لو توصّل المرء إلى جواب لتساؤله: "ثم ماذا؟" فسينعم بنشاط يزيد ألف مرة على ما يجنيه بالرقص، بل إنه لن يجد الحاجة إلى الرقص أصلاً! فمن أجل ماذا يرقص؟! ولأي شيء يشتّتُ ذهنَه؟ ولأيّ داعٍ يبحث عن هذه الانفعالات العبثية؟ إن شخصاً كهذا يطارحُ هدفَه الغرام، فلماذا يشغل نفسَه بهذه الانفعالات الذميمة؟!
- لا بد للإنسان من النشاط. غير أن الذي لم يعثر على جواب لسؤاله: "ثم ماذا؟" ولم يضع لنفسه هدفاً سامياً سيضطر إلى التماس بعض النشاط عبر أفعال مقيتة لكي ينسى همومه، وينتشل نفسَه من الاكتئاب لبعض اللحظات.
- فليهلَك كل مَن يعمل في مجال الثقافة، والتربية والتعليم، وفي كل مجال على تشتيت أذهاننا عن هذا السؤال المقدس وهو: "وماذا بعد؟" لقد جعل الله عز وجل "نفسَه"، ولا غير، جواباً لهذا السؤال، وليس لأيّما امرئ أن يخدع نفسه ويضع شيئاً آخر محلَّ الله بوصفه هدفاً أسمى؛ ذلك أن الله وحده هو الجواب على هذا السؤال!
لأي شيء تريد الله أساساً؟!
- والآن لأي شيء تريدُ الله؟ يجيب: أريده لأراه، لأذهب عنده، لأتقرب منه، ...الخ. الكلام هنا بلغ إلى حيث لا يدركه كل إنسان! كل ما في الأمر أنك إن سألت نفسَك بمجامع قلبك: "وماذا بعد ذلك؟" فسيَطلُع لك الله تعالى، كما تطلُع الشمس عند الفجر وترتفع شيئاً فشيئاً. الله هو الآخر سيُظهِر لك نفسَه رويداً رويداً، فتحسّ انجذاباً إليه، وتتعلق به بشكل تدريجي.
- أتعلم في أي مرحلة عمرية يطرأ سؤال: "ثم ماذا؟" على ذهن الإنسان؟ قبل الرابعة عشرة! ثم أتدري متى ينضج هذا السؤال بشكل كامل في ذهن الإنسان؟ في الثامنة عشرة من العمر! وكلما تأخّر هذا السؤال في التبادر إلى الذهن فهو مؤشّر على أن في النظام التربوي التعليمي مشكلة.
- ينعم الإنسان بسَكينة خاصة لدى توصّله إلى رد على هذا السؤال، وفي ظل هذه السَّكينة ينجز جميع أعماله على أتم وجه؛ يواصل دراسته، يتقدم على صعيد العلم، يتزوج، يكون موفقاً في إدارته وعمله، لكنه يظل مشغول البال بالله تعالى، لأنه بات يعلم أنه "من أجل أي هدف يحيا؟" وهاهنا يبزغ في قلب الإنسان شيء اسمه الحب!
- أيما غاية غير "القرب من الله" تضعها لنفسك فإنك لن تحبها، ولن تذرف الدمع من أجلها، ولن تشتاق إليها. صحيح أنك قد تحب هذه الغاية، لكن هذا لا يسمى "حُبّاً". فإن البعض يحبُّ أشياء، لكنه لا يفقه ما هو الحب؟!
الجنة فندقٌ لإقامة مُلاقي الله!
