زاوية الرؤية – الحلقة العاشرة
استراتيجيتان مهمتان للوصول إلى الرؤية الصحيحة الثاقبة / الهوى وحب الدنيا يسلبان بصيرة الإنسان
الهويّة:
- المكان: طهران، جامعة الفنون
- الزمن: محرم 1439هـ /2017م
- الموضوع: زاوية الرؤية في الفن الملحمي
- التاريخ: 16/محرم/ 1439 ـ 7/10/2017
- A4|A5 :pdf
إحدى الاستراتيجيات المهمة للتحلي بالرؤية الصائبة هي أن نطلب من الله عز وجل أن يرينا حقائق الكون كما هي، وأن يرينا الباطل بحيث ندرك أنه باطل! أما الاستراتيجية الأخرى فهي أن لا نتّبع الهوى وأن نخالفه. فما إن تَمِلْ قيد أنملة صوب هوى النفس حتى تتشوه رؤيتك الصائبة والملحمية.
جزء من نمط رؤيتنا تابع لـ"تفكيرنا ورؤيتنا المستقبلية"
- إن جزءًا من رؤية الإنسان إلى الدنيا وإلى ظواهر العالم والسلوكيات الحسنة والسيئة يعود إلى إرادة الله سبحانه وتعالى، بيد أن جزءًا آخر من نمط رؤيتنا إلى الدنيا ومظاهرها يعود إلى قدرة تفكيرنا ورؤيتنا المستقبلية (وقد تطرقنا إلى هذا الموضوع في المحاضرات السابقة)، لكننا لا نعيش لوحدنا بل إننا نتعامل مع الله تعالى في كل لحظة.
- لا بد أن يكون الطفل تحت رعاية الوالدين وقريبا منهما حتى لو كان منهمكا باللعب والمرح، لأنه يجهل الكثير من الأمور. ونحن غارقون في أحضان الرب أكثر من الطفل في أحضان والديه، فلا يسمح الله لنا بالقيام بالكثير من الأعمال. إذ لربما يخطر ببالك مثلا أن تأتي بسلوك يؤذي الآخرين، لكن الله يمنعك من ذلك لأنه يرى أنه لا يجدر بك أن تقوم بذلك التصرف غير اللائق لاتصافك بالحسنة الفلانية!
الإنسان ليس مجبرا لكنه غير مخيَّر أيضا ليفعل كل شيء!
- الإنسان ليس حرًّا ليقترف أي ذنب. فمثلا أنت تريد الآن أن تشتم شخصا ما، لكن الله يرى أن ذلك الشخص لا يستحق أن يتذوّق مرارة هذه الشتيمة الآن، فيمنعك بطريقة ما ولا يسمح لك بأن تشتم! نحن لسنا أحرارا لنفعل ما نشاء، لكننا لسنا مجبرين أيضا: «لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِیضَ بَلْ أَمْرٌ بَیْنَ أَمْرَیْن» (عیون أخبار الرضا(ع)/ ج1/ ص124). فالله سبحانه من خلال تقديرات وحسابات خاصة يسمح لعباده بالقيام ببعض الأعمال. مستحيل أن نستطيع الحياة بدون الله حتى للحظة واحدة! أشخاص كصدام وهتلر أيضا لم يتمكنوا من العيش بدون الله لحظة واحدة.
- إن الله عزّ وجل يفتح السبيل أمام عباده الصالحين ويسمح لهم بالقيام بالأعمال الحسنة أكثر من باقي العباد، فقد كان الإمام الخميني(ره) يقول: إنني كنت أشعر منذ بدايات الثورة أن هناك شخصًا آخر يسيّر الأمور! والله تعالى في القرآن الكريم ينسب أحوال العباد إلى ذاته فيقول مثلا إني أهدي العبد: «وَاللهُ یَهْدي مَنْ یَشاءُ» (البقرة/213). أو يذكر في آيات أخرى أنه هو الذي يجعل عبدا بصيرا وآخر أعمى: «أُولئِكَ الَّذینَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» (محمد/23). وهذه النسبة إلى الله نسبة حقيقية فهو تعالى يتغمدنا بحمايته في كل لحظة.
