أهم ما يحُول دون سقوط الإنسان وهلاك المجتمع (المحاضرة2)
سِرّ مآسي الإنسان جميعاً "القناعة بالقليل"/ الحسين(ع) إنّما قتلوه بسيوف "الراضين بالقليل"!/ البشر طُلّاب كمال، فما الذي يحصل فيقنعوا بالقليل؟
الهويّة:
- الزمان: 01/محرم الحرام/1442 - 21/آب/2020
- الموضوع: أهم ما يحُول دون سقوط الإنسان وهلاك المجتمع
- المكان: طهران، موكب "ميثاق با شهدا" (العهد مع الشهداء)
- الصوت:(25MB) تنزیل
- A4|A5 :pdf
من الجيد جدّاً أن يكون الإنسان "مريداً لكل شيء" وساعياً وراء الأفضل
- البشر جميعاً طُلّاب كمال. مصطلح "طلاب كمال"، بالطبع، ليس مصطلحاً جميلاً، فثمة تعابير أدق وأكثر شعبية؛ كقولنا: البشر يطالبون بكل شيء، ويريدون لأنفسهم الأفضل؛ أفضل لذة، وأفضل فرصة. إنهم لا يشبعون، ويطلبون اللانهاية، ...الخ، اللهم إلا أنْ نأسِرَهم ونمنعهم حتى عن الحد الأدنى، فقد يكتفون، بطبيعة الحال، بهذا الحد الأدنى ويناضلون من أجله. أما إذا تُرك الإنسان طليقاً فما من شيء يقف في وجهه.
- من الجيد جدّاً أن يكون الإنسان "طالباً للكمال"، أو - يتعبير آخر - "مُريداً لكل شيء"؛ وهو تعبير أكثر شعبية، ونحن نستعمله في تخاطبنا.
- إنْ شئتَ إعطاء درس فيما يسمى بالأخلاق فأول درس أخلاقي هو أن تعزّز في المتلقّي صفة "المطالَبة بكل شيء"، والرغبة في المزيد، والسعي وراء أعظم اللذات! فلا ينبغي - في مُستهل طريق التهذيب - تخويف المتهذّب من الطمع، ومن أن لا يشاء إضاعة أية فرصة، ولا التفريط بأيّ لذة، ..الخ، بل لا بد من تحريضه على الطمع. لا يجوز بتاتاً تخويفه من شيء، بل يجب أن نزرع فيه الشجاعة.
الذي يتخلّى عن "المطالبة بكل شيء" يبتعد عن هويته الإنسانية
- إذا تخلّى المرءُ عن صفة "المطالبة بكل شيء" يكون قد ابتعد عن هويته الإنسانية. فمن، يا ترى، ستُربّي حينئذ؟! فإن هُدِّمت ركائز متطلّبات الإنسان الأساسية والجوهرية فما الذي تود قوله لإنسانٍ جبان قانع بالحد الأدنى؟ إلى أين تريد أَخذَه؟ لن تعود فيه جدوى، فهو إنسان محطَّم.
- ومع أن الإنسان "طالبٌ لكل شيء" يتستَّر معظمُ الناس على هذه الصفة فيهم. كما أن هناك الكثير ممَّن إذا شاءَ تهذيب الناس حاولَ عدم التطرُّق إلى هذا الموضوع بحجة أنّ: "هذا خَطِر للغاية! إذ أتدري ما سيحصل لو طالبَ الإنسان بكل شيء؟ إنه سيتحوّل إلى فرعون!"
