ضبط الذهن على طريق التقرب (المحاضرة5)
إن لم تمارس "ضبط الذهن" فسيمرض ذهنُك تلقائياً!
لماذا نَفسَد إن تركنا أنفسَنا على أهوائها؟ أوَليسَت فطرتُنا إلهية؟!
"التقوى الذهنية" هي أن تراقب ذهنك وتمنعه من التجوال أينما كان
يريد الله في الصلاة أن يعرف: أين يتجوّل القسم اللاواعي من ذهنك؟
الإنسان إذا لم يتربَّ فسَدَ بسبب عدوّه الخارجي (إبليس) وعدوّه الداخلي (النفس) / في ذهن الإنسان قِسمٌ نشط إذا لم يسيطر عليه أخذَه باستمرار نحو المخاوف / الله تعالى مُطّلع على ما يخطر في أذهاننا، فإن خطرَ فيها ذنب أو فكرة سيئة كان علينا الاستغفار منها / يقول علم النفس: القدرة على ضبط الذهن تؤثر حتى على جسم الإنسان / عندما لا يكون من الضروري للذهن أن يعمل ينشط " القسم اللاواعي من الذهن" / كيف لنا أن نسيطر على القسم اللاواعي من ذهننا؟ / الذي يكون ذهنُه وقلبُه منشغلاً بشدة فإنّ عليه أن يُكثر من الاستغفار، فإن هذا عقاب من الله!
- يقول أمير المؤمنين(ع): «أَكْرِهْ نَفْسَكَ عَلَى الْفَضَائِلِ فَإِنَّ الرَّذَائِلَ أَنْتَ مَطْبُوعٌ عَلَيْهَا» (غرر الحكم/2477). فإن أنت لم تحمل نفسك على الفضائل والحالات الجيدة فستسوء حالُك الروحية من جهة، وتتردَّى أفعالُك من جهة أخرى.
- لماذا نفسَد إن ترَكْنا أنفسَنا على أهوائها؟ أوَليست فطرتُنا إلهية، لقوله تعالى: «فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» (الروم/30)؟! أفهَل نحن أناسٌ سيّئون من الأساس؟ كيف ذلك والله يُقسم بنفس الإنسان وبمَن سَوّاها بهذه الروعة حيث يقول: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا» (الشمس/7)؟!
- نحن - من ناحية - "أناس صالحون أساساً" لكننا - من ناحية أخرى – "إذا تركنا أنفسنا على أهوائها فسَدنا!" فلماذا نحن هكذا؟ لأن الطعام مهما كان جيداً ومفيداً سيفسد إن لم تضعه في البرّاد. فلا بد من وضع الطعام في مكان مناسب، وإلا أبادته الجراثيم والكائنات التي تحب التغذّي عليه. والخطر هذا ماثل للإنسان كذلك؛ فالجرثومة التي خُلقَت قبل خلق الإنسان، وهي عدوّته أيضاً، هي "إبليس".
- بعيداً عن وجود إبليس (العدو الخارجي) فإن الآلية الداخلية للنفس البشرية هي على نحوٍ بحيث إذا لم يتربَّ الإنسان فسَد. فالإنسان شغوف بالتكامل أيّما شغف، وبسبب شغفه هذا تراه يستعجل بلوغ هذا التكامل فيُفسِد كل شيء، إلا إذا علّمتَه الصبر. شأنه في ذلك شأن الطاقة النووية، فهي إن تُركَت لحالها ولم يسيطَر عليها دمّرَت كل شيء، أما إذا تم التحكّم بها واستُعملت داخل المفاعل النووي بصورة مدروسة ومحسوبة، فستكون في منتهى الفائدة.
- إذا لم يتمرّس الإنسان على "ضبط ذهنه" فسوف لا يكتسب القدرة على السيطرة عليه وسيمرض ذهنُه بشكل تلقائي. فإن لذهن الإنسان قدرات وخصائص علينا أن نتحكّم بها ونستعملها بالشكل الصحيح، لا أن نتركها، ومن هذه الخصائص "القلق والخوف". وليس من السيّئ أنْ يُوجِس الإنسان خِيفة من خطرٍ ما أو يقلق من ضررٍ ما، لكنك إن تركت هذه المخاوف والهواجس لحالها ولم تسيطر عليها فستعمل – تدريجياً - على تحويلك إلى عنصر جبان وضعيف في المجتمع!
