ضرورة الوعي السياسي (2)
بعد ما استعرض سماحة الشيخ بناهيان في تكملة سلسلة أبحاث «استعراض تحليلي لتاريخ الإسلام» في هيئة الشهداء المجهولين الأسبوعية، أحداثَ فترة الدعوة النبوية ومرحلة هجرة النبي(ص)، عمد إلى دراسة حكومة النبي(ص). فتطرّق إلى ضرورة الوعي السياسي بين الناس ومدى اهتمام النبي(ص) بهذا الوعي. فإليكم أهمّ المقاطع من كلمته:
ليس مجرّد العمل الصالح معيارا في صلاح الإنسان/ يجب أن يكون العمل الصالح جديرا بتمهيد الإنسان للقاء الله
- إن التعاليم التي تعطى إلى الجنود ليست جميعها تعاليم عسكريّة بشكل مباشر، بل بعضها كالاستعراض العسكري والحركات الرياضية لا ترتبط بالعمل العسكري مباشرة، أو على الأقل لا يمكن فهم علاقتها بالعمل العسكري مباشرة، ولكنّها وفي ضمن مراحل معقّدة تنفع العمل العسكري وساعة القتال وتوطّن الجندي للحرب.
- هناك تعاليم تدرّس في المعسكرات قد يعترض عليها بعض الجنود أن: «لا نعرف ما علاقة هذه الدروس بالحرب؟!» أنا بودّي أن أشبّه هذه الحالة بقضيّة «كمال الإنسان». فقد أمرونا بإتيان بعض الأعمال الصالحة ولكنّنا لا نعرف علاقة أكثر هذه الأعمال بكمالنا.
- كما أن الإنسان كائن معقّد ذو شعب، فكماله أيضا قضية معقّدة غير بسيطة. فلا يمكن أن نقول: إن كمال الإنسان هو أن لا يكذب ولا يسرق ويكون رحيما و... فليست هذه الخصائص تمثّل الذروة في كمال الإنسان. المفترض هو أن نصل إلى هدفٍ معيّن عبر الأعمال الصّالحة وتجنّب الأعمال السيئة كالكذب ولكن لم يوضّح أحد هذا الهدف بشكل جيّد. إن المقام الذي نحن في طريقنا إليه عبر هذه الأعمال الصالحة، مقام يمهّدنا إلى «لقاء الله». يعني إنه سیغیّر ذات الإنسان وماهيّته ويوسّع سعته الوجوديّه ليكون أهلا للقاء الله. إذ لابدّ للإنسان من أن يحظى بسنخيّة وأهليّة للقاء الله.
- ليس أداء الأعمال الصالحة أو تجنب الأعمال السيئة معيارا في حدّ ذاته، بل المعيار هو ما يحصل للإنسان عبر هذه الأعمال. فعلى سبيل المثال، ينطوي تجنب الكذب على أثر خاص وهو الذي يهمّنا. فلعل الإنسان يتجنّب الكذب ولكنه لا يحصل على ذاك الأثر بسبب سوء نيّته.
- يفترض للجندي أن يتأهّل بعد التدريب في المعسكر ويحصل على قدرات يقوى بها على الحرب. ولذلك فلابدّ أن يتمتّع بلياقة جسدية عالية وبروح الطاعة للقائد وبمهارات أخرى لكي يؤدّي دوره الصحيح في ساحة الحرب. هذا ونحن نستطيع أن ندرك مقتضيات ساحة القتال، ولكن لم يكن أحد منا قد شاهد يوم القيامة ليرى احتياجات الإنسان في لحظة لقائه مع الله. ينكشف باطن الناس وتبلى سرائرهم يوم القيامة (یَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق/9] فسوف ندرك يومئذ كيف تنفع الناس أعمالهم في الدنيا في لحظة لقاء الله؟ بينما هنا في هذه الدنيا وقبل الانتقال إلى الآخرة فالأمر معقّد جدّا، وشرح حقيقة كمال الإنسان ليس بهيّن.
