ضرورة الوعي السياسي (1)
في تكملة سلسلة أبحاث «استعراض تحليلي لتاريخ الإسلام» في هيئة الشهداء المجهولين الأسبوعية، قام سماحة الشيخ عليرضا بناهيان بدراسة قسم من سيرة الإمام الرضا(ع) السياسيّة وموقع محاربة الاستكبار في منظومة المعارف الدينية. فإليكم أهمّ المقاطع من كلمته:
إذا تعلّق أمر الله بأي شيء، يكون ذلك الشيء مصدرا للمعنوية/ وقد تعلّق بالقوّة والسياسة أمر الله
أيّ شيء تعلّق به أمر الله، يصبح مصدرا للنور والقداسة والمعنويّة. يعني إذا قام الناس بعمل ما بنيّة امتثال أمر الله، يزدادون نورا ومعنويّة. وعليه فلابدّ أن نعتبر عملهم عملا معنويّا مقدّسا. إذا تعلّق أمر الله بالصلاة، تصبح الصلاة بطبيعة الحال محلّا لتزوّد النور والمعنويّة. وإذا تعلّق أمره بالعمل الاقتصادي، يصبح العمل الاقتصادي إذا كان بنيّة امتثال أمر الله، عاملا لازدياد نور الإنسان ومعنويّته. وكذلك إذا تعلّق أمر الله بالزواج، يصبح الزواج مصدرا للنور والمعنويّة.
- وكذلك قد تعلّق بالقوّة والسياسة أمرُ الله. فقد قال الله سبحانه في القرآن الكريم: (وَ لَقَدْ بَعَثْنا فی کُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوت) [نحل/36] اجتناب الطاغوت يعني لا تتبعوا القوى التي لم تحصل على السلطة من قبل الله ولا تطيعوهم. وهذا الأمر يعني لا تكونوا سياسيّين فقط بل كونوا ثوريّين أيضا!
- هناك فرق بين العنصر السياسي والعنصر الثوري. العنصر الثوري يخوض الساحة السياسية وكلّما اقتضت المصلحة يحاول أن يوجّه المعادلات لصالح الحق. كما أنه يقوم بذلك بكل حكمة وعقلانية، ولكن المهمّ هو أنه عازم على محاربة الطاغوت. بينما العنصر السياسي وغير الثوري قد يكفّ عن الجهاد عندما تضيق به الساحة، فيبدأ بتوسعة نطاق المصالح ويقدّم عافيته على طلب الحقّ.
حكم الله الثاني بعد عبادة الله، هو اجتناب الطاغوت
- بعد الأمر بعبادة الله، قد أمر الله باجتناب الطاغوت. كما نستطيع أن نرى ما يشابه هذا المضمون في آية أخرى من القرآن حيث قال: (قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلى کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) [آل عمران/64]
- قوله تعالى: (وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) في الواقع تعبير آخر (وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوت). فليس المقصود من (وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) هو أن لا نتّخذ من دون الله ربّا نعبده ونسجد له. ولذلك فهذه الآية أيضا تنطوي على بحث سياسيّ.