على كل إنسان أن يلمس في ذاته صفة "المطالبة بكل شيء"
- وبالمناسبة فإن خطة الإسلام في تربية الإنسان، في مراحل نضجه العُمْري، هي هكذا بالضبط؛ حيث إن الطفل في السبعة الأولى (وفق هذه الخطة) سيّد: «الْوَلَدُ سَيِّدٌ سَبْعَ سِنِينَ وَعَبْدٌ سَبْعَ سِنِين» (وسائل الشيعة/ ج21/ ص476)؛ أي عليك، مدّةَ سبع سنين، أن لا تخيفه، وأن تقول له: "سمعاً وطاعة". دعه يشعر أنه قوة عظمى، فيَحكُم. بعض الآباء والأمهات يُبَكّرون في تأديب أولادهم، وهذا خطأ! حقّاً لا بد للمرء، في البداية، أن يلمس هذه المطالبة في نفسه ويتذوق حلاوتها، وأن يرى كيف أن أبويه في خدمته!
- بعض الآباء والأمهات يبادرون أطفالَهم مبكّراً بالسؤال: "أتحبّني أم لا؟" لكن لماذا تسأل طفلك هذا السؤال؟! قل له: "أنا أحبك!" حالياً لا تكلّفه بأمر، ولا تفرض عليه شيئاً. إنه الآن أمير! هذا الكلام عميق المغزى للغاية؛ فينبغي، خلال السنوات السبع الأولى، أن يعيش هذه الرحابة في وجوده ويستشعرها، فلا يجوز أن تخيفَه أو تقيّدَه. لا بد لكل إنسان أن يمر بهذه المرحلة ويلمس حالة المطالبة بكل شيء في كيانه.
- إن أحد أسرار ابتغائنا صاحبَ الزمان (أرواحنا له الفداء) ورغبتنا في ظهوره هو أن الحياة في ذلك الزمن سيكون لها طعم آخر؛ إذ سيظهر الإمام(عج) ليكون بمنزلة الأب للمجتمع البشري وسيؤَمِّن للبشر الحياة والمتطلّبات الأولية، فيتحرّروا من سجون احتياجات الحد الأدنى.
لماذا أكثرُ الدورس الأخلاقية تُفسد الناس وتجرّهم إلى اللادين؟
- لا بد أن نطيل الوقوف على قضية أن الدورس الأخلاقية التي تُفسد الناس، أو التي تجُرّهم إلى اللادين أو إلى مناهضة الدين، بل وتُنشِئهم نشأة سيّئة، هي حقّاً ليست قليلة. فلا بد، أساساً، أن تكون ثَمّة مرحلة في حياة الإنسان يُطلَب إليه فيها أن: "ابتَغِ كل شيء، لا تطلب القليل، اتّصف بالجشع، كُن طمّاعاً، كُن طالباً للانهاية، كُن انتهازياً، كُن أنانيّاً!" في حين أنك لو تفوّهت بهذا الكلام في مكان ما لقيل لك: "هذا كلام لاأخلاقي". بل لو لمس الناس، أحياناً، وجود شيءٍ من هذه الصفات في أنفسهم لسارعوا إلى التعتيم عليها!"
- إن صفاتٍ من مثل "الأنانية"، و"الانتهازية"، و"الغرور"، التي نراها نحن سيئة، هي في الإسلام غير سيئة بتاتاً؛ وليس الغرورُ بغير سيّئ فحسب، بل هو منتهى الفضائل جميعاً، لا بل ما له حد يحدّه لنقول للفرد: "اغترَّ بنفسك قليلاً!" بل إن علينا – بالمناسبة - أن نُحرّض الإنسان على "الاغترار بنفسه دوماً!" وعندها ستحترمُ أهلَ العالم على خلفية هذا الغرور تحديداً، بل وستفديهم بنفسك؛ لأن هذا من مصلحتك!
لا بد أن ينشأ الطفل في أعوامه السبعة الأولى مريداً لكل شيء (طالبَ كمال)
- ماذا عساي أصنع لهذا العالَم الذي استعبد البشر، والذي وظّفَ حتى الدين لاستعبادهم؛ فوضع لهم دروسَ أخلاق، ورغّبهم في القناعة؛ أي أقنَعهم بالحد الأدنى، فرضوا بأن تستأثر القوى العظمى بالحد الأقصى من كل شيء قائلين: "دعنا، في المقابل، نحيا هذه الأيام القليلة من أعمارنا!" لعنَ الله هؤلاء! لعنَ الله كل مَن تنازل قيدَ شَعرة عن طموحه لأجل القوى العظمى المهترئة! فلتبتغي – حالياً - كل شيء، هذه هي المرحلة الأولى؛ أي لا بد للطفل، في أعوامه السبعة الأولى، أن يُربَّى على هذا النهج.