- من خصائص الذهن الأخرى "التحسّر"، ولولا حسّ اللّوم هذا في الإنسان لما تاب من معاصيه أبداً، وإنه بقوة "النفس اللوامة" يستطيع الإنسان النجاة من "نفسه الأمارة". لكنك إن أطلقتَ لهذه القوة اللوامة العنان فستعمل على تدمير ذهنك وروحك كما تعمل الطاقة النووية المنبعثة على تدمير كل شيء. فليس من حقك أن تلوم نفسك كيفما اتّفَق، ولو كان بسبب المعاصي! فإن البعض يلوم نفسه جراء المعصية بطريقة تُدخل اليأس والإحباط إلى نفسه، وهذا خطأ!
- يوجد في ذهن الإنسان قسم نشط للغاية وهو ينشط لوحده وبشكل تلقائي، ويجلب هذا القسم للذهن "أفكاراً مُقلقة"، ويتوجّب علينا السيطرة على هذا القسم. يقول علماء النفس: إذا لم نسيطر على هذا القسم النشط من الذهن فسيأخذنا باستمرار إلى القلق والمخاوف. على أن هذا القسم النشط من الذهن قد جُعل لحفظنا (فهو، مثلاً، يقول لنا: حذار من كذا، وإياك وكذا،..) وعليك أن تضبط هذا القسم من الذهن، سواء أسُمّيَت هذه العملية "تأمّلاً"، أو "قوّة تركيز"، أو "قدرة ضبط الذهن".
- ونستطيع الاستعاضة عن مصطلح "الضبط" بمصطلح "المراقبة" فنقول: ضبط الذهن هو مراقبته وعدم السماح له بالتجوال في أي مكان.
- يقول آية الله حقشناس(ره): "مقام المراقبة هو أن نعرف بأننا في محضر مَن يطّلع حتى على خواطر أذهاننا وتصوّرات ضمائرنا". فقد جاء في الحديث في معنى قوله تعالى: «وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (الحديد/6)، قال: بِالضَمَائِر» أي بما يخطر في أذهاننا من تصوّرات، فإن الله تعالى يعلم حتى بهذه الخواطر.
- ثم قال سماحته(ره): "حتى إذا تخيّلتَ المعصية فإنك في حضور الله تعالى ومحضره". أي لا تذهب بذهنك صوب المعصية! فإنْ خطرَت في أذهاننا معصية أو فكرة سلبية كان علينا الاستغفار منها.
- أحياناً يُستعمل مصطلح "meditation" (التأمّل) للتعبير عن "القدرة على ضبط الذهن". ويقول علماء النفس: "التأمّل (مدِتَيشن) أشد أثراً من أقوى العقاقير في علاج الاكتئاب!" ونحن ندعو هذه القدرة: "التقوى الباطنية" أو "التقوى الذهنية" أو "التقوى الروحية"؛ وهي أن تراقب ذهنك وتمنعه من التجوال أينما كان. يقول دانييل جولمان في كتابه "الصفات المُعَدَّلة": "يكشف العلم كيف يغيّر التأمّلُ ذهنَك ودماغَك وجسمَك".
- ويضيف جولمان: "حينما لا ينجز الإنسان أي نشاط يحتاج إلى جهد ذهني، ينشط الوضع الافتراضي للذهن". فإن جزءاً من ذهن الإنسان مسؤول عن القيام بالنشاطات التلقائية اللاواعية". فعندما لا يكون من الضروري للذهن أن يعمل أو يدقّق ينشط هذا القسم من الذهن. ومن جملة الأعمال التي لا تحتاج إلى جهد ذهني هي "الصلاة"؛ لأنك تأتي بالصلاة عن حفظ وهي روتينية بالنسبة لك، ولهذا يُترَك ذهنُك على هواه (وأكثر ما يُترك الذهن على هواه أثناء صلاة الجماعة).
- يريد الله أثناء صلاتك أن يعرف: "أين يتجوّل القسم اللاواعي من ذهنك؟ وهل باستطاعتك أساساً أن تسيطر على ذهنك أم لا؟" فمن جُملة الحِكَم المهمة للصلاة، التي هي ركن ديننا، هي معرفة قدرة الإنسان على ضبط ذهنه.