- لقد قال رسول الله(ص): «مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ فَإِنْ کَانَ النَّاطِقُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ وَ إِنْ کَانَ النَّاطِقُ عَنْ إِبْلِیسَ فَقَدْ عَبَدَ إِبْلِیسَ» [عيون أخبار الرضا/1/304]
- يقول الإمام الصادق(ع) حول قوله تعالى: «وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَة یَکُونُوا لَهُمْ عِزًّا کَلَّا سَیَکْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ یَکُونُونَ عَلَیْهِمْ ضِدًّا»[مريم/81] لَیْسَتِ الْعِبَادَةُ هِيَ السُّجُودَ وَ لَا الرُّکُوعَ وَ إِنَّمَا هِيَ طَاعَةُ الرِّجَالِ، مَنْ أَطَاعَ مَخْلُوقاً فِي مَعْصِیَةِ الْخَالِقِ فَقَدْ عَبَدَه» [تفسير القمي/2/55]
- وكذلك للعلّامة العسكري(ره) شرح لطيف وواسع في معنى كلمة «أرباب» ذكره في كتاب «دور الأئمة في إحياء الدين» ومن هنا أثبت الولاية. أنصحكم أن تقرأوا المجلّد الأول والثاني من هذا الكتاب الشريف. لقد قال سماحته في هذا الكتاب أن قد بدأ النزاع من ربوبيّة الله، وإلا فلا مشكلة لأحد مع خالقيّته ورحمانيّته. وتتبلور ربوبيّة الله في أحكامه وأوامره فهي بمعنى «إدارة الله وقيادته». فإن كانت هذه الربوبيّة لأحد غير الله أو غير مأذون من قبل الله، يصبح (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ).
الحكم الإلهي الثاني بعد التوحيد، هو اتخاذ الموقف الثوري تجاه الطاغوت
- الحكم الإلهي الثاني بعد التوحيد والذي بلّغه جميع الأنبياء هو أن نتخذ الموقف الثوري في وجه الطاغوت. يعني أن نكون عناصر سياسيّة ثوريّة، لا أن نكون سياسيّين غير ثوريّين! وهذا يختلف عن انطباع أكثر الناس عن الدين. أغلب الناس يعتبرون الذنوب هي من قبيل «النظر الحرام وترك الصلاة وشرب الخمر وأكل الحرام و...». بالتأكيد أن كلّ هذه الأعمال قبيحة، ولكن الأقبح من كل هذه الأعمال هو عدم اجتناب الطاغوت.
- ليست رؤية أكثر الناس عن الدين هو أن أهمّ حكم بعد التوحيد، العمل الثوري والوقوف أمام الحكّام غير الإلهيّين. مع أن الله سبحانه قد قال: (...أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوت). بعبارة أخرى الخطوة الأولى في الصراط المستقيم أو طريق الدين هو التوحيد والخطوة الثانية هو الموقف السياسي واجتناب الطاغوت. ولكن مع كل هذا وبعد مضيّ خمسة وثلاثين سنة من انتصار الثورة وبعد كل هذا الكمّ من تبليغ المعارف الإسلامية، لا يزال الكثير من الناس ينصحوني بأن لا أكون سياسيّا! فيا للعجب! فلماذا صرت طالبا في الحوزة؟! وأساسا لماذا صرت مسلما؟!
- لقد بدأ النبي الأكرم(ص) الحرب ضدّ الطاغوت بعد دعوته إلى التوحيد وقبل نزول الكثير من الأحكام الشرعية. فإذا تحقّق اجتناب الطاغوت بشكل جيّد، تتحسّن أخلاق الناس ويقلّ أكل الحرام وتظهر كثير من البركات والخيرات.
لماذا لم تنحلّ الكثير من المشاكل في إيران بعد، والحال أن قد زال حكم الطاغوت من البلد؟
- هناك شبهة يطرحها البعض وهي: «كما تقولون، لابدّ من زوال الطاغوت أولا، ثم تتحسّن جميع الأمور شيئا فشيئا. طيب، إذن لماذا لم تنحل الكثير من المشاكل في إيران بعد، والحال أن قد زال حكم الطاغوت من البلد وألقي زمام الحكم بيد الوليّ الفقيه؟!» الجواب هو أنه لم يزل «الطاغوت العالمي» بعد.
