ضبط الذهن على طريق التقرب (المحاضرة8)
"التركيز على شيء معيَّن" صعب أمّا التغافُل (تشتيت الذهن) فأمر سهل.
يمكن أن تكون عملية الغفلة إرادية؛ فإننا نغفل عن الله تعالى دونما إرادة منا، فلنحاول إذًا أن نغفل عن الدنيا بإرادتنا!
البعضُ يشغَل ذهنَك بأمور تافهة، فلا تجالسه.
اعمل على التغافل أثناء الصلاة، أي أزِحْ من ذهنك كل ما يدخله عدا الله.
من أنجع طرُق ضبط الذهن "الغفلة"! / شَتِّت ذهنَك "عمّا لا ينبغي لك التفكير فيه" / أتقِنْ فَنّ "عدم التفكير"! / اقطع سبيل الأفكار السلبية إلى ذهنك!
- قد يَحْرِم الله تعالى عبادَه من النعم المادية والمعنوية لا لشيءٍ إلا لكونهم لا طاقة لهم على تحمّلها؛ أي إنهم عوضًا عن استغلال هذه النعم في سبيل رُقِيِّهم على الصعيدين المعنوي والمادي فإنها تكون سببًا في تسافلهم. إنّ من السيّئ جدًّا أن يُكتَب في مقدَّرات الإنسان أمورٌ طيّبة، ثم يقال له: "بما أنه لا طاقة لك على تحمّل هذا العطاء فقد حرمناك منه مخافة أن تفسُد"!
- امتلاك الطاقة على التحمّل يرتبط أساسًا بالذهن، أي إن على المرء أن لا يدع ذهنَه يَحيد عن الصواب إذا نال نعمة، بل لا ينبغي لذهنه أن ينحرف عن الصواب في البلية والنعمة معًا. فبحسب المنطق القرآني: لا يجوز للإنسان إذا تنعّم أن يقول: «رَبِّي أَكْرَمَنِ» (الفجر/15)؛ بمعنى أنني أستحق الاهتمام! ولا يجوز له أثناء البلاء أن يقول: «رَبِّي أَهَانَنِ» (الفجر/16)؛ أي أذَلَّني.
- يقول أحمد البزنطي: «دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ [الرضا](ع) أَنَا...» وبعض الأصحاب. «فَجَلَسْنَا عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قُمْنَا، فَقَالَ(ع): أَمَّا أَنْتَ يَا أَحْمَدُ فَاجْلِسْ. فَجَلَسْتُ... حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ فَلَمَّا أَرَدْتُ الِانْصِرَافَ... قَالَ: أَقِم»؛ أي: ابقَ. فرحتُ كثيرًا فـ«خَرَرْتُ لِلهِ سَاجِداً فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلهِ، حُجَّةُ اللهِ وَوَارِثُ عِلْمِ النَّبِيِّينَ أَنِسَ بِي مِنْ بَيْنِ إِخْوَانِي وَحَبَّبَنِي» وأبقاني في بيته ليلًا. وإذا بالإمام(ع) يفاجئني، «فَأَخَذَ بِيَدِي فَغَمَزَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ(ع) عَادَ صَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ فِي مَرَضِهِ فَلَمَّا قَامَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: يَا صَعْصَعَةُ، لا تَفْتَخِرَنَّ عَلَى إِخْوَانِكَ بِعِيَادَتِي إِيَّاكَ، وَاتَّقِ اللهَ» (مستدرك الوسائل/ ج12/ ص90). وقوله: «واتّقِ الله» يعني لا يخطُر هذا حتى في ذهنك.
- فمع أن البزنطي قال: «الحمد لله» غير أنّ شيئًا من «الأنا» كان في ذهنه. لذا نبّهَه الإمام الرضا(ع) إلى ضرورة تقوى الذهن، ففي الحديث أن الله تعالى قد يَحرِم عبدَه من العبادة مخافة أن يأخذه العُجْب: «وَلَوْ أُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنْ عِبَادَتِي لَدَخَلَهُ الْعُجْب» (الكافي/ ج2/ ص61).
- بلوغ مرحلة تقوى الذهن لا يكلّف شيئًا؛ فلستَ بحاجة إلى بذل مال، ولا إلى بذل نَفْس في سبيل ذلك، كل ما عليك هو أن تضبُط ذهنك! والصلاة أفضل فرصة للتمرّن على ضبط الذهن. كان الإمام الخميني(ره) يقول: "إنّ من أهم الأمور التي يُجيدُها كل عارفٍ صاحبِ معنى هو قدرته على السيطرة على ذهنه".