طلب العون من الله تعالى هو استراتيجية للحصول على الرؤية الصائبة
- لا بد أن نطلب من الباري عزّ وجل أن يرزقنا زاوية الرؤية التي يحبها ويرضاها، وقد ورد هذا الدعاء عن نبي الإسلام(ص) في كتاب "مصباح الأنس" الشريف: «اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَائِقَ کَمَا هِيَ» (مصباح الأنس/ ص220).
- إن الله يعتني برؤية عباده كثيرا، وبحسب الرواية فإنه عزّ وجل لا يجعل المؤمن يستيقن بالباطل أبدا، كما لا يجعل الكافر أو المنافق يستيقن بالحق: «أَبَى اللهُ أَنْ یَجْعَلَ الْحَقَّ فِی قَلْبِ الْمُؤْمِنِ بَاطِلًا لَا شَكَ فِیهِ وَأَبَى اللهُ أَنْ یَجْعَلَ الْبَاطِلَ فِي قَلْبِ الْکَافِرِ الْمُخَالِفِ حَقًّا لَا شَكَ فِیه» (المحاسن/ ج1/ ص277). كما جاء في رواية أخرى: «لا یَستَیقِنُ القلبُ أنَّ الحقَّ باطلٌ أبدًا ولا یَستَیقِنُ أنَّ الباطلَ حقٌّ أبدًا» (تفسیر العیاشي/ج2/ص53)
- الاستراتيجية المهمة جدا لاكتسابنا رؤية ثاقبة وملحمية تمكننا من خلق الفن الملحمي هي أن ندعو الله ليرينا الحق وحقائق العالم كما هي، ويرينا الباطل بشكل يثير الحميّة في نفوسنا ونفهم أنه باطل!
من خلال الرؤية الصحيحة نستطيع أن نميّز "بين عملين صالحين أيهما أفضل؟"
- إن الله سبحانه وتعالى لا يكتفي بأن يرينا الحق والباطل، بل يتلطّف علينا نحن عبيده تلطُّفًا آخر فيرينا أي الأعمال الصالحة أفضل من غيرها وأي الأعمال السيئة أسوأ.
- يتذرّع الكثير بكلام صائب لتبرير فسادهم! كأن يأتوا بذريعة حسنة لتبرير الغيبة والشتم والغضب والظلم، وذريعتهم صحيحة لا ريب فيها، بيد أنه لا ينبغي لهم الآن أن ينظروا إلى هذا الكلام الصحيح، بل إلى كلام صحيح آخر، لكنهم يعمون عن ذلك الكلام الصائب والأهم! تماما كالخوارج الذين تمسكوا بكلام حسن وهو "لا حكم إلا لله" ووقفوا في وجه الإمام علي(ع). لنسأل الله أن يضبط رؤيتنا عند المقارنة بين عملين صالحين أو طالحين.
طالعوا المجلد رقم 21 من كتاب "صحيفة الإمام" لتتعرفوا على نمط رؤية الإمام(ره)
- يوصي الكبار من رجال الدين والعلماء بمطالعة المجلد رقم 21 من كتاب صحيفة الإمام(ره) للتعرف على رؤية سماحة الإمام(ره)، فمن المهم جدا أن نعرف مقدار اهتمام الإمام(ره) بمختلف القضايا والقيمة التي يوليها لها. يجب أن نعلم ما هو مستوى سوء الأمر السيء وحُسن الأمر الحَسن في نظر الإمام(ره)؟
- التعبئة الشعبية خطوة جيدة، والثورة جيدة، وظهور صاحب العصر(عج) أيضا أمر حسَن، ...الخ لكن ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار كيف كان سماحة الإمام الخميني(ره) ينظر إلى جميع هذه الأمور جنبا إلى جنب. علينا أن نكتشف تلك النظرة ونمضي في ذلك الاتجاه. بعض الأشخاص لم يكتسبوا رؤية سماحته حتى في زمن حياته وكانوا ينظرون إلى أمريكا مثلا باعتبارها "دولة عندها خلافات مع بلادنا حاليا، لكن يمكن التفاوض معها"! لكن نظرة الإمام(ره) كانت مختلفة، فقد كان سماحته منذ البداية يريد أن يجتثّ النظام الأمريكي السفاح. علينا أن نحتفظ بالرؤية الملحمية التي تعلمناها من سماحة الإمام الخميني(ره) حتى زمن الظهور وفتح العالم (على يد صاحب الزمان(عج)). فإن هدأنا وانتهى اضطرابنا وجزَعُنا فهذا يعني أننا قد افتقدنا رؤيتنا الملحمية الثورية.