في معسكر الدنيا نتلقّى بعض التدريبات لكي نتدرّب على لقاء الله/ ما علاقة الزواج بلقاء الله؟
- نحن في معسكر الدنيا نتعلّم ونتدرّب لكي ننتقل إلى مكان آخر وهو مقام «لقاء الله»، فلابدّ لنا أن نتدرّب لذلك المكان. ولذلك فإن الله سبحانه قد هيأ لنا بعض الظروف التي تأهّلنا لذاك الموقف.
- فعلى سبيل المثال لابدّ للنساء في هذه الدنيا من الزواج مع رجال لا ينفكون عن بعض النواقص والمشاكل في رأيهنّ لأنها ناتجة من خصائص الرجولة الذاتيّة. ومهما حاول النساء لإصلاحهم لا يُصلحون فيضطرن إلى تحملّهم. ومن جانب آخر لابدّ للرجال من الزواج مع النساء اللاتي يجدونهنّ غير منفكّات عن بعض الإشكالات والنواقص اللتي هي مقتضى صفات وخصائص الأنوثة ولا يمكن حلّها بطبيعة الحال فيضطرّون إلى تحملّها. طيّب ما حسن هذه الظروف للنساء والرجال وكيف تنفعهم في التأهّل للقاء الله؟ وأساسا ما تأثير هذا التحمّل في استعداد الإنسان إلى لقاء الله؟ فمع أنه كان بإمكان الرجل والمرأة أن يتعبّدا عمرا طويلا ليتأهلا للقاء الله، ما علاقة الزواج وتكوين الحياة الأسرية بلقاء الله؟ الواقع هو أن الزواج بكل ما ينطوي عليه من حلاوات ومشاكل وصعوبات، يأهّل الإنسان إلى لقاء الله، ولكن إدراك هذه العلاقة بينه وبين لقاء الله أمر معقّد ليس ببسيط.
- إن مشاكل ما بعد الزواج قد استوقفت كثيرا من الأزواج فتجدهم يقولون: «لو لم يكن هذا زوجي أو هذه زوجتي لكنت عبدا صالحا لله!» أو يقولون: «لو لم أكن أعيش مثل هذه الظروف وكنت أعيش تلك الظروف لكنت عبدا صالحا!» في حين أن أساس الموضوع هو كيفية التعامل مع هذه المقدّرات التي أعدّها الله للإنسان ليستعدّ عبر هذه المقدّرات للقاء الله.
- لقد مزجت حياة الإنسان بمثل هذه الصعوبات. فعلى سبيل المثال رزقك مرهون بكدّك وجهدك. مع أن الله كان قادرا على رزقك أيسر بكثير ومن دون حاجة إلى عمل، ولكنّه قدّر لأغلب الناس أن يكون رزقهم نتيجة كدّ اليمين وعرق الجبين. فكل هذه المقدّرات في الواقع تمهّد الإنسان للقاء الله. كما أن الله سبحانه يقول: (یَا أَیُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ کادِحٌ إِلى رَبِّكَ کَدْحاً فَمُلاقیه) [الانشقاق/6]
لم يخلقنا الله لنكون صالحين ونطيعه وحسب
- لا تحسبوا أحداث العالم بسيطة. فعلى سبيل المثال لا تزعموا أن الله كان يريد أن نكون أناسا صالحين وعليه ففرض لنا مجموعة من الأعمال الصالحة. بل الواقع هو أن نقول: «لقد فرض الله علينا هذه الأعمال الصالحة لكي نستعدّ عبر هذه الأعمال للقائه». وبالتأكيد إن الأعمال التي فرضها الله علينا في معسكر الدنيا لم تكن أعمالا قبيحة وسيئة قط. ولا شكّ في أن جميع الأعمال التي قد وصّانا الله بها هي أعمال صالحة وتنطوي على فوائد ومحاسن ذاتيّة، ولكن لابد أن نعرف أن لم يخلقنا الله لتحصيل تلك المحاسن الذاتيّة المرتبة على الأعمال الصالحة. يعني لم يخلقنا الله لكنون أناسا صالحين وحسب ثم نموت، ليحشرنا في الآخرة في الجنان ويتحفنا بالثواب.