- بطبيعة الحال الشخص المحترم – الذي يتحلّى، على الأقل، بالخصائص الخمس المذكورة في المحاضرات الفائتة – يتبادر إلى ذهنه السؤال التالي: "ثم ماذا؟ وما النتيجة؟" إنه يعلم أنه لا بد في نهاية المطاف من أن يصل إلى غاية لا تنتهي أبداً! فماذا سيحصل لو كان هدفنا الله عزّ وجلّ؟ على سبيل المثال، عندما تذهب يوم القيامة للقاء الله ماذا سيحصل بعدها؟ إنّ الأمر لن ينتهي عند هذا الحد، بل ستتعطش بهذا اللقاء إلى لقاء آخر. فإن لاقيتَ اللهَ مرّة أخرى ستشعر وكأنك لم تره قبل الآن، وسيتولّد لديك اندفاع واشتياق وانجذاب غاية في الضراوة للقائه مرة أخرى. وفي اللقاء اللاحق ستقول: "إنني، إلى الآن، ما عرفتُ الله أبداً!" إلى متى تستمر هذه الحالة؟ ستستمر إلى الأبد، ولا أحد سوى الله من شأنه أن يكون كذلك، لأنّ الله وحده لا نهاية له! لكن ما معنى أن الله لا نهاية له؟ يعني أنك كل مرة تراه يتجلَّى جزءٌ منه فيك، وفي المرة التالية يتجلّى فيكَ جزءٌ آخر منه. وليس لله من نهاية! إنّ الله هو الموجود الوحيد الذي لا ينتهي، وإنك تظل إلى أبد الآبدين تنعم بلقائه.
- والجنة، من باب التشبيه، فندقٌ تقيم أنت فيه لأجل هذا اللقاء المثير! فهي إذاً فندق لإقامة الوفود القادمة للقاء الله! إذ لا بد لك، في النهاية، من أن تقيم في مكان يهيّئ لك أسباب الراحة، وهذا هو الغرض من الجنة، أما الهدف الرئيس فهو لقاء الله تعالى.
- بالطبع هناك من الناس من يلاقي الله في الدنيا أيضاً! فأئمة الهدى(ع)، بحسب بعض الروايات مثلاً، يُدركون في كل ليلة جمعة شيئاً عن الله تعالى حتى وكأنّهم، قياساً بهذا الإدارك، لم يكونوا يعرفون الله قبل ذلك الحين!
حين تجعل "لقاءَ الله" أعلى هدفٍ لك فإنّ محبته تستقر في قلبك
- حين تجعل "لقاء الله" أعلى هدف لك فإن محبّته تستقر، شيئاً فشيئاً، في قلبك ويتولّد لديك انجذاب شديد نحوه! فقد روي عن الإمام الصادق(ع) قوله: «حُبُّ اللهِ إِذَا أَضَاءَ عَلَى سِرِّ عَبْدٍ أَخْلاهُ عَنْ كُلِّ شَاغِلٍ، وَكُلُّ ذِكْرٍ سِوَى اللهِ ظُلْمَة» (مصباح الشريعة/ ص192).
- وعن أمير المؤمنين(ع) قوله: «حُبُّ اللهِ نَارٌ لا يَمُرُّ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا احْتَرَق» (بحار الأنوار/ ج67/ ص23-24). ثم يقول(ع): «وَنُورُ اللهِ لا يَطْلُعُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَضَاءَ، وَسَحَابُ اللهِ مَا يَظْهَرُ مِنْ تَحْتِهِ شَيْءٌ إِلَّا غَطَّاهُ»؛ أي إن الله كسحاب رحمة إذا علا شيئاً غطّتْ آثارُ رحمة الله هذا الشيء تغطية كاملة. «وَرِيحُ اللهِ مَا تَهُبُّ فِي شَيْءٍ إِلَّا حَرَّكَتْهُ، وَمَاءُ اللهِ يَحْيَا بِهِ كُلُّ شَيْءٍ».
- ثم يتابع(ع): «فَمَنْ أَحَبَّ اللهَ أَعْطَاهُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ وَالْمُلْك»؛ هذا على الرغم من أنّ شخصاً كهذا لا ينظر إلى مثل هذه الأمور. فقد نُقل، على سبيل المثال، عن المقدس الأردبيلي(ره) أنه قصد ذات يوم البئر ليأخذ منها ماءً يتوضّأ به للصلاة فإذا بذهب يخرج له بدل الماء! فقال: "إلهي، أريد ماءً أتوضّأ به"... وأدلى بالدلو مرة أخرى فخرج ذهب أيضاً! العرفاء حقّاً يكتسبون قوة، أما نحن فإن الله لا يعطينا هذه القوة كي لا نفسد! الله تعالى يُنيل عناياته هذه لمَن قد استقام أمرُه، وهو يذيقه بهذه العنايات لذة.
