ضبط الذهن على طريق التقرب (المحاضرة9)
أهم أثر للدين والروحانية في الإنسان هو اكتسابه قوة في الروح
ينبغي أن تترسخ في المجتمع فكرة أن التديُّن يجعل من الإنسان قوة عظمى، وأن الصلاح المُتأتّي من الضعف ليس ذا قيمة
قوّة روح الإنسان تبدأ من قدرته على ضبط ذهنه
أغلب الفاشلين في الدراسة هم أناس موهوبون لا صبر لهم على التركيز
كيف لعاملَي "الخوف" و"طلب الكمال" أن يَقلِبا ذهنَ الإنسان سلبياً؟
الله تعالى، على عظمته، قد جعل نفسه وسيلة لتربيتنا إذ قال: فكِّر فِيَّ أنا!
لو لم يكن الإنسان قادراً على الالتفات إلى الله لما أمَرنا تعالى بالإكثار من ذكره.
التركيز على ذكر الله شيء صعب، أما "ذكر الله بشكل تكراري" فأمر سهل.
التفكير من دون القرآن الكريم كممارسة الرياضة من دون مُدرِّب!
قوة الإنسان الذهنية تزداد بالتربية والتعليم الدينيَّين / عدم نظر الناس إلى قوة الذهن كأثر من آثار التديّن يرجع إلى التبليغ الخاطئ للدين / بماذا نفكّر كي نضبط أذهاننا؟ / كيف نلفت أذهاننا إلى الأمور الحسَنة؟
- لا بد لقضية أنّ "الدين يمنح الإنسان القوة" أنْ تتحوّل في عُرف مجتمعنا إلى أمر واضح وبديهي. والمؤسف أن التعاليم التي تُبَث للدين والتبليغ له على مدى سنوات طوال لم يكن بالشكل الذي يجعل الناس ينظرون إلى اكتساب قوة الروح على أنه من أبرز آثار الدين، والروحانيات، والعرفان في الإنسان.
- في استطلاعات الرأي يعدد الناس، في العادة، مفاهيمَ من مثل الرأفة، والمعرفة، والكرم، والأدب، وأمثالها كأهمّ آثارٍ للدين. صحيح أن هذه الأمور جميعاً هي من آثار التديّن، لكن لنعلم أن هذه الصفات لا قيمة لها تقريباً بمعزل عن قوة الروح؛ ذلك أن "الصلاح المُتأتّي من الضعف ليس ذا قيمة!" فلا بد أن تترسخ في المجتمع فكرة أن الدين والروحانية يجعلان من الإنسان قوة عظمى.
- والقوة ليست قوة القتال والنزال فحسب، بل إن إحدى القوى المهمة هي قوة الذهن والقدرة على التركيز. وإن عدم نظر الناس إلى قوة الذهن كأثر من آثار التديّن إنما يرجع إلى التبليغ الخاطئ للدين.
- بالمنهاج السليم للتربية والتعليم الدينيَّين تزداد قابلية ذهن الإنسان على التركيز. ولو حصل هذا عملياً لقال الناس: "كل من يرتاد الموكب الحسيني والمسجد ويتربّى تربية دينية سيكون مؤهَّلاً لكسب أفضل العلوم حتى من خلال قابلية بسيطة؛ ذلك أن أغلب الفاشلين في الدراسة هم أناس أذكياء موهوبون لا صبر لهم على التركيز ومشتَّتو الذهن؛ أي إن واردات أرواحهم واضطراباتها لا تتيح لأذهانهم التركيز.
- لكن من أين تنشأ قوة روح الإنسان؟ إنها تنشأ من القدرة على ضبط الذهن. كما أن قوة الإنسان الذهنية تنشأ من المعادلة التالية: "لا تدع ذهنك يذهب إلى ما لا تريد، أما الشيء الذي تريدُه فركّز ذهنك عليه دون غيره". هذا أعظم مصدر للقوة في روح الإنسان ويمثل خطواته الأولى نحو الكمال.
- على أنه بالإمكان، قبل ذلك أيضاً، اتخاذ تمهيدات لاكتساب القوة الذهنية؛ كنمط الحياة أو بعض أنواع السلوك التي على المرء ممارستها أو الإقلاع عنها. فلا ينبغي للإنسان مثلاً الابتذال في النظر والسمع؛ أي لا ينبغي له سماع أي شيء فيحيد ذهنه نحو أي فكرة.
