ضبط الذهن على طريق التقرب (المحاضرة4)
عبر "ضبط الذهن" يمكن تغيير الرغبات
إن لم تفكّر في الرغبة المذمومة ضَعُفَت، وإن فكّرتَ في الرغبة الممدوحة قويَت!
خير محل للإفادة من قابلية ضبط الذهن "الصلاة"
لا يقول الدين: "لا تَسعَ وراء الرغبات السيئة" فحسب، بل يقول: "غيّر رغباتِك"! / لماذا تحرض الثقافةُ الغربية الإنسانَ على السعي وراء رغباته؟! / الذي لا هم له سوى "توفير ما يرغب فيه" فإنه سيضعف، أما الذي "يحاول تغيير رغباته" فإنه سيقوى! / هناك طريقان لتغيير الرغبات: أولهما العمل والسلوك (سيّما العمل المتواصل)، وثانيهما ضبط الذهن. / ذهن الإنسان هو موضع أعظم الأجور وأكبر الذنوب. / إذا امتلكتَ القابلية على ضبط الذهن فسوف لا تلتفت إلى توافه الأمور. / يقول أمير المؤمنين(ع): «عَظِّمُوا أَقْدَارَكُمْ بِالتَّغَافُلِ عَنِ الدَّنِيِّ مِنَ الأُمُور». / ماذا أصنع كي ألتفت إلى الله أثناء الصلاة؟ كلما تحوّلَ ذهنُك عن الصلاة أَرجِعهُ إليها. / إذا توجّهتَ إلى الله تعالى أثناء الصلاة، توجّهَ الله إليك وجعلك محبوبَه.
- إذا تعلم الإنسان منذ نعومة أظفاره على تغيير رغباته عاش إنساناً قوياً سعيداً. ينزعج الكثيرون حين يقول لهم الدين: "أقلعوا عن الرغبات السيئة" لأنهم عاجزون عن مخالفة أهوائهم، ويستاء غالبية الناس حين يأمرهم الدين بفعل الصالحات، وذلك لكونهم غير راغبين فيها.
- لا يكتفي الدين بقوله للإنسان: "لا تَسعَ وراء الرغبات السيئة"، أو "افعل الصالحات حتى وإن لم تشعر بالمَيل إليها" بل الأهم هو قوله له: "غيِّر رغباتِك".
- خلافاً للحيوان فقد أُودِعَت في الإنسان "القدرة على تغيير الرغبات"، فهو قادر على تغيير ميوله كلها. ولو استطاع الإنسان تغيير ميوله ورغباته لكان من ميسوره أن يرغب في الموت، ويقطع تعلّقَه بالدنيا، ويمحو حسدَه وتكبّره. ولا يظلم الله تعالى عبده، بل يقول له: "غيّر ميولك شيئاً فشيئاً؛ خطّط أوّلاً، ودبّر شؤونك ثانياً، ثم تحرّك!" أما الثقافة الغربية، التي صمّمها الصهاينة لاستعباد البشر، فتقول للإنسان: "اسعَ وراء رغباتك!"
- عملية تغيير الرغبات والميول جذابة ومسلّية إلى أبعد الحدود وتبعث على نشاطٍ وقوة عظيمَين. فالذي لا هَمّ له سوى توفير ما يرغب فيه، دونما تغيير في رغباته أو تحكّم بها فإنه سيضعف، أما الذي يحاول تغيير ميوله فإنه سيقوى. فكما تقوى عضلات اللاعب إذا مارس الرياضة، فإن "عضلات" روح الإنسان ستقوى إذا عمل على تغيير رغباته.
- هناك طريقان لتغيير الرغبات: الأول هو "العمل والسلوك"، سيّما العمل المتواصل، والثاني هو "ضبط الذهن". ففي أيّ موضوع يفكر الإنسان وإلى أيّ شيء يلتفت فإنه يقوّي الرغبة في هذا الشيء في نفسه؛ بالضبط كعملية نموّ النبتة إذا أشرقت عليها أشعة الشمس. فإذا لم ينظر الإنسان إلى شيءٍ وعمل على إهماله ضعُفَ مَيلُه إليه في نفسه. إن لم تفكّر في الرغبة المذمومة ضَعُفَت، وإن فكّرتَ في الرغبة الممدوحة قويَت! يقول أمير المؤمنين علي(ع): «مَنْ كَثُرَ فِكْرُهُ فِي اللَّذَّاتِ غَلَبَتْ عَلَيْه» (غرر الحكم/8564). فالبعض لا يتقن الفنّ القائل بأنه "يجب عدم التفكير في بعض الأمور"!
- لماذا نقول: "ضبط الذهن" ولا نقول: "ضبط الفكر"؟ لأن بعض الأشياء لا يجوز حتى الالتفات إليها للحظة، فما بالك بالتفكير فيها. ولماذا نقول: "التحكم بالذهن" ولا نقول: "التحكم بالالتفات"؟ لأن الغرض هو أن تحاول أن لا تعلم مجرد عِلم ببعض الأشياء، فالتحكّم بالذهن يسيطر على علمنا ببعض الأمور. فالعلم ببعض الأمور حرام أساساً؛ كالاستماع إلى الغيبة: «وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُم» (نهج البلاغة/ الخطبة193)؛ فالمؤمن يخصص سمعَه لاستماع العلم النافع ويحرّم على نفسه الاستماع إلى شيء آخر، وهذا هو ضبط الذهن!
- أسوأ المعاصي تُقترَف على مستوى