- قبل أن ينتشر مصطلح "القرية العالمية" في أرجاء المعمورة، كان الإمام الخميني(ره) قد طرح هذا المصطلح بتعابير مختلفة، فكان يقول إن علينا أن نأتي بمختار هذه القرية وهو صاحب العصر والزمان(عج)، وعلينا أن نعمّرها، فلا يمكن أن نعمّر بيتا ونترك باقي البيوت خربة. هذه كانت رؤية الإمام(ره). لكن كان ثمة أشخاص يقولون إن العالم قد تحوّل اليوم إلى قرية وعلينا أن نسلّم أمرنا وننصهر في بوتقة هذه القرية العالمية!
لتقويم رؤيتنا علينا أحيانا أن نجعل أنفسنا في أجواء أفضل
- كيف كانت نظرة الإمام(ره) إلى مفاهيم الولاية وولاية الفقيه؟ فهل يكفي أن نقول إن الولاية جيدة؟ أو هل يكفي أن نذعن بأن الولاية ضرورية؟ وهل يكفي أن نستنكر المظاهرات التي تخرج ضد النظام (الإسلامي)؟ أحيانا ينبغي أن نجعل أنفسنا في أجواء الثورة أو الدفاع المقدس لندرك نظرة الإمام(ره).
- إن أردنا أن تتميز نظرتنا بالدقة والموضوعية لأمور كالأربعين والظهور والمقاومة في المنطقة وقضية الإمام الحسين(ع)، فعلينا أن نخطو الخطى في أجواء الأربعين. فقد نضطر إلى تغيير أجوائنا تارةً أو التفكير بعمق تارةً أخرى من أجل أن تتميز رؤيتنا بالدقة.
كان البعض يقول: لم يكن الإمام الحسين(ع) يعلم أنه سيستشهد!
- قبل الثورة الإسلامية تم تأليف كتاب حول الإمام الحسين(ع) وكان المؤلف يريد إثبات أنّ الإمام(ع) لم يكن يعلم أنه سيستشهد، لكنه مضى في سبيله واستشهد بالصدفة! هذا الموضوع يقلّل من الجانب الملحمي لكربلاء فتصبح القضية عادية للمتلقي وربما يتأسف أيضا من أنه "لماذا حدث هذا الخطأ واستشهد الإمام الحسين(ع) بالصدفة؟!" ربما لو تريث هذا المؤلف قليلا لَشاهد بعد انتصار الثورة أن كثيرا من شهداء الدفاع المقدس كانوا قد كتبوا لأمهاتم أو ذويهم طريقة شهادتهم بتفاصيلها، فكان غالبيتهم يعلمون بموعد استشهادهم وكيفيته. فإن كان هؤلاء الشهداء يعلمون ذلك فهل يُعقل أن يكون الإمام الحسين(ع) لا يعلم؟!
- ومؤلف هذا الكتاب كان ينتمي إلى الفرقة التي كانت تقتل قُرّاء المراثي بدعوى أنهم يمنعون الثورة، فهم يعملون على إبكاء الناس فيُنَفّس الناس عن أنفسهم همومَهم فيقعدون عن الثورة! هكذا كانت نظرتهم لقُرّاء المراثي! بينما كان الإمام الخميني(ره) يرى أن ما ذَكره أهل البيت(ع) من الثواب العظيم لدمعة واحدة تُسكب في سبيلهم، كان منذ البداية مخططا سياسيا ليثور الناس بعد ذلك! "لماذ خصّص الله تبارك وتعالى هذا الثواب الجزيل للبكاء، بل للدمعة الواحدة، بل وحتى للتباكي؟....المهم في هذه القضية هو الجانب السياسي الذي خطّط له أئمتنا في صدر الإسلام ليبقى إلى النهاية وهو الاجتماع تحت ظل راية واحدة وفكرة موحّدة..." (صحيفة الإمام/ ج16/ ص344). وقد شاهدنا عمليا أن مَن كان يبكي أكثر في مجالس أهل البيت(ع) كان - بالمناسبة - أكثر تطوُّعًا للشهادة من غيره!