- تتّسم أحكام الله بالحسن والجمال، ولكننا لم نخلق لأداء هذه الأحكام الجميلة وحسب، بل قد خلقنا لامتثال هذه الأحكام في سبيل أن نستعدّ لشيء آخر لا نعرفه جيّدا. ولكن نعرف بالإجمال أن هذا الشيء الآخر هو لقاء الله.
من أهمّ برامج الله لتمهيد الإنسان للقائه هو التحلّي بالوعي السياسي/ التحلّي بالوعي السياسي جزء من العمليّة التربويّة للقاء الله
- بعد هذه المقدّمة، نشير إلى أحد أهم برامج معسكر الحياة الدنيا لتربية الإنسان. من أهمّ البرامج التي تمهّد الإنسان للقاء الله والتي تعتبر أصعب مرحلة تعليميّة له هو التحلّي بالبصيرة السياسيّة. ففي هذه المرحلة ينبغي للإنسان أن يكون قد ابتعد كثيرا عن الجهل وحظي بمرتبة عالية من النور والمعنويّة لكي يعي هذا البرنامج وينجح فيه.
- التحلّي بالوعي السياسي جزء من برنامج معكسر حياة الإنسان في هذه الدنيا. وإنه في ضمن العمليّة التربويّة المؤدّية إلى لقاء الله. كلّما جاهد النبي(ص) في هذا المجال، لم يبلغ هذا الوعي الديني العالي بعد وفاة النبي(ص) إلا أربعة. «قَالَ عَلِيٌّ ع إِنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ص غَیْرَ أَرْبَعَة» [رجال الكشي/11 و اختصاص المفید/6 و سلیم بن قیس/2/598]
- ولا أقصد من الوعي الديني العالي، الوعي السياسي بل الوعي الديني نفسه، لأن سياستنا عين ديانتنا. إذن من لم يحظ بالوعي السياسي يفتقد الوعي الديني أيضا. إذ لا يعرف المطلوب منه بعد. فإن الله لا يريد منّا الصلاة والعبادة وحسب، وإلّا لكان قد رضي عن إبليس إذ كان يقوم بكل هذه الأعمال.
- وأمّا أنّه ما العلاقة بين لقاء الله والوعي السياسي، فهذا ما يحتاج إلى بحث مفصّل ليس مجاله الآن، وبإمكانكم أن تفكّروا في هذه المسألة.
كان النبي(ص) بصدد إيصال الناس إلى قمّة عالية باسم «الوعي السياسي»/ ولكن لم يبلغ هذه القمّة إلا أربعة
- بدأ النبي الأكرم(ص) في بداية تاريخ الإسلام بتربية الناس، ولعلّ من أسهل مراحل التربية هي تثقيفهم على القانون. طبعا لا يخفى على من درس التاريخ أن العرب يومئذ لم يكونوا بعيدين عن القانون والحضارة جدّا. فكان من أسهل أدوار النبي(ص) هو دعوة الناس إلى بعض الأعمال الصالحة كالصلاة والصدق وغيرها.
- ولكن لابدّ أن نعرف أن نبيّ الإسلام(ص) بعظمته والذي كان الأنبياء جميعا مقدمة لظهوره، كان يريد أن يوصل الناس إلى أيّ قمّة؟ بإمكاننا أن نقول: إن هذه القمّة هي الوعي السياسي وإلّا فباقي القضايا أسهل منها. أفهل استطاع النبي(ص) أن يأخذ بأيد الناس إلى تلك القمّة؟ الجواب هو أن قد بلغها أربعة فقط.