- ذات مرة أردنا تأسيس مدرسة للعلوم الدينية فرأينا أن الدعائم التربوية للطالب قد وُضِعتْ في المرحلة الثانوية من المدرسة، وأنّ تلك المدارس قد حطّمته! وليس في أيدينا، في هذه المرحلة، تقويمُ الكثير فيه، بل يتعيّن علينا ترميم ما سبق بناؤه. لهذا قرّرنا تأسيس مدرسة متوسطة. ففوجئنا، من جديد، بأن الأطفال قد سُحقت شخصيتهم في الابتدائية! فعزمنا على إنشاء مدرسة ابتدائية. فشاهدنا أن مسؤولي الروضة وكذا العائلة قد دمّروا الطفل خلال أعوامه السبعة الأولى! ماذا عسانا نصنع إذاً؟ قلنا: فلنبدأ من الروضة، وليأت الآباء والأمهات فيتعلّموا كيف يتعاملون مع طفلهم! فإنّ لنا معه شأناً فيما بعد.
يُقنع الطاغوتُ الناسَ بالحد الأدنى من العيش ليتّخذهم مَطيّة
- قولُ القرآن الكريم: «أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت» (النحل/36) يعني، في الحقيقة، أن الطاغوت هو الذي يُقنعنا بالحد الأدنى من العيش؛ وإلا لما تمكّن من الطغيان. والإنسان مخلوقٌ لا نهاية لرغباته، لكن هل تظن أن مشكلة البشرية المعاصرة هي طغيان الإنسان بسبب هذه الصفة؟ كلا، هذا غير صحيح!
- حينما أراد الله تعالى بَعثَ نبيه(ص) بالرسالة قال له: إن الناس قد طغَوا: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى» (العلق/6 و7). وعندما أراد إرسال نبيه موسى(ع) قال له: «اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى» (طه/24)؛ أي: إن قضيتك هي "الطواغيت"! وكذا في زماننا الحاضر فإن المشكلة هي الطواغيت. أما البشر فمشكلتهم، في الحقيقة، ليست "الطغيان"، بل "الرضوخ للطواغيت!"
- لماذا تَقنَع أنت بالحد الأدنى؟ لماذا تَرضى بالقليل، فيتسلّط الطاغوت، ويتخذك مطيّة، ويذبحك من الوريد إلى الوريد! ثم تتضرّع إلى الله أنْ: "إلهي، خلّصني من هذا الظالم؟" فمشكلتك أنك قنعتَ بالقليل، وهو رغب في الكثير!
مشكلة معظم الناس هي المطالبة بالقليل
- مشكلة معظم البشر هي، تحديداً، المطالبة بالقليل. ولشَغلِهم بهذه المطالبة، تراهم يُلهُونهم بمختلف صنوف اللهو، ويبذلون لهم الشهوات الضحلة، ويبتدعون لهم الحِيَل ليَقنَعوا بالمطالبة بالقليل. فهم، من ناحية، يسوقون الإنسان صوبَ الشهوات واللذات الحقيرة، ومن ناحية أخرى يروّجون لأخلاق الرِقّ؛ أي يتخذون من الدين وسيلة للتنظير لهذا النمط من الأخلاق، ويَزُقّون الناس بها زَقّاً قائلين للفرد: "لا تكن طمّاعاً!"