- يجب منع الذهن من التفكير السيّئ في المستقبل، وهو ما يستدعي القلق، ومن التفكير السيّئ في الماضي، وهو ما يوجب التحسّر. فإنّك إنْ سرّحتَ ذهنك فسيتّجه صوب الماضي التعيس أو المستقبل الذي يُحتمل أن يكون تعيساً! ينبغي أن تمتلك قدرة التفكير في زمانك الحاضر، إذ يرى علماء النفس أن هذا يمهّد لخلاص الإنسان من الكثير من مشاكله الروحية.
- الذي لا يستطيع السيطرة على ذهنه ينحدر ذهنه تلقائياً نحو السلبيات فيُبتلى بمشاكل فكرية وروحية جمة، كل ما في الأمر أن كثرة انتشار هذه الأمراض والخلال بين الناس يجعلها غير محسوسة! بل إن الأفكار السلبية تسيطر على البعض سيطرةً تجعل من الضروري أن تبادر كل حين إلى تشتيت ذهنه قائلاً: "يا هذا، غُصتَ في أفكارك! أخرج منها!" ذلك أنه كلما غاص في أفكاره أخذَتْه نحو الأمور السلبية!
- لقد جعل الإسلام أهم مناهجه، وهي الصلاة، وسيلة للتمرُّس على ضبط الذهن. فلماذا يوصينا القرآن الكريم قائلاً: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة»؟ (البقرة/45). إن أساس الصلاة هو: "فيمَ عليك أن لا تفكر، وفيمَ عليك أن تفكر"!
- في ماذا لا يجوز أن نفكر؟ في كل شيء سيّئ عن الماضي والآتي! بل إذا أراد المؤمن الاستغفار أيضاً (أي الكلام في معاصيه واستعراض ماضيه السيئ) فلا ينبغي له ذلك إلا مع الله، ولا يجوز له إطالة الفكر في تعاساته الماضية بمفرده دون الالتفات إلى الله تعالى، لأن هذا يورثه اليأس.
- دَيدَنُ إبليس حَرفُ الذهن نحو السلبيات ونحو ما لا يملكه الإنسان. كما يتسبب عاملان في كيان الإنسان، هما "طلب الكمال" و"الخوف"، في جعل ذهنه سلبياً. فمن ناحيةٍ، كونُك طالبَ كمال يجعلك تتألم من نقائصك، ومن ناحية أخرى إنك تحاول صون نفسك من المخاطر، والدنيا من حولك مليئة بها، فيجتاحك الخوف والقلق. فإن لم يخضع ذهنُ الإنسان إلى تدريب فإنه سيفكّر غالباً في السلبيات. إذاً عليك أن تروّض ذهنك، ومن وجوه ترويضه صرفه عن الأمور السيئة. والوجه الآخر لذلك صرفه إلى الأمور الحسنة.
- لا بد لتدريب الذهن من عمليتين: الأولى صرفُه عن الأمور السيئة، والثانية صرفه إلى الأمور الحسَنة، التي على رأسها الله سبحانه وتعالى نفسُه! فالله عز وجل، على عظمته، ومن فرط حُبّه لنا، قد جعل نفسه وسيلة لتربيتنا. يريد تعالى أن يمنحنا قوة في الذهن والفكر فيقول لنا: "فكِّر فِيَّ أنا؛ في قدرتي، في علمي.. في رحمتي، في أن كل شيء في يدي...".
- وإن ما يجعل الإنسان قادراً على التفكير في الله هو عظمتُه عز وجل. لاحظ أذكار الصلاة المهمة: "الله أكبر"، "سبحان ربي العظيم وبحمده"، "سبحان ربي الأعلى وبحمده"... كلها تشير إلى عظمة الله عز وجل.
- اللحظة التي تتطلب من الإنسان أكبر قدر من الالتفات في الصلاة هي لحظة قوله: "الله أكبر" في أولها. وفي الخبر إن المرء إذا كان حاضر الذهن في أول الصلاة أعانه الله تعالى، على طول الصلاة، على كسب بعض الالتفات. أما الذي يكون غير مبال في أول الصلاة فيقول له الله عز وجل: «يَا كاذِب، أَتخدَعُني؟!» (مستدرك الوسائل/ ج4/ ص96) ألا إنك تستطيع أن تلتفت إلى الله للحظة واحدة في أول الصلاة على الأقل!