ما هي قمّة الديانة التي لم تبلغها الأمّة؟ الوعي السياسي العالي
- أيّ أقسام الإسلام قد تحقّق في زمن النبي وأيّ الأقسام لم يتحقّق؟ يبدو أن قد انحلّت بعض الأحكام مثل الصلاة والصوم والزكاة والجهاد والشهادة ولم يكن المجتمع يعاني من مشكلة يومئذ. إذن أيّ قسم بقي بلا عامل؟ أولم يكن هذا القسم يمثّل أعلى مراتب الدين؟ فلا يمكن أن نقول: لقد تحقّقت أعلى مراتب التديّن وإنما كانت قد بقيت مشكلة فرعية فقط! كيف يكون قد بلغوا القمّة في التديّن ولكنّهم لم يجتازوا سفح الجبل؟!
- فما هي قمّة الدين التي لم تصل إليها الأمّة يومئذ؟ وما هي هذه القمّة التي إن لم يكن قد دعا إليها النبيّ، فكأنه لم يبلّغ رسالته (وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَه) [المائدة/67]؟ إنه الوعي السياسي الرفيع والعالي جدّا الذي لم تبلغه أمّة الإسلام يومئذ.
ينبغي للبرنامج التربوي أن يكوّن أركان شخصية الطفل، بحيث يميل عند كبره إلى الدين
- أوقفوا هذا الموضوع في هذه النقطة. هنا نريد أن نطرح موضوعا آخر ثم نرجع إلى هذه النقطة. اعتقادي في القضايا التربوية هو أنه ينبغي للبرنامج التربوي أن يكوّن أركان شخصيّة الطفل، بحيث يميل عند كبره إلى الدين تلقائيّا. نحن لا نحتاج إلى ضخّ التعاليم الدينية في السنين السبع الأولى من عمر الطفل، وحتّى إن لم نعلّمه شيئا من الدين فلا بأس. فليست إسلاميّة المدرسة بهذه التعاليم.
- حسبنا أن نمرّن الطفل على التفكير المنطقي والإبداع وأن نعزّز فيه بعض المفاهيم الإنسانيّة. عند ذلك سوف يصلّي هذا الطفل صلاة الليل تلقائيّا بلا حاجة إلى تأديبه بالتعاليم الدينية. فعلى سبيل المثال من مؤشرات الإبداع هو أن يكون الإنسان مستقلّا لا يقلّد الآخرين وحرّا غير مرهون بتحسينهم ولومهم. فإنه سوف يكون عبدا لله، لأن عبد الله هو من آمن بأن «لا إله إلا الله» واقعا.
إن توفّرت مقدّمات التديّن في شخصية الإنسان، يسهل عليه ذلك/ طرق إصلاح جذور شخصية الطفل في روضات الأطفال
- إن توفّرت مقدّمات التديّن المعنويّة في شخصيّة الإنسان، يسهل عليه ذلك. فعلى سبيل المثال في موضوع الولاء، إن خضع الإنسان للنظام التسخيري، يستعدّ للولاء ولا يحتاج عندذلك إلى أن تقنعه بقوّة الأدلّة والبراهين.
- فما الذي يجب أن نفعله في روضة الأطفال لكي يستعدّ الأطفال للولاء؟! في البداية يجب أن نصلح جذور شخصيتهم. فعلى سبيل المثال نعدّ لهم لعبة، بحيث يتعرّف كل طفل عبر هذه اللعبة على الفوارق الموجودة بينه وبين غيره، ثم يتقبّل هذه الحقيقة برحابة صدر وهي أنك تحظى بهذه المواهب وغيرك يحظى بمواهب أخرى. فلنوطّنه منذ الصغر والطفولة على معرفة الفوارق وتقبّلها. ولا نحاول أن نوحّد بين الجميع ونسعى لنجعلهم سواء في كلّ شيء.