- نحن قد أطحنا بعرش الطاغوت الداخلي والحمد لله، ولكن ما زال الطاغوت العالمي والطاغوت الأكبر مهيمن على العالم. ولذلك تشاهدون كيف يؤذينا هذا الطاغوت العالمي بشتّى الأساليب من فرض الحصار الاقتصادي وغيره. كما يحاول في الآونة الأخيرة أكثر من قبل أن يتغلغل فينا ويلحق بنا الصدمات ولا ينفك عن توظيف بعض الأفراد في الداخل ليعملوا ضدّنا، كما لا يزال يحاول أن يؤسس في داخلنا محطّ قدم له. فنحن كما كنّا في حال جهاد في نظام الطاغوتي الشاهنشاهي، يجب أن لا نزال كذلك، إذ قد أسقطنا الطاغوت في المرحلة الأولى بعد، وما زالت المرحلة الثانية بانتظارنا. فإن هذا الطاغوت العالمي لا يسمح لنا بأن نعيش بحرّية. وأحد الأمثلة هو أن قد حظر مصارفنا. إذن نحن ما زلنا نعيش تحت نير الطاغوت.
- ما لم نطح بعرش الطاغوت الثاني، لن يفكّ عنّا ولا يزال يعشعش في أوساطنا ويلحق الصدمات بنا. فمن أجل إسقاط هذا الطاغوت الثاني لابدّ أن نكون ثوريّين جدّا. ولابدّ لنا جميعا أن نتصدّى لإسقاط الطاغوت الأكبر امتثالا لأمر الله في قوله تعالى: (اجْتَنِبُوا الطَّاغُوت) [نحل/36]. فإن أصبحنا جميعا ثوريّين، سوف نتخلّص من هذا الطاغوت ويستسلم لنا. ولكن المشكلة هي أننا لسنا بثوريّين كثيرا ولسنا شديدي المراعاة لقوله: (اجْتَنِبُوا الطَّاغُوت).
إن بعض الخواص، يعتبرون أمريكا بلدا عظيما ومتقدّما، لا طاغوتا!/ ليست أمريكا ببلد متقدّم عظيم، بل إنها مجرمة عظيمة
- إن بعض الخواص والنخب لا ينظرون إلى أمريكا بصفتها طاغوتا، بل يرونها كبلد عظيم متقدّم. إن هؤلاء قد نسوا جرائم أمريكا السابقة ولا يرون جرائمها الحالية ولا يسمعون بها، كما أنهم عاجزون عن توقّع جرائمها المستقبليّة. في حين أن أمريكا ليست ببلد متقدّم عظيم، بل هي مجرمة عظيمة.
- هناك معلومات بسيطة تدلّ على حقارة هذا الطاغوت. فعلى سبيل المثال إن معدّل النموّ العلمي في إيران 16 أضعاف معدّل النموّ العلمي في باقي بلدان العالم ومن ضمنهم أمريكا. والحال أننا قد بلغنا إلى هذا التطوّر في خضم الحصار وحال كوننا لم ننهب حتى قرية واحدة من دول الجوار. فلماذا لم تقدر أمريكا على إنجاز معدّل النموّ هذا مع أنها تنهب ثروات العالم؟ السبب هو أن إدارتها الكليّة غير صحيحة وهي ضعيفة بالنسبة إلى الإدارة الكلّية في الجمهورية الإسلامية. فلو كان قد فرض عشر هذا الحصار الذي فرض علينا طوال خمسة وثلاثين سنة على أمريكا، لانهارت أمريكا إلى حدّ الآن. هذا يعني أن الإدارة الكلية في الجمهورية الإسلامية أقوى من أمريكا.
لماذا يسمّي الله الحاكم الذي حصّل على السلطة بغير أمره، طاغوتا؟
- كلّ من لم ينصب للحكم ولم يحصل على السلطة على أساس البرنامج الإلهي، يعني كلّ من حصل على السلطة بغير أمره، فيسميه الله طاغوتا أي طاغيا. ولكن السؤال هو أن لماذا يسمي الله الحكّام الذين لم ينصبوا من قبله طواغيتا في القرآن الكريم؟
- الجواب هو أن ساحة السلطة والسياسة من الحساسية والأهميّة بمكان بحيث لا يقوى على العمل الصحيح فيها إلا المنصوبين لها من قبل الله، وسوف يطغى غيرهم في هذا المنصب قطعا. إن أدركنا هذا المعنى بتفقّه وعلم فبها ونعمت، وإلا فطواغيت العالم سوف يظلمون الناس حتى يتعطّش الناس على أعتاب الظهور إلى ظهور الإمام وسوف يقولون: «إظهر يا سيدنا ومولانا إذ لا يقدر على هذا الحكم غيرك». فإما نصل إلى هذه المعرفة بالتعقّل وإما بالتجربة. لا يمكن أن يحكم حاكم غير منصوب من قبل الله ثم لا يطغى.