- المسكين لا يملك فلساً! فلا تقولوا له: "لا تطمَع!" بل إنّ عليكم أن تقولوا له: "اطمَعْ!" إنه في مستوىً لا طمعَ له فيه بأي شيء؛ فلقد قَنَعَ بوظيفة حكومية بسيطة! إذاً فلتقولوا له: "لماذا طمعُك ميت؟! لِمَ لا تطالب بأكثر من هذا؟"
الحسين(ع) إنّما قتلوه بسيوف "الراضين بالقليل"!/ المعصية هي الانشغال بالقليل
- الإنسان لا نهايةَ لمطالبه، فلا تُخفِ لانهائيّةَ مطالبِك هذه! أنا ليس في نيّتي، حالياً، أن أقول: "إنْ أصبحتَ لا نهايةَ لمطالبك فحاذر من سحق حقوق الآخرين!" أو: "وجّه لانهائيّةَ مطالبِك، وحدّدها، ..الخ!" فأين هذا الذي لا نهاية لمطالبه كي نتحدث معه بهذا المنطق أصلاً؟! علينا، أولاً، أن نرى كيف نُحيي في الناس روحَ المطالبة بكل شيء هذه؟ فالحسين(ع) إنما قتلوه بسيوف الراضين بالقليل، وبإشارة من الطواغيت!
- الإنسان يريد كل شيء، والمعصية هي الانشغال بالقليل! إني حين أقول وسط الشبّان الذين يعلنون عدم تدينهم: "الإثم هو أن تطالب بالقليل من اللذة!" يقولون: "هذا ما لم نسمعه من أحدٍ قَطّ، لقد أُعجبتُ بالدين!" فلماذا هذه هي حالنا؟ ما الذي تصنعه، إذاً، مؤسسة التربية والتعليم؟ وما الذي نفعله نحن طلاب العلوم الدينية؟ لماذا يعارض بعض العلماء ويحتاط إذا ترجمنا العبارة المُفَلسَفَة "الإنسانُ مخلوقٌ طالبٌ للكمال" - والتي يُقرّها كل العلماء - وصُغناها بلسان العامّة قائلين لهم: "الإنسان لا نهاية لمطالبه"؟ قائلين: لا تقل له: "طالِبْ بكل شيء" لأنك إن قلتَ له هذا فإنه سيلتهم الجميع! كلا، لن يَلتهِم أحداً، فمشكلته الحالية هي أنه يُلتهَم، وأنه راضٍ بالتِهامِه!
- حين تطلب إلى البعض أن يقول: "الموت لإسرائيل" يَشمَخ بأنفه ولا يقولها؛ ذلك أنه راضٍ بأن يُؤكَل حقُّه! المشكلة أنه يعلم أنهم قد أكلوا حقه، ومع ذلك تراه يركع أمامهم! مشكلته، في الوقت الحاضر، ليست تقييدَ مطالَبَته بكل شيء، بل لا بد أن يقال له الآن: "طالِبْ بكل شيء!"
ليس الدين قانوناً للتعساء/ الدين مُرشد لمن يطالب بكل أشكال السعادة
- يقال إن في الهند ديانات يولَد أصحابُها على شاطئ النهر وقارعة الطريق ويفارقون الدنيا على الشاطيء ذاته وقارعة الطريق نفسها قانعين بما هم فيه ولا يمدّون أبصارَهم إلى أهل القصور، مُدَّعين: "هذه هي حياتنا في الواقع!" أقول: أفي الهند فقط الوضعُ هكذا؟ إن الوضع هكذا تقريباً في كل مكان؛ فالبعض يولَد عاملاً وموظّفاً وفي المستويات الدنيا، ويموت أيضاً على هذه الحال، ولا يطمح لأكثر من هذا!
- إن عليك أن تقف في وجه آكِلي حقِّك، وتلوي رقاب العُتاةِ والمَرَدَة! لا بد أوّلاً أن تُعزّزوا روح المطالبة بكل شيء في كيانكم، ليأتي النبي بعد ذلك فيقول: "أتسمحون لي أن أوجّه روحَ المطالبة بكل شيء هذه فيكم، وأُخبرَكم بنمطها الصحيح؟" لكن، للأسف، ليس ثمة حالياً مَن يطالب بكل شيء، فما الذي تريد (أيها النبي) قولَه له والحال هذه؟! بل إنه لا معنى للدين عند هذا الشخص أصلاً. ليس الدين قانوناً للتعساء، بل هو مرشد لمن يطالب بكل أشكال السعادة.