إن لم تحافظ على رؤيتك الملحمية فستخسرها
- من أي زاوية ننظر إلى العالم؟ علينا أن ننتبه إلى ذلك. فإن غفلنا لحظة واحدة فسنفتقد رؤيتنا الحماسية على الرغم من التزامنا العميق بالدين وجميع الأفكار الحسنة التي نحملها في أذهاننا. وإن لم نلتزم برعاية نظرتنا الملحمية فسنجد أنفسنا فجأة قد أصابنا المَلَل من كوننا ثوريين وسنخسر رؤيتنا الملحمية.
- جاء في الرواية أن رجلا سأل الإمام الصادق(ع): لِمَن الثواب الأكبر، لأصحابك أنت الإمام الغريب أم لأصحاب آخر إمام في عصر الظهور؟ «قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِ اللهِ(ع): الْعِبَادَةُ مَعَ الْإِمَامِ مِنْکُمُ الْمُسْتَتِرِ فِي السِّرِّ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ أَفْضَلُ أَمِ الْعِبَادَةُ فِی ظُهُورِ الْحَقِّ وَدَوْلَتِهِ مَعَ الْإِمَامِ الظَّاهِرِ مِنْکُمْ؟» (کمالالدین/ ج2/ ص645) فأكّد له الإمام(ع) أنه واضح أن ثوابكم أكبر، لأن إِمامكم غريب وأنتم تتعرضون للأذى والاستهزاء والازدراء، وقد ضيّقوا الخناق عليكم وسلبوا حرياتكم: «عِبَادَتُكُمْ فِي السِّرِّ مَعَ إِمَامِكُمُ الْمُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ أَفْضَلُ... إِنَّكُم... تَنْظُرُونَ إِلَى حَقِّ إِمَامِكُمْ وَحَقِّكُمْ فِي أَيْدِي الظَّلَمَةِ قَدْ مَنَعُوكُمْ ذَلِكَ وَاضْطَرُّوكُمْ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْمَعَاشِ مَعَ الصَّبْرِ عَلَى دِينِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ وَطَاعَةِ إِمَامِكُمْ وَالْخَوْفِ مِنْ عَدُوِّكُمْ فَبِذَلِكَ ضَاعَفَ اللهُ أَعْمَالَكُمْ» (المصدر نفسه/ ص646).
- وحينذاك طرأتْ لحظة من الغفلة وافتقاد الروح الثورية على الرجل، فقال للإمام(ع): إذًا لماذا ندعو للظهور؟! لماذا ندعو الله أن يعجّل بزمن الظهور ونحن الآن نفوز بثواب أكبر؟ «قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا نَتَمَنَّى إِذًا أَنْ نَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الْقَائِمِ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي إِمَامَتِكَ وَطَاعَتِكَ أَفْضَلُ أَعْمَالًا مِنْ أَعْمَالِ أَصْحَابِ دَوْلَة الحَقّ» (المصدر نفسه/ ص646-647). هكذا هو الإنسان، إن أهملَ نفسه لحظة واحدة فسيسأم ثوريّتَه ويخسر رؤيته الملحمية. وما أجمل تقدير القرآن الكريم للذين لا يمَلّون ولا يفقدون رؤيتهم الملحمية حيث قال تعالى: «مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن یَنتَظِرُ» (الأحزاب/ 23)، فهؤلاء الرجال هم من استشهدت فئة منهم والفئة الأخرى بقيت على العهد تنتظر الفوز بالشهادة.
لا يمكن تحليل الأمور وتقويمها بشكل صحيح دون النظرة الملحمية
- لا تتصوروا أن الأشخاص الذين يمتلكون رؤية ملحمية وينظرون إلى جميع الأمور من منظار ثوري، لا يشعرون بالبهجة والسرور! لا تظنّوا أنهم قساة، بل إنهم، بالمناسبة، أليَن من الآخرين بكثير، وإن أفراحهم ومسراتهم أيضا تفوق أفراح الأشخاص غير الثوريين! بل بأي شيء تريد أن تبتهج بهجة حقيقية إن لم تكن ثوريا؟
- الذين لا يمتلكون رؤية ثورية لا حياة لهم بالمعنى الحقيقي للكلمة وليسوا بأحياء! فكيف لهؤلاء يا ترى أن يقيّموا الأمور دون رؤية وروح ثوريّتَين؟ من دون النظرة الثورية ستخطئون في تحليلكم السياسي لأوضاع المنطقة، ومن دون هذه الرؤية ستقعون في الخطأ عند دراسة الأوضاع السياسية في ايران، وكذا الحال بالنسبة لتحليل الأوضاع الثقافية، مثلا بمجرد مشاهدتكم لعدد قليل من خفيفات الحجاب ستقولون: لقد انتهى كل شيء! بينما إن نظرتم بنظرة ثورية لقلتم: إن الأوضاع أفضل بكثير من ذي قبل، رغم جميع المشاكل والصعاب الموجودة.