من لم يتقلّد زمام السلطة وفقا للقواعد الدينية فهو طاغوت وسوف يطغى قطعا
- من لم ينصبه الله للحكم أو لم يتقلّد زمام السلطة وفقا للقواعد الدينية فهو طاغوت وسوف يطغى قطعا. فإما يصبح فرعون أو مصغّر فرعون. إن بعض طلّاب السلطة في الواقع مصغّر فرعون يعني لم تسنح له الظروف للمزيد من الطغيان وإلّا فهو مستعدّ.
- قبل أن يرسّخ المأمون دعائم حكمه، استفاد من الفضل ذوالرئاستين أكبر استفادة، إذ كان وزيرا داهية جدّا. حتى يمكن القول بأن الفضل هو الذي عبّد طريق المأمون إلى السلطة وبذل دونه كلّ وجوده. ولكن بعد أن شعر المأمون أن في سبيل كسب قلوب بعض الأوساط، لا بأس بتصفية الفضل، قام باغتياله بكلّ سهولة وقتله. (كان بعض الناس في بغداد يؤيّدون الأمين أخا المؤمون، وكانوا أعداء للفضل. فأراد المأمون أن يكسب قلوبهم ويمهّد الأسباب لإرجاع عاصمة الخلافة إلى بغداد).
- كان المأمون يبجّل الإمام الرضا(ع) حينما كان ضعيفا، بحيث كان يخاطبه «سيدي»، ولكن بعد ما شعر بالقوّة، قام باغتياله. بحيث عندما قدّم له العنب المسموم، امتنع الإمام. فأزاح المأمون الستار وأرى للإمام غلمانا شاهرين السيف، وهدّده بكل صراحة!
- فهذا الرجل الذي كان يقول للإمام الرضا(ع) «سيدي»، هكذا قام باغتياله بمنتهى الظلم. فهو نموذج للطاغوت الذي كان مصغّر فرعون ولكن بعد ذلك أصبح فرعون كاملا. فمن لم يتقلّد زمام السلطة وفقا للقواعد الدينية فهو طاغوت وسوف يطغى قطعا.
لا تكفي محبوبيّة ولي الله لحصوله على السلطة/ إن وعي الناس واستيعابهم شرط في حصول ولي الله على السلطة
- ينطوي الدين على مجموعة من القواعد التي تمنح ولي الله السلطة. طبعا لا يخلو تطبيقها من الصعوبة، وإلا لكان أهل البيت(ع) قد حصلوا على السلطة بسهولة. إن هذه القواعد قد جعلت صلاحية الناس ووعيهم واستيعابهم شرطا لحصول وليّ الله على السلطة.