- تحاول أنظمة التربية والتعليم عادة أن توحّد بين الطلاب جميعا تحت عنوان العدالة، خلطا منهم بين العدالة والمساواة. مع أن في كثير من الأحيان ليس عملهم عدالة، بل توهمّ العدالة أو تفسيرا خاطئا عن العدالة. فعلى سبيل المثال، لا ينبغي أن يكون الثواب والعقاب بطريقة موحّدة للجميع. بل قد تقتضي العدالة أن يطرد أحد الطلّاب بثلاث غيابات، ولا يطرد الآخر حتى بعشر غيابات.
- بمقتضى النظام التسخيري «أنا أعرف شيئا وأنت لا تعرفه، وأنت تعرف شيئا وأنا لا أعرفه»، فلابد أن أتواضع لك لما تعرفه أنت وأنا أجهله، وكذا العكس. لابدّ أن نطيل التمرين على هذا الأمر. فأولئك الذين يخضعون لهذه الحقيقة بسهولة، يستطيعون أن يتقبّلوا تفضيل الله بعض الناس على بعض برحابة صدر. ولكن المشكلة هي أن كثيرا من الناس لا يقدرون على تقبّل هذه الحقيقة. فعلى سبيل المثال، كثير من الناس لا يستطيعون أن يتقّبلوا أفضلية إنسان مثلهم وتفوّقه في تخصّصه ومهنته كتصليح بعض الأجهزة أو مهنة الكهربائية.
- في بعض الأحيان يُحوِجُ الله بعض الشخصيات الكبار إلى أشخاص صغار غير مهمّين. مثلا قد احتاج النبي سليمان(ع) إلى هدهد ليعطيه خبرا كان يجهله. فليس لله مع أحد قرابة، فقد جعل الناس يحتاج بعضهم إلى بعض. فكيف يكون ولائيا من لم يخضع للنظام التسخيري، في حين أنه لم يحظ بالركائز الشخصية المحتاج إليها في الولاء؟
تتبلور إحدى أهم ركائز شخصيتنا عبر «الوعي السياسي»/ كان أكثر الناس على مرّ التاريخ یتبرّمون من أيّ نشاط سياسي
- إجمال القضيّة هي أن لابدّ أن تستعدّ الركائز الشخصية للتديّن وأن تتأهّل للقاء الله، وتتبلور إحدى أهمّ ركائز شخصيتنا عبر «الوعي السياسي». فحاولوا أن تكونوا أشخاصا سياسيّين وتحظوا بوعي سياسي عال.
- يتبرّم كثير من الناس من النشاط السياسي وحتى من التفكير في القضايا السياسيّة! كما كان هذا حال أكثر الناس في أكثر المجتمعات وعلى مرّ التاريخ. وحتى الآن في البلدان الغربيّة إذا أراد بعض أفراد الشعب أن يكونوا مهتمّين بالشؤون السياسيّة كثيرا، غاية ما يقومون به هو أن يقولون: «ما هو برنامج هذا المرشّح لرئاسة الجمهورية؟ هل يريد أن يصعّد الضرائب أم يقلّلها؟ فإن أراد أن يصعّد ما علينا من ضرائب فلن ننتخبه!» ولا يهتمّون بشيء آخر. كما أن كثيرا من الكسبة وأصحاب الدكاكين لا يكترثون بالاقتصاد الكلّي. إن في الاقتصاد الكلّي معادلات معقّدة تفرق في بعض الأحيان عن الاقتصاد الجزئي بكثير، ولكنّها مهمّة ومؤثرة جدّا.