الإنسان طالبٌ للكمال، أي إنه مخلوق مُستَأثر
- الإنسان مخلوق مستأثِر! والاستئثار هو طلبُ الكمال عينُه؛ أنا أترجم المصطلح فقط! وهو يعني أن الإنسان يطالب بكل شيء، بل ويطالب بالأحسن، ومهما أعطيتَه طالَبَ أيضاً بالمزيد منه! أوَينبغي ذَمّ الإنسان على هذه الميزة؟! كلا، فما لهذا يُذَمّ الإنسان، بل إن الذَمَّ المذكور في كلام الأولياء يخُصّ ما إذا حَدّدَ المرءُ هذه اللانهائيّةَ لمُطالبَته بالأمور التافهة؛ فهو في هذه الحالة – في واقع الأمر - لا يطالب بكل شيء؛ وإلا فليس ثمة من بأس أبداً فيما لو طالب امرُؤٌ بكل شيء وكانت – حقّاً - في الأمور التي يطالب بها لذّةٌ أعظم وأسمى.
- الفضيلة، بحسب الأخلاق الإغريقية، "هي التوازن بين الإفراط والتفريط!" حقّاً كم هذا الكلام مُقَزِّز! أَيجب علَيَّ أن لا أفرط في نيل أعلى اللذات؟! فلو لم يُفْرِط المرء في حب أعلى اللذات لكان كالبهيمة! فلأجل أيّ شيء بُعث النبي إذاً؟ هل الفضيلة دائماً هي في الموازنة بين الإفراط والتفريط؟! كلا، ليست القضية هكذا أبداً. بل إن الفضيلة – بالمناسبة - هي في الإفراط؛ الفضيلة هي في الإفراط في حب الله تعالى؛ فليس ثمة حد لهذا، اذهَب به حتى النهاية، نافِس به الآخرين واسبقهم جميعاً، أَنفِق له عمرَك كُلّه؛ في هذا تكون الفضيلة. ليست الفضيلة في الوسَطية! مَن الذي وضع هذه التُرَّهات؟!
لا توصِ ولَدَك أبداً بالحد الأدنى، وإلّا أخرجتَه من الدين!
- الإنسان طالبٌ للكمال. أنا أرجوكم أوّلاً أن تحاولوا ترجمة "طلب الكمال" هذا إلى حدٍّ ما، قبل أن تقولوا: "الكمال المطلق هو الله". فأين طلَبُ الكمالِ هذا أصلاً؟ معظم الآباء والأمهات يحطّمون روحَ طلبِ الكمال في أولادهم. إنّ بعض الكلام في البيت، كقولهم (للطفل) مثلاً: "أدرُس، ونَل الشهادات الدراسية، كي لا تشقى"، يجب أن يُحرَّم! بل قُل له: "يا بُنَيّ، لا بد أن تبلغ من العِلم والكفاءة والصلاح مبلغاً لا تحتاح معه إلى الشهادات الدراسية، وعندها سيقصدُك أصحاب هذه الشهادات ليقتاتوا على فُتات مائدتك!" لا توصوا أولادكم أبداً بالحد الأدنى، وإلا أخرجتموهم من الدين!
إن لطلب الكمال معنىً عميقاً ولا بد أن نضع له أدبيات
- الإنسان مخلوق طالب للكمال. على أن لطلب الكمال معنىً في غاية العمق قد ابتعدنا نحن عنه، للأسف، ولم نضع له أدبيات خاصة به. إنّ من الواجب أن تكون لدينا، بخصوص طلب الكمال، تحليلات وقراءات سليمة إذا سمعَها الشُبّان استأنَسوا بها واستمتَعوا. عليك أن تطلُب المزيد من كل شيء! ففيما يتّصل باللذة الشهوانية مثلاً، اسعَ نحو اللذة الأعظم. ما معنى هذا؟ يعني: اطلُب ما هو أعلى من اللذة الشهوانية، وما يُسكِرُك أكثر منها، ولا تَحُدَّ نفسَك بهذا المستوى الضَحل منها. فما هذه الأخيرة إلا نَموذج صغير هدفه تعريفُنا بأجواء اللذة، وجَعْلُنا قادرين على التحدث عن موضوع اللذة. إنها للتعريف، وليست للتوقّف عندها، بل إنّ صبرَك، بعد مدة من حصولك على هذه اللذات الضحلة، سيتناقص ومن ثم سينفَد.