- لو لم يكن الإنسان قادراً على الالتفات إلى الأمور الجيدة والإيجابية، ولا سيما الذات الإلهية، وعلى السيطرة على ذهنه لما كان الله عزّ وجلّ قد أمَرَنا بالإكثار من ذكره: «اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثيراً» (الأحزاب/41). بل لما كان قد توعّدَ المُعرِض عن ذكره بالعقاب: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً» (طه/124). إذاً نحن - بلا شك - قادرون.
- ابدأ بالقليل؛ أي حاول أن تذكر الله للحظة واحدة. فإن شرد ذهنُك أَعِدْه. واستمر على هذا المنوال، وأكثِرْ المرّات؛ أي المرّات التي "تذكر فيها الله" في حياتك كي يزداد مقدار ذِكرِ الله. والتركيز على ذكر الله صعب للغاية، أما ذكر الله بشكل تكراري فسهل جداً. ولهذا أوصونا بالإمساك بالمسبحة؛ فكما أن خيط المسبحة يحفظ خرزها من الانفراط والتناثر فإن المسبحة والذكر أنفسهما لا يدعان ذهنَك يشرد؛ تسبّح عشراً وأنت شارد الذهن، وفجأةً يلتفت ذهنُك في الحادية عشرة.
- عن النبي(ص) لأبي ذر(رض) قوله: «عَلَيْكَ بِتِلاوَةِ القُرْآن» (الخصال/ ج2/ ص525)، فالقرآن الكريم يجلب انتباهك إلى المفاهيم الجيدة؛ فيأخذ ذهنَك إلى موضعٍ من الجنة تارةً، وإلى رُكنٍ من النار تارة أخرى، وإلى مفهوم آخر تارة ثالثة.
- والتفكير من دون القرآن الكريم كممارسة الرياضة من دون مُدرِّب! لأن قلوبنا، من الناحية المعنوية والروحية، هي في يد الله وهو تعالى يكلّمنا بالقرآن الكريم. بادئ ذي بِدء أَبعِدْ عنك الشيطان الذي يُفسِد ذهنَ الإنسان، ثم اجلس إلى القرآن الكريم، وستحصل لك معجزة. في الحقيقة عندما تقرأ القرآن الكريم فإن الله يتحدث إليك، وإن ذهنَك في يده تعالى؛ ما يخطر في ذهنك أثناء تلاوة القرآن هو في يد الله، وكأنه تعالى يقول لك: اقرأ القرآن وسأحدّثك الآن من خلاله.
- عن علي أمير المؤمنين(ع) قوله: «الذِّكرُ مِفتَاحُ الأُنسِ» (غرر الحكم/ ص37) والأنس يفضي إلى أشد أشكال الحب. كما يُروى عنه(ع) أنك إذا ذكرتَ الله على الدوام نجوتَ من الغفلة: «بِدَوَامِ ذِكْرِ اللهِ تَنْجَابُ الْغَفْلَة» (غرر الحكم/ ص300ـ301). مارِس الرياضة وتمرّن مع الله تعالى، فقد كان ابن سينا إذا استعصتْ عليه مسألة علمية صلّى ركعتين فحلّها: "وكان إذا أشكلتْ عليه مسألة توضأ وقصد المسجد الجامع، وصلى ودعا الله عزّ وجلّ أن يُسَهِّلها عليه ويفتح مُغلقَها له" (شذرات الذهب في أخبار من ذهب/ ج5/ ص133)؛ أي كان يتريض مع الله كي تزداد قدرته فيتمكّن من تقليب العالَم ظَهراً لبطن.
- يُروى عن الله عز وجل في الحديث القدسي: «أَيُّمَا عَبْدٍ اطَّلَعْتُ عَلَى قَلْبِه فَرَأَيْتُ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّمَسُّكَ بِذِكْرِي تَوَلَّيْتُ سِيَاسَتَهُ وَكُنْتُ جَلِيسَهُ وَمُحَادِثَهُ وَأَنِيسَه» (عدة الداعي ونجاح الساعي/ ص249). لَشَدَّما يفكّر البعضُ في الله تعالى حتى يحب الله فكرَه وذهنَه إلى درجة ما لو حاول شيءٌ ما تشتيتَ ذهنِه يَحُولُ اللهُ نفسُه دون ذلك. خصِّصْ مقداراً يسيراً من ذهنك لإدارة شؤون حياتك واجعل القسم الرئيس منه لله وأوليائه، لنعمات الله وجنته وقيامته. اشغل ذهنك بالأمور المعنوية.