لا يتحقّق الظهور إلا بعد أن أصبح أكثر الناس سياسيّين/ إذا أصبح جميع الناس سياسيّين، سوف تضيق الساحة السياسيّة بتيّارات النفاق
- إن السياسات الكلّية معقّدة جدّا، وقد فرض الله علينا في ما فرض أن نتحلّى بالوعي السياسي. ولكن أكثر الناس يتبرّمون من الأوساط السياسيّة، ولذلك على مرّ التاريخ، وفي مختلف الأنظمة الديكتاتورية والديمقراطيّة، حكمت فئة قليلة من الناس أكثريةَ الشعب. ولا يتحقّق الظهور إلا بعد أن أصبح أكثر الناس سياسيّين، كما أن بعد الظهور سيزداد الناس وعيا وبصيرة في القضايا السياسيّة.
- بعد أن مسح الإمام المهدي على رؤوس الناس وأكمل عقولهم [الكافي/1/25]، أحد أهمّ مصاديق العقل هو «العقل السياسي». إذن فيصبح جميع الناس سياسيّين ويتحلّون بالوعي السياسي. وإذا أصبح الجميع سياسيّين تضيق الساحة السياسية بتيارات النفاق. إذ سوف يشعر الناس بأمراض قلب الرجل السياسي من فلتات لسانه. وسوف يقدر الناس على تحليل كلام رجالهم السياسيّين وأن يعرفوا مثلا أن فلانا من السياسيّين يؤكد على موضوعٍ ما أكثر من استحقاقه.
ما لم يصبح أكثر الناس سياسيّين، لا يزال يسيطر فئة قليلة عليهم
- إذا بلغ الناس إلى أوج الوعي السياسي، عندئذ إذا خطب رجل سياسي أو صرّح بتصريح ما، يعرف الجميع كم قد انطلق في كلامه من الأهواء النفسانيّة، وما هو الهدف الذي يرمي إليه. فما لم يكن الناس هكذا، لم يصلوا إلى أوج الوعي الديني. وكان النبي(ص) بصدد إيصال الناس إلى هذه النقطة، لا أن يعتكفوا في بيوتهم ويصلّوا فقط. ولا شك في أن الغاية من الوصول إلى هذه النقطة أي الوصول إلى الوعي السياسي، هو الوصول إلى الهدف الرئيس وهو التأهّل والتهيؤ للقاء الله.
ما لم تخوضوا في ساحة الفكر السياسي لن تصبحوا أهلا للقاء الله
- الساحة السياسية يعني التفكير حول العالم وتعاقيده العظيمة. فما لم تخوضوا في هذه الساحة لن يكبر قدركم، وإن لم تكبروا لن تتأهلوا للقاء الله العظيم. ولكن أكثر أهل العالم ليسوا بسياسيّين. وإذا كان كذلك لا يزال تسيطر عليهم فئة قليلة وتحكم مقدّراتهم كيف تشاء.
لماذا استطاعت انجلترا الصغيرة أن تسيطر على كثير من البلدان؟
- هل تعلمون كم مساحة انكلترا؟ لعلّ مساحتها لا تزيد عن مساحة إحدى محافظاتنا. إذن كيف استطاعت أن تسيطر على كثير من البلدان؟ ويا ترى كم كان عدد قوات جيشهم؟ الواقع هو أنهم قد استطاعوا أن يهيمنوا على كثير من البلدان بسبب مهارة واحدة يملكونها وهي: «في كل مجتمع، إذا استطعتم أن تؤثروا على بعض الخواص المؤثّرين، تستطيعون بعد ذلك أن تسيطروا على باقي أفراد المجتمع، إذ أن أكثر الناس يتبرّمون من الشؤون السياسيّة».