- إننا لم نضع أدبيات خاصة بروح طَلَب الكمال والاستئثار عند الإنسان. أتعلمون لماذا يتملّص الكثيرون من الدين؟ لأنهم يمقُتون التقييد. وإنّ من الجميل أن تمقُت التقييد.. مَرحى! بل لو أنك أحببتَ التقييد لكنت عبداً رقيقاً! فماذا يقول الدين إذاً؟ إنه يقول: للوصول إلى مقام لا قيود فيه - وهو المقام الذي إذا تكلّمتَ أنتَ فيه يقول الله تعالى لك: "حاضِر"، وهو مقام "النفس المَرْضِيّة" - ثمة طريق يتحتّم عليك فيها أن تقبل بوجود القيود. ولو أنك شرحتَ الدين بهذه الطريقة لقال لك (المتلقّي): "لا بأس، أَقْبَل". فأيُّ تُرَّهات في أن يقال للإنسان: "أيها الإنسان، يجب أن تكون محدوداً بالكامل؟!" (ولو سمع هذا) لقال: "عُذراً، إذاً لماذا خلقتَني إنساناً أصلاً؟!"
- فتّشوا عن مقام "النفس المَرْضِيّة" في الطَفّ، حين قال ربُّ الحسين(ع) ظهيرةَ العاشر من المحرم (ما مضمونه): "يا حسين، الأمرُ ما تطلُب أنت! لو شئتَ أهلكتُ أعداءَك الساعة، أو شئتَ أن تنال الشهادة وفقَ السُنَن الطبيعية! لكن اعلَم أنك بشهادتك لن تكون أعَزّ عندي مما أنت عليه الآن، ستظل عندي في هذا المستوى من العزة حتى إن لم تستشهد..." واختارَ الحسين(ع)، فقال الله له: "لك ما تريد، يا حبيبي يا حسين". إذ يقول تعالى في سورة الفجر: «ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّة» (الفجر/28)؛ أي: لقد بلغتَ مقام النفس المَرْضِيَّة، ولا حدود تحدُّك. هذه ضالَّة الإنسان.. فتعالوا نحدث الناس قليلاً بهذا الأمر.
سِرُّ مآسي الإنسان جميعاً "القناعةُ بالقليل"/ قناعة الناس بالحدود الدنيا هي التي جعلتهم يرضخون ليزيد ويقتلون الحسين(ع)!
- سِرُّ مآسي الإنسان جميعاً القناعة بالقليل. قناعة الناس بالحدود الدنيا هي التي جعلَتهم يرضخون ليزيد وينهضون لقتل الحسين(ع). فما أدنَى فطرةَ أولئك القانعين بالقليل! وما أشد وضاعَتَهم وجُرمَهم!
- لقد عملتْ بعضُ القضايا الأخلاقية، وبعضُ أنماط التربية الخلُقية والرُّؤى على إهلاك المجتمع. لماذا يأبى البعضُ أن يكون ثورياً وأن يهتف: الموت لأمريكا؟ هذه ثمار بعض دورس الأخلاق الخاطئة؛ إذ قد لُقِّنَ هذا الشخص أن: "اقنَعْ بالقليل!" ولهذا هو يقول: "حسنٌ، أنا قانع بالقليل. فدع أمريكا تتسلّط.. ودعنا، بدورنا، نحصل على بعض الفُتات ونقتات عليه!"