- بما أن الصلاة عملية روتينية للغاية فإن قسمَ الذهن المسؤول عن النشاطات التلقائية واللاواعية ينشط أثناء الصلاة، وهاهنا بإمكانك أن تدرك القيمة المودعة في خلقتك. فإذ أنك من المصلين، فإن عليك أن تُقبل على الله في أشدّ الحالات روتينية.
- عندما يقوم المرء بأعمال لا تحتاج إلى نشاط ذهني، ينشط لديه وضع الذهن الافتراضي. يقول جولمان في هذا الصدد: "تخطر في الذهن، في هذه الحالة، أفكار وأحاسيس هي في أغلبها مزعجة." فحين ينشط هذا القسم من ذهنك، وهو غالباً سلبي، تصبح معظم الخواطر التي تَفِد على ذهنك من نوع "سوء الظن بالله".
- ويضيف جولمان: "الوضع الافتراضي للذهن يتوقف أثناء القيام بتمارين الوعي... وبمواصلة هذه التمارين يتحوّل توقًّف الوضع الافتراضي للذهن إلى حالة ثابتة، بل ويقل نشاط الذهن حتى أثناء الوضع المذكور." أي إن عليك أن تمارس تمارين تساعدك على السيطرة على ذهنك كي لا يذهب - في الأوقات التي لا تحتاج فيها إلى نشاطٍ ذهني – صوبَ الأمور السلبية، بل يتَّجه نحو الأمور الإيجابية.
- يقول سماحة الإمام الخميني(ره) لولَده: "أنا في أي لحظة أقرّر أن لا أفكّر في شيء فإنّي لا أفكر فيه." ويقول علماء النفس أيضاً: "لا ينبغي لأذهاننا أن تعمل دون إرادتنا"، وفي هذا تكمن نجاة الإنسان، فحتى العرفان يقول بهذا. ففي أي حقل يتقدّم العلم البشري تراه يقترب من الدين.
- عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَنْوِي الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ رِزْقَه» (المحاسن/ ج1/ ص116)؛ أي بمجرد أن يخطر ذنب في ذهن المؤمن يُنقصون من رزقه. ولماذا؟ فهو لم يفعل شيئاً بعد! لأن النشاط الذهني هو في الحقيقة شكل من أشكال الفعل، فكما قد مرّت الإشارة إليه فإن بعض أفعال الإنسان ونشاطاته باطني، وبعضها الآخر ظاهري.
- ذهن الإنسان عزيز جداً عند الله تعالى. فمتى ما خطرَت في ذهنك معصية أو أي فكرة سلبية أو باطلة فإن عليك أن تطردها على الفور معاتباً ذهنَك: "إلى أين أنت ذاهب؟!"
- يقول آية الله حقشناس(ره): "يخاف أولياء الله من خواطر الذهن، فلا بد للخواطر الذهنية والقلبية هذه أن تُمحى من ذهن الإنسان وقلبه عن طريق الإقبال على الله. عليك أن تمكث طويلاً في مقام المراقبة كي تَمَّحي خواطر قلبك تماماً، وتغدو صفحته نيّرة، وتكون مَقَرّاً لله تعالى".
- ويضيف سماحته(ره) أيضاً: "يقول الله عز وجل: "إذا لم تفرّغ نفسَك لعبادتي فسأشغَل ذهنك وقلبك أيما شغل"، «إِنْ لا تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ قَلْبَكَ شُغُلاً بِالدُّنْيَا» (الكافي/ ج2/ ص83). فالذي يكون ذهنُه وقلبُه منشغلاً بشدة فإنّ عليه أن يُكثر من الاستغفار، فإن هذا عقاب من الله! فلا بد لذهنك أن يكون فارغاً. والله تعالى إنما يُدخِل الجنَّة أولئك الذين يسعَون في جعل دنياهم فردوساً ويعيشون فيها كعيش أهل الجنة. ثم يقول(ره): "كلما أقبلتَ على الله عز وجل قلَّتْ خواطر ذهنك وقلبك، وهذا بحد ذاته دليل على وجود الله".