- لقد اقترب الإمام الرضا(ع) من تسلّم زمام الحكم وكان محبوبا لدى الناس جدّا. حتى قد قال بعض أعداء الإمام الرضا(ع) للمأمون: لقد قرّبت إلى نفسك صنما يعبده الناس! «فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الرِّضَا ع بِجَنْبِ الْمَأْمُونِ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ هَذَا الَّذِی بِجَنْبِکَ وَ اللَّهِ صَنَمٌ یُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» [عيون أخبار الرضا(ع)/2/161] طيب فلماذا لم يسحب الإمام الرضا(ع) السلطة من يد المأمون؟ أجاب عن هذا السؤال رجل عمليّا:
- أحد الأشخاص باسم «هارون» كان الممثّل الخاص للإمام الرضا(ع) في المدينة. وكان أديبا وعالما ومشهورا بكونه عاقلا. وكان قد رأى أبّهة الإمام الرضا(ع) ومحبوبيّته بين الناس وترعرع في تلك الأجواء. فجعله الإمام الرضا(ع) ممثلا عنه في المدينة وغادر إلى المرو. ولكن بعد فترة قصيرة تبيّن أن قد اشتراه عمّال المأمون. وفي الواقع قد باع نفسه إليهم وأخذ يعطي معلومات تشكيلات الإمام الرضا(ع) إلى رجال المأمون. فلعلّه لم يحدث لأحد من الأئمة مثل هذا الحدث المفجع. فبعد أن اطّلع المأمون على معلومات الإمام الرضا(ع)، هنا عرف المأمون مدى نفوذ الإمام(ع) في المجتمع!
بعد مجيئ السلطة، قد يفسد حتى العمّال!
- بعد مجيئ السلطة قد يفسد حتى العمّال. لذلك ينبغي أن نخاطب الإمام صاحب العصر(عج) ونقول: «يا سيدنا ومولانا ويا صاحب الزمان! عجّل في ظهورك، ولكن بعد ما اطمأنت من عمّالك وعرفت أنهم لن يفسدوا بعد السلطة!» آه من عمّال السلطة. فإن بعضهم بمجرّد ما حليت السلطة في مذاقهم يصبحون خطرين جدّا. ومن أولى خياناتهم هي أن يوقعوا رئيسهم في الخطأ. لأنهم يحاولون أن يرفعوا إليه تقارير لصالحهم.
- بعد أن قتل الفضل على يد المأمون جاء المأمون إلى الإمام الرضا(ع) يبكي على الفضل ويطلب منه أن يحلّ مكانه فرفض الإمام(ع)؛ «لَمَّا کَانَ مِنْ أَمْرِ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ مَا کَانَ وَ قُتِلَ دَخَلَ الْمَأْمُونُ إِلَى الرِّضَا ع یَبْکِي وَ قَالَ لَهُ هَذَا وَقْتُ حَاجَتِي إِلَیْكَ یَا أَبَا الْحَسَنِ فَتَنْظُرُ فِي الْأَمْرِ وَ تُعِینُنِی فَقَالَ لَهُ عَلَیْکَ التَّدْبِیرُ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ وَ عَلَیْنَا الدُّعَاء» فلمّا خرج قال أحد أصحاب الإمام(ع) لماذا لم توافق على طلبه؟ فأجاب الإمام(ع): لو كنت أوافق لما ازدادت نفقتك من قبلي. فلا تظن أن لو كنت قد استلمت السلطة لازداد واردك؛ «فَلَمَّا خَرَجَ الْمَأْمُونُ قُلْتُ لِلرِّضَا ع لِمَ أَخَّرْتَ أَعَزَّکَ اللَّهُ مَا قَالَهُ لَکَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ وَ أَبَیْتَهُ فَقَالَ وَیْحَکَ یَا أَبَا حَسَنٍ لَسْتُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فِی شَیْءٍ قَالَ فَرَآنِی قَدِ اغْتَمَمْتُ فَقَالَ لِی وَ مَا لَکَ فِی هَذَا لَوْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى مَا تَقُولُ وَ أَنْتَ مِنِّی کَمَا أَنْتَ عَلَیْهِ الْآنَ مَا کَانَتْ نَفَقَتُکَ إِلَّا فِی کُمِّکَ وَ کُنْتَ کَوَاحِدٍ مِنَ النَّاس» [عيون أخبار الرضا(ع)/2/164].
- من الصعب جدّا أن يرى الإنسان السلطة بيد وليّ الله، ثمّ يدعمه ويؤيّده حبّا له وامتثالا لأمر الله فقط بلا أن تؤثر عليه هذه السلطة أثرا سلبيّا ودون أن يبيعها أو يشتريها.