الذنب هو ما يعمل على النأي بالإنسان عن أعلى هدف له، وهو "الله"
- والآن، وبالالتفات إلى ما مَرّ، نسأل: ما معنى الذنب؟ الجواب: عندما تتبلور هذه المحبة تجاه الله تعالى وتتكون هذه العلاقة، بوصفها أسمى هدف للإنسان، يكون الذنب ذلك الشيء الذي يعمل على النأي بالإنسان عن الله عزّ وجلّ. ومن هنا تحديداً يتحوّل البحثُ إلى بحث "ديني". البعض هنا يعترض بأنه: "إذا عرضنا الدين بهذه الصورة نكون، في واقع الأمر، قد قدّمناه بصورة عرفانية!" أقول: وما المشكلة في ذلك؟!
- يقول الإمام الخميني(ره): "الذين يدعون الناس بشكل محض إلى صورة العبادات فقط قائلين إنه لا معنى ولا حقيقة للشريعة سوى هذه الصورة والقشور هم شياطين الطريق إلى الله وأشواك سبيل الإنسانية" (آداب الصلاة/ ص154/ حسب النسخة الفارسية). فإن من الخيانة للدين أن يعلّم المرءُ الدينَ بمعزل عن أبعاده العرفانية مدّعياً بأنه ما الدين إلا هذه الأحكام الشرعية ولا غير.
- يقول البعض: "ما دَخلُنا بالأبعاد العرفانية للدين واتصالك بالله؟! لقد قال الله: هذا ذنب. إذاً لا تُذنب، وكفى!" والسؤال هنا هو: "لأيّ هدف لا أُذنب؟ بل من أجل أي شيء حرّم عليَّ اللهُ هذا الفعل؟" أفصِحْ عن ذلك الهدف السامي والعالي! تكلّمْ عن تلك الغاية الجميلة والجذابة؛ دع الحياة تدبّ بروحه من جديد!
- مَن ذا الذي يدرك هذا الهدف السامي؟ يدركه مَن ارتقتْ شخصيّتُه قليلاً! لأنّ الذي لَمّا ترتقِ شخصيته لا يصغي أساساً لمثل هذا الكلام الجميل، ذلك أنه عالقٌ في بعض المراحل التحضيرية والابتدائية. فلا استعداد لشخص كهذا لأن يصبح عارفاً.
لقد تبلورت شخصية الشهيد إبراهيم هادي بحيث كان على استعداد لأن يصير عارفاً
- لقد تبلورت شخصية الشهيد إبراهيم هادي بحيث كان على استعداد لأن يصير عارفاً. ومن بين ذكرياته، في كتاب "سلام بر إبراهيم" (السلام على إبراهيم) اجتذبتني هذه القصة أيما اجتذاب:
- "ذات يوم عندما كان الشهيد إبراهيم في عمر المراهقة عنّفَه أبوه وطرده من المنزل. حتى المساء لم يجد إبراهيم في نفسه الجرأة على العودة إلى المنزل. وعندما عاد سأله أبوه: أين كنت طوال اليوم؟ قال: بعد المدرسة ذهبت إلى السوق، واشتغلت، وكسبت مقدار كذا من النقود. تصدّقتُ بجزء منها على فقير، واشتريتُ بالجزء الآخر طعاماً أكلتُه". هذا هو مثال الشخصية الراقية! طيّب، من الطبيعي أن يصبح شخصٌ كهذا، بمثل هذه الشخصية، عارفاً لأن فيه الاستعداد لذلك. لكن هناك مَن إذا طرده أبوه من المنزل انحدر في هاوية إدمان المخدرات! بل إنه يُدمن عليها حتى وإن لم يطرده من البيت؛ ذلك أن شخصيته لم تتبلور بشكل سليم.