- وأحد أساليب ضبط الذهن الغفلة؛ أي الغفلة عن الدنيا! فلنحاول أن نتغافل عن الدنيا. ويمكن أن تكون عملية الغفلة إرادية؛ ألا إنك تغفل عن الله تعالى دونما إرادة منك، فلتحاول إذًا أن تغفل عن الدنيا بإرادتك!
- كان آية الله بهجت(ره) يقول: "إنّ علاج الرياء هو الرياء؛ بمعنى أن عليك أن تُرائي اللهَ!" (به سوى محبوب «نحو المحبوب»/ ص70). قل: "إلهي، لماذا أتباهى بنفسي أمام الأغيار؟ فلأتباهَ أمامَك!" فإنّ نفْسَك تحب أن تكون عزيزة لدى شخصٍ ما. فهلُمَّ إذًا وراءِ اللهَ واجعَل نفسَك عزيزًة عنده.
- وإنّ علاج الغفلة هو الغفلة؛ فكلما خطرتْ الدنيا ببالك أبعدها عنه. يقول آية الله بهجت(ره): "أَخرِج من ذهنك خواطر السوء التي تأتي إليه دون إرادة منك. فإن أتَتْ مرة أخرى فأَخرِجها ثانية". لستَ بحاجة إلى إزعاج نفسك، كلما أحسستَ أن فكرَك يميل إلى جهة ما اطرُد هذه الفكرة من ذهنك. فالتغافل هو أحد أنجع الطرق لضبط الذهن.
- التركيز، خصوصًا على الأشياء الغيبية، صعب أما تشتيت الذهن فأمر سهل. أي باستطاعة الإنسان تشتيت ذهنه عما لا ينبغي له التفكير فيه، وهذا أحد أهم التمارين لضبط الذهن. اسأل نفسك: "بأي الأشياء عليّ أن لا أفكر؟"
- في اختبار معروف في علم النفس لمجموعة من الأطفال وضعوا قطعة حلوى أمام كل طفل وقالوا لهم: "كل مَن لا يأكل قطعته من الحلوى نعطيه جائزة". وتركوا كل طفل مع قطعته مدة عشرين دقيقة وصوّروا سلوكَه بفيديو. لاحَظوا أن الطفل الذي ينظر إلى الحلوى ينفَد صبرُه في النهاية فيأكلها حتى وإن ركّزَ على صراعه الداخلي مع نفسه، أما الطفل الذي يدير وجهَه إلى الجهة الأخرى ويُكرِه نفسَه على تشتيت ذهنه فإنه لا يأكلها. بمعنى أن المجاهدة هنا لا تنفع. إذًا عليك أن تهرُب من التفكير في الأمر!
- في الحديث عن رسول الله(ص) أنه قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاح» (أمالي الطوسي/ ص526). فلا تشغَل في هذه الليلةَ فكرَك بالغد، بل فكّر في هذه الليلة ذاتها! حدِّثْ نفسك، مثلًا، أنك الليلةَ تريد أن تَمثُل بين يدَي ربك سبحانه وتعالى (كما لو كان يوم القيامة). لا تهتم ليوم غد. "أتقن فَنّ عدم التفكير!"
- بعض الأشخاص مثالٌ للغفلة وهو يحيد بذهنك نحو الأفكار السلبية والعبثية. فإنك تحاول عدم التفكير في بعض توافه الأمور أما هو فيأخذ ذهنَك إلى تلك الناحية. لا تصاحب أمثال هؤلاء ولا تجالسهم أصلًا! ففي الحديث: جالِس مَن إذا رأيتَه يذكّرُك بالله: «قَالَتِ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى: يَا رُوحَ اللهِ، مَنْ نُجَالِسُ؟ قَال: مَنْ يُذَكِّرُكُمُ اللهَ رُؤْيَتُه، وَ...» (الكافي/ ج1، ص39).