- بعد أن ألقى الإمام الرضا(ع) حديث سلسلة الذهب المشهور في نيسابور، واصل طريقه ثم انتهى إلى المرو أو سرخس. هنا تحكي بعض الروايات أن المأمون قد حبس الإمام في بيت. بحيث جاء في بعض الروايات أن بعض الأشخاص أرادوا أن يلتقوا بالإمام، فقالوا جئنا واستأذننا السجان ولكنه لم يأذن. طبعا قد اختلفت الروايات في مكان حصر الإمام بين المرو وسرخس ولكن الثابت هو أنه قد حبس فترةً. «عَنِ الْهَرَوِيِّ قَالَ جِئْتُ إِلَى بَابِ الدَّارِ الَّتِي حُبِسَ فِیهِ الرِّضَا ع بِسَرَخْسَ وَ قَدْ قُیِّدَ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَیْهِ السَّجَّانَ فَقَالَ لَا سَبِیلَ لَكَ إِلَیْهِ ع» [عيون أخبار الرضا(ع)/2/183]
لم يكن الإمام الرضا(ع) مستعدّا لاستلام السلطة اعتمادا على محبوبيّته وحسب/ إشاعة كان يكرّرها الناس عن الإمام الرضا(ع)
- أحد الأسباب التي دفعت المأمون إلى حصر الإمام الرضا(ع) هو موقع الإمام(ع) الناشئ من محبوبيّته بين الناس. فخشي المأمون أن يفقد السلطة في هذه الظروف، ولكنه كان مخطئا، إذ أن الإمام الرضا(ع) لم يكن مستعدّا لاستلام السلطة اعتمادا على محبوبيّته وحسب، كما كان أمير المؤمنين(ع) يأبى أن يستلمها بمجرد محبوبيّته، ولذلك قد ألحّ الناس عليه ولكنّه كان يرفض مهما استطاع: «دَعُونِي وَ الْتَمِسُوا غَیْرِي...وَ اعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُکُمْ رَکِبْتُ بِکُمْ مَا أَعْلَمُ وَ لَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَ عَتْبِ الْعَاتِبِ وَ إِنْ تَرَکْتُمُونِي فَأَنَا کَأَحَدِکُمْ وَ لَعَلِّي أَسْمَعُکُمْ وَ أَطْوَعُکُمْ لِمَنْ وَلَّیْتُمُوهُ أَمْرَکُمْ وَ أَنَا لَکُمْ وَزِیراً خَیْرٌ لَکُمْ مِنِّي أَمِیراً» وكذلك خاطب الناس قائلا: «لَا حَاجَةَ لِي فِي أَمْرِکُمْ فَمَنِ اخْتَرْتُمْ رَضِیتُ بِهِ» [الكامل في التاريخ/3/190]
- لماذا أبى الإمام الرضا(ع) أن يتصدّى لاستلام السلطة بالرغم من محبوبيته؟ أحد أسبابه هو أن المأمون قد شاع بين الناس بعد حديث سلسلة الذهب المشهور «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي... بِشُرُوطِهَا وَ أَنَا مِنْ شُرُوطِهَا» [عیون أخبار الرضا(ع)/2/135] أن الإمام الرضا(ع) قد ادعى الألوهية ويبدو أنها قد أخذت بين الناس مأخذها. لأنه روي عن أبي الصلت الهروي أنه قال: «...قُلْتُ یَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ مَا شَيْءٌ یَحْکِیهِ عَنْکُمُ النَّاسُ؟ قَالَ وَ مَا هُوَ؟ قُلْتُ یَقُولُونَ إِنَّکُمْ تَدَّعُونَ أَنَّ النَّاسَ لَکُمْ عَبِیدٌ» [عيون أخبار الرضا/2/184]
لا يمكن التعويل على المحبوبية بين الناس، بل يجب أن يؤخذ وعي الناس بعين الاعتبار
- انظروا ماذا قال الإمام الرضا(ع) في حديث سلسلة الذهب. ثم انظروا إلى الشائعة التي انتشرت بين الناس على أثر هذا الحديث! لذلك لا يمكن التعويل على المحبوبية بين الناس، بل يجب أن يؤخذ وعي الناس بعين الاعتبار. لقد اشترط الإمام الرضا(ع) ولايته في قبول كلمة «لا إله إلا الله»، وإذا بهم أشاعوا أن الإمام الرضا(ع) يدعي «أن الناس جميعا عبيدا لي» ثم انتشرت بين الناس!