مشكلتنا هي أننا عاجزون عن نقل جمال الرؤية الملحمية والثورية
- إننا عاجزون عن أن ننقل جماليات الرؤية الثورية إلى الآخرين وهذه مشكلة عظيمة! الشهيد حُجَجي زوّد الناس جميعًا برؤية ملحمية دفعة واحدة؛ ففي كلامه مع طفله الصغير كان قد بثَّ للجميع شعورًا في منتهى الجمال والروعة بحيث أشعل نار الحسرة في قلوب الكثيرين. لقد أظهرت حصيلة الصور الجوية أن حوالي مليوني نسمة في طهران فقط شاركوا في تشييع جثمانه الطاهر، ولم يكن ليتحقق هذا الأمر إلا بسبب روعة الرؤية الثورية والملحمية!
- كانت نظرة الإمام الخميني(ره) الثورية بحرا مترامي الأطراف مهما تحدثنا عنه لم يكن كلامنا شيئًا. قصَّ شخص على الإمام(ره) أنه في أيام المظاهرات ضد نظام الشاه قبل انتصار الثورة الإسلامية "كانت هناك سيدة متقدمة في السن تقف بجانب الطريق وفي يدها فكّة نقود. ظننت في البدء أنها فقيرة، فاتجهتُ صوبها لأعرف خبرها، فقالت لي: لستُ فقيرة، بل أحمل بيدي قِطَعًا من فكّة نقود فئة ريالين كي لا يحتار في أمره مَن يريد إجراء اتصال هاتفي من الثُوّار!" لدى سماع هذه القصة لا غير قال سماحة الإمام(ره): إن هذا دليل على التحوّل الروحي عند أفراد الشعب ومؤشر على نصر الله وانتصار الثورة! (صحيفة الإمام/ ج7/ ص265)
- واليوم وفي السنوات الأخيرة نشاهد الكثيرين في زيارة الأربعين يقفون على قارعة الطريق وفي حوزتهم مئات الآلاف من أطباق الطعام لتقديمها للزوّار! فاليوم أيضًا إن كانت لدينا رؤية الإمام(ره) فسندرك أنّ ثمة خبر ما في الأفق!
- كان الشهيد آويني من أصحاب الرؤية الثورية، وقد عبّر عنه السيد القائد(حفظه الله) بتعبير "سيد شهداء أهل القلم". ومن خلال قراءة مؤلفاته ومشاهدة وثائقياته المعروفة بـ"رواية الفتح" يتبيّن أن هذا اللقب يليق به حقا. بالطبع هناك الكثير ممن يحمل الرؤية نفسها في وقتنا الحاضر، لكن شتان بين من يمتلك هذه الرؤية اليوم وبين من تميّزتْ رؤيته في ذلك الزمن بتلك الدرجة من الدقة والصحة.
- لنسأل الله سبحانه أن يهبنا النظرة الثورية وأن يوفقنا للاحتفاظ بها إلى نهاية المطاف، ومن بعد ذلك أن يساعدنا لننقلها إلى الآخرين بشكل جميل وصحيح، وهذا النقل الصحيح أيضا مهم للغاية. فبعض الأشخاص ممن شوّه النظرة الثورية عند نقلها للآخرين، تخلّى هوعن ثوريّته بعد مُدّة!
الاستراتيجية الأخرى لاكتساب الرؤية الصائبة هي مخالفة الهوى
- الاستراتيجية الأخرى لاكتساب الرؤية الصحيحة هي عدم اتّباع الهوى (علمًا بأن الرؤية الصحيحة حتى زمن الظهور هي الرؤية الملحمية ذاتها). فما إن تَمِل ذرةً لهواك حتى تُفسِد نظرتك الثورية. في الحقيقة إن "الهوى" و"الله" على طرفَي نقيض.