- إن بعض الأساليب الخاطئة للدعوة إلى الدين تجُرّ إلى العلمانية. بالطبع لا يمكن للدين بحال أن يكون علمانياً، بل إنه يربّي الإنسانَ سياسيّاً، ويُنشئه ثوريّاً. فلماذا، إذاً، يغدو البعض هكذا على أثر تبليغ الدين؟ لعلك حين قدّمتَ الدين له ودعوتَه إليه لم تُدقّق في استخدامك للتعابير، فأضفتَ على الدين أو أَنقصتَ منه شيئاً! فلا بد من مراعاة بعض المبادئ أثناء عرض الدين، وفي عملية التربية وتقديم المواعظ الأخلاقية.
الدين سبيل لبلوغ اللامحدودية
- الدين سبيلٌ لبلوغك اللامحدودية، ووصولك السلطة المطلقة. وإنما تصبح طاهراً حين ترى أنك قادر على فعلِ كل شيء لكنك، على الرغم من ذلك، تقول: "لا أفعل!"
- لماذا يوفّر الله تعالى للعبد، إذا صارَ عارفاً، أسباباً يشعر معها أن له قدرة خارقة للعادة؟ لأنه تعالى يريد أن يطهّره تطهيراً كاملاً! إنما نحن، الضعفاء الشديدي التولُّع (بالتفاهات)، الذين نرتكب الخطيئة! فلقد جاءَ في تعقيبات الصلاة: «وَاجْعَلْ غِنَايَ فِي نَفْسِي» (مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد/ ج1/ ص143). ما معنى هذا القول؟ معناه أنك تقول لربك: "لقد نلتُ كل شيء، ولا أريد المزيد!"
- أتدري كم يصبح المرءُ راقياً إذا بلغ كل شيء! سيغدو "آدميّاً" بالمعنى الحرفي للكلمة، طاهراً، صالحاً، مُترفّعاً عن اقتراف الخطايا، لا يظلم.. بل لأي شيء يظلم أصلاً؟!
- نسأل الله تعالى أن نكون طالبي كمال بالمعنى الحقيقي للكلمة، وأن نُربَّى على المطالبة بكل شيء، وبلوغ السلطة المطلقة، ونيل الغِنى الكامل، والوصول إلى كل مطامعنا؛ المطامع الإيجابية طبعاً.
الناس طالبو كمال، فما الذي يجعلهم يتوقفون ويقنعون بالقليل؟
- نعيد هنا سؤال الحلقة السابقة بتعبير آخر: البشر كلهم طالبو كمال، فما الذي يجعلهم يتوقفون عن طلب الكمال؟ ماذا يحصل لهم، وهم راغبون في كل شيء، فيُفرّطون حتى في ما يملكون؟ ما الذي يعوقهم، وهم طالبو كمال، عن التوجُّه نحو الأسباب والوسيلة التي تعينُهم على بلوغ كل ما يطمحون إليه؟ وهي وسيلة سهلة وضَعَها الله تعالى في متناول أيديهم، وهي الدين تحديداً؟
- الدين وسيلة لبلوغ البشر حالةَ المطالبة بكل شيء، فما الذي يجعلهم يكتفون بالقليل منه ولا يتقدّمون إلى الأمام؟ ما هي أوّل هاوية تواجه البشر؟ هذه الهاوية أوقعتْ بآدم(ع)، فلقد خدعه الشيطان لهذا السبب بالذات.
- لا يجب علينا أن نعتبر بإبليس فحسب، بل بآدم(ع) أيضاً. فما الداعي لقول الله تعالى في قرآنه الكريم: «عَصَى آدَمُ رَبَّهُ» (طه/121)؟ أيريد تعالى فضحَ نبيّه آدم(ع) يا ترى؟ كلا، بل يريد أن يخبرنا بشيء. الإنسان طالبٌ للكمال، فما الذي يجعله ينسى طلبَه للكمال هذا؟ في المحاضرات القادمة سنجيب على هذه الأسئلة.