- بعد أن أخبر أبو السلط الإمام الرضا(ع) بهذه الإشاعة قال الإمام: «اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَیْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ شَاهِدٌ بِأَنِّي لَمْ أَقُلْ ذَلِكَ قَطُّ وَ لَا سَمِعْتُ أَحَداً مِنْ آبَائِي ع قَالَهُ قَطُّ وَ أَنْتَ الْعَالِمُ بِمَا لَنَا مِنَ الْمَظَالِمِ عِنْدَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ أَنَّ هَذِهِ مِنْهَا» ثم التفت الإمام إلى أبي الصلت وقال: «إِذَا کَانَ النَّاسُ کُلُّهُمْ عَبِیدَنَا عَلَى مَا حَکَوْهُ عَنَّا فَمِمَّنْ نَبِیعُهُمْ... ثُمَّ قَالَ یَا عَبْدَ السَّلَامِ أَ مُنْکِرٌ أَنْتَ لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَنَا مِنَ الْوَلَایَةِ کَمَا یُنْکِرُهُ غَیْرُكَ؟ فأجاب أبو الصلت: مَعَاذَ اللَّهِ بَلْ أَنَا مُقِرٌّ بِوَلَایَتِکُم.» [المصدر نفسه]
- فبالرغم من شدّة محبوبية الإمام الرضا(ع) وموقعه الجيّد بين الناس، ولكن بسبب قلّة وعي الناس وفتنة الطواغيت، انظروا أي تهمة أشاعوها على الإمام بعد ما ألقى كلمته القصيرة المعروفة بحديث سلسلة الذهب. هذا ما يدل على أن الناس لم يكونوا يحظون بالاستيعاب الكافي لاستماع كلمة الحق. ففسروها بتطرّف مما أدى إلى توجيه سهام التهمة إلى الإمام(ع).
- وهناك رواية أخرى في هذا المجال عن إسحاق بن موسى فقد قال الإمام الرضا(ع) له: «یَا إِسْحَاقُ بَلَغَنِي أَنَّ النَّاسَ یَقُولُونَ إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّ النَّاسَ عَبِیدٌ لَنَا لَا وَ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص مَا قُلْتُهُ قَطُّ وَ لَا سَمِعْتُهُ مِنْ آبَائِي قَالَهُ وَ لَا بَلَغَنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ آبَائِي قَالَهُ وَ لَکِنِّي أَقُولُ النَّاسُ عَبِیدٌ لَنَا فِي الطَّاعَةِ مَوَالٍ لَنَا في الدِّینِ فَلْیُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» [الكافي/1/187]
- الآن عرفنا لماذا لم يتصدّ الإمام الرضا لاستلام السلطة وسحب البساط من تحت المأمون مع كلّ ما يحظى به من محبوبية بين الناس واقترابه من السلطة وسنوح بعض الظروف والأسباب له. لأن المحبوبية ليست كافية لوحدها، ولابدّ من وعي الناس وبصيرتهم.
- الهي نقسم عليك بحق الإمام الرضا(ع) أن تجعلنا جنودا واعين وأولي بصيرة للإمام صاحب الزمان(عج)، وأن تجعلنا من عبادك الواعين والمأهّلين لتقبّل المعارف الولائية واستيعابها.