- روي عن الإمام الباقر(ع): «إِنَّ الْمُؤْمِنَ مَعْنِيٌّ بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ لِیَغْلِبَهَا عَلَى هَوَاها فَمَرَّةً یُقِیمُ أَوَدَهَا [اعوجاجَها] وَیُخَالِفُ هَوَاهَا فِي مَحَبَّةِ اللهِ، وَمَرَّةً تَصْرَعُهُ نَفْسُهُ فَیَتَّبِعُ هَوَاهَا فَیَنْعَشُهُ اللهُ فَیَنْتَعِشُ [أي: يُنهِضُه من سَقْطته] وَیُقِیلُ اللهُ عَثْرَتَهُ [أي: يتجاوز عن ذنبه وزلّته] فَیَتَذَکَّرُ وَیَفْزَعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَخَافَةِ [أي: يلتفت إلى نفسه ويتوب بعد أن أنهضَه الله من سَقْطته] فَیَزْدَادُ [بعد أن تاب] بَصِیرَةً وَمَعْرِفَةً لِمَا زِیدَ فِیهِ مِنَ الْخَوْفِ [أي إن بصيرة المؤمن ومعرفته ستزداد نتيجة الخوف الذي يصيب قلبه]» (تحفالعقول/ ص284). فلأنه ارتكب ذنبًا ينتابه الخوف وبالتالي تزداد بصيرته.
- ويسترسل الإمام الباقر(ع) موضحًا: «وَذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يَقُول: إِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّیْطانِ تَذَکَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُون» (الأعراف/ 201)، أي إن الذين يعتصمون بالتقوى إذا مسّهم طائف من الشيطان وأثّر عليهم، فإنهم يتذكّرون الحق ويكتسبون رؤية ثاقبة بحيث يعبّر عنهم القرآن الكريم بهذا التعبير: «فإذا هم مبصرون».
ما هو الأمر الذي يُفسد رؤية الإنسان؟
- ما الذي يُفسد رؤية الإنسان؟ روي عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: «إِنَّمَا الدُّنْیَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى لَا یُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَیْئًا» فالأعمى لا يرى إلا الدنيا ولا يمتد بصره إلى أبعد من ذلك، «وَالْبَصِیرُ یَنْفُذُهَا بَصَرُهُ وَیَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا» أما البصير فيدرك أن هناك، وراء هذه الدنيا، عالَم الآخرة أيضًا، «فَالْبَصِیرُ مِنْهَا شَاخِصٌ» فصاحب النظرة الصائبة يهجر الدنيا «وَالْأَعْمَى إِلَیْهَا شَاخِصٌ» بينما الأعمى كلما ينظر إلى الدنيا يهرول إليها أكثر فأكثر «وَالْبَصِیرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ» والبصير يتزود من الدنيا «وَالْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّد» أما الأعمى فيتزوّد للدنيا! (نهج البلاغة/الخطبة 133).
الهوى وحب الدنيا يسلبان الإنسان البصيرة
- هناك آيات وروايات عديدة تشير إلى أن الهوى وحب الدنيا يسلبان بصيرة الإنسان. فبحسب بعض الروايات ينظر الله إلى أعماق قلب الإنسان ليرى إن كان يهمّه، ولو مثقال ذرة، ماذا يقول أهل الدنيا عنه؟ فإن كان كذلك لا يحتفي به الله وملائكته ولا يحسبونه كثيرا من ذوي الشأن من الناس!
- يتنازل البعض عن روحه الثورية ومواقفه الملحمية من أجل نظرة الناس وحديثهم، أو طمعا بالوجاهة بينهم. تُعد المصائب الفاطمية وحادثة الباب والحائط من أعظم مصائبنا وأجلّها نوعًا ما، فقد ذكروا أن السيدة فاطمة الزهراء(س) صرخت صرخة سمعها قاطبة أهل المدينة، لكنهم لم يخرجوا من بيتوهم (لنصرتها)! لماذا؟ لأنها كانت في بيت علي بن أبي طالب(ع)! فماذا كانوا سيصنعون بنظراتهم إلى بعضهم البعض إن هبّوا لنصرتها؟ أيقولون لبعضهم ذهبنا لنصرة علي بن أبي طالب(ع)؟! كان هذا صعبا عليهم في تلك الأجواء. ولربما يخفي صاحب الزمان(عج) نفسه الشريفة عنّا في زماننا مخافة أن نسمع أنين وحشتِه ولا نهبّ لنصرته...