- من المهم جدًّا أن يتمكّن المرء من الابتعاد عن الأفكار السلبية. فعن الصادق(ع) قوله مثلًا: «لَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِفَقْر» (تحف العقول/ ص211). والقرآن الكريم يقول: «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ» (البقرة/268). ولا يقتصر الفقر بالضرورة على فقر المال، فالشيطان يخوّفنا في كل مجال قائلًا: "حاذر من الفشل!" فلا تخف من وسوسة الشيطان هذه وقل: إن لي ربًّا، «وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ» (فاطر/15)، وإنّ ما لله هو لي!
- يقول تعالى: «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاء» (البقرة/268). فإنْ صدّق الإنسان بوعد الشيطان الكاذب هذا فإنه، ولتجنُّب الفشل، سيقع في الخطأ ويرتكب الفحشاء والسيئات. على أن الفحشاء أنواع شتى وليس كلها من جنس واحد.
- ابتعد عن الشيطان، فإنه عدوك! اعتبره عدوَّك. يقول تعالى: «فَاسْتَعِذْ بِالله» (الأعراف/200)؛ أي: إلجأ إلى الله فرارًا من الشيطان. لاحظ كيف يلوذ الطفل بوالديه إذا أحسّ بالخطر. فلنتعلم من الأطفال هذا الإحساس الجميل ولنَلُذْ بالله عزّ وجل.
- من التقنيات الجيدة لمواجهة الأفكار السلبية هو ما رُوي عن قول الإمام الحسن المجتبى(ع): «اجْعَلْ مَا طَلَبْتَ مِنَ الدُّنْيَا فَلَمْ تَظْفَرْ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِك» (كشف الغمة/ ج1/ ص572). فإن أحببتَ شراء سيارة معيَّنة أو منزل بعينه فلم تستطع ذلك فأَخرِج هذا الشيء من ذهنك، ولا تسمح بأن يراوده إلا المقدار التالي: "أحببتُ ذلك، فلم يتحقق". فالتفكير في هذا الأمر سيؤذيك. أي: فلتتغافَل عن هذا الموضوع، ولتسأل الله: إلهي، اجعلنا في غفلة عما لا تحب ولا ترغب".
- يقول جل وعلا: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً... لِنَفْتِنَهُمْ فيه» (طه/131)؛ أي: لا تُطِل النظر إلى دنيا الآخرين ولا تفكر فيها، فإني لم أُعطِ أحدًا شيئًا إلا لامتحانه! وقد رُوي عن رسول الله(ص) في تفسير هذه الآية قوله: «مَنْ لَمْ يَتَعَزَّ بِعَزَاءِ اللهِ تَقَطَّعَتْ نَفَسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَات» (تفسير القمي/ ج2/ ص66)؛ أي: مَن لا يعمل بهذا النهج التربوي الإلهي يموت من فرط حسرته.
- اعمل على التغافل أثناء الصلاة، فقد جاء في الحديث: «إِذَا دَخَلْتُمْ فِي الصَّلَاةِ فَاصْرِفُوا لَهَا خَوَاطِرَكُمْ وَأَفْكَارَكُم» (سعد السعود/ ص40). أزح عن ذهنك كل خاطر يأتيك أثناء الصلاة. وإن أفضل موضع للتمرّن على هذا الشيء هو الصلاة. ثم يقول: «...فَأَبْعِدُوا عَنْ نُفُوسِكُمْ أَفْكَارَ الدُّنْيَا وَهَوَاجِسَ السُّوء». وعندما يأمرون(ع) بذلك فهذا يعني أنك قادر على طرد هذه الأفكار من نفسك.
- فلنحاول أن لا ندع الأفكار السلبية بأنواعها تأتي إلى أذهاننا. وإنْ نجحتَ في منع مستوًى من الأفكار السلبية من دخول ذهنك، دخلَه مستوًى آخر منها. هذا الأخير أيضًا اطرُدْه، وسيأتيك مستوًى آخر، وهكذا. حتى أولياء الله لديهم هذا الصراع، كلٌّ بحسب مرتبته.
- أوحى الله عز وجل لإبراهيم(ع) أن: "اذبح ولدك من أجلي". ولو كان قد خطرَ في ذهن إبراهيم(ع) ساعتَها: "لكن لماذا؟!" لكان فقدَ كل درجاته العالية تلك. لقد خرج من امتحانه بنجاح كبير، لكن مُنقَبِض الصدر من أنه لم يضحِّ بإسماعليه في سبيل ربه. أوَيُمكن أن لا يضحّي العاشق في سبيل معشوقه؟!...