- كون أكثر الناس بعيدين عن الأجواء السياسيّة قد سنّى لمستكبري العالم أن يهيمنوا عليهم. هنا يأتي هذا السؤال وهو: ما علاقة هذا البحث برسالة الأنبياء؟
الإمام الصادق(ع): «مَنْ أَطَاعَ رَجُلًا فِی مَعْصِیَةٍ فَقَدْ عَبَدَهُ»/ ليست مشكلتنا الرئيسة عبادة الأوثان، بل إطاعة الرجال
- يقول الإمام الصادق(ع): «مَنْ أَطَاعَ رَجُلًا فِی مَعْصِیَةٍ فَقَدْ عَبَدَهُ» [الكافي/2/398] قد يقول البعض: «نحن لم نعبده، وإنما أطعناه لنتّقي شرّه». في حين أن القضيّة ليست بهذه البساطة. فإننا إن أطعنا أحدا في معصية الله فقد عبدناه وأصبح ربّنا. ولذلك ليست مشكلتنا ـ نحن المسلمين ـ الرئيسة، عبادة الأوثان، وإنما هي «إطاعة الرجال».
- يقول الإمام الصادق(ع) حول قوله تعالى: «وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَة»[مريم/81] أيْ یَکُونُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِینَ اتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَیْهِمْ ضِدّاً یَوْمَ الْقِیَامَةِ وَ یَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ وَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ إِلَى یَوْمِ الْقِیَامَةِ؛ لَیْسَتِ الْعِبَادَةُ هِيَ السُّجُودَ وَ لَا الرُّکُوعَ وَ إِنَّمَا هِيَ طَاعَةُ الرِّجَالِ، مَنْ أَطَاعَ مَخْلُوقاً فِي مَعْصِیَةِ الْخَالِقِ فَقَدْ عَبَدَه» [تفسير القمي/2/55]
أوج رسالة الأنبياء الوعي السياسي
- عَنْ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع: عَنْ رَجُلَیْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَیْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِی دَیْنٍ أَوْ مِیرَاثٍ فَتَحَاکَمَا إِلَى السُّلْطَانِ وَ إِلَى الْقُضَاةِ أَ یَحِلُّ ذَلِكَ قَالَ مَنْ تَحَاکَمَ إِلَیْهِمْ فِی حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ فَإِنَّمَا تَحَاکَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَ مَا یَحْکُمُ لَهُ فَإِنَّمَا یَأْخُذُ سُحْتاً وَ إِنْ کَانَ حَقّاً ثَابِتاً لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِحُکْمِ الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ یُکْفَرَ بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِه) نساء/60 قُلْتُ: فَکَیْفَ یَصْنَعَانِ قَال: ...؛ [الكافي/1/67]
- وكان يقول الإمام الخميني(ره): «لو فرضنا أن أمريكا قد عرضت علينا مقترحا إسلاميّا إنسانيّا مئة بالمئة، نحن لا نصدّق بأنهم يخطون خطوة واحدة لصالحنا ومن أجل السلام. وحتى لو قالت أمريكا وإسرائيل «لا إله إلا الله» نحن لا نقبل.» [صحيفة الإمام الفارسية/ج15/ص339]
- قرّوا بأن بعض الأيادي قد ربّتنا على الابتعاد عن السياسة. فقد أصبحنا وبشكل مقزّز أخلاقيين ومعنويين ولكن بعيدين عن السياسة وغير مكترثين بأكثر عامل حاسم وأعقد ساحة مؤثرة في مصير الناس ومستقبلهم. بينما كان الإمام الخميني(ره) يقول: «والله إن الإسلام كله سياسة، فقد عرّفوه لنا بشكل سيّئ» [صحيفة الإمام(الفارسية)/ج1/270] وقال في مكان آخر: «الإسلام دين السياسة قبل أن يكون دين المعنوية» [صحيفة الإمام(الفارسية)/ج6/467]
- كما كان الوعي السياسي يمثّل أوج رسالة الأنبياء. ولكن أيّ من مناهجنا الدراسية وأنظمتنا التعليمية وبعد مضي 35 سنة من انتصار الثورة، تعلّم الأطفال والطلاب هذه المعارف بشكل صحيح؟ ثم نتيجة تقصيرنا في هذا المجال هو تأخير فرج مولانا صاحب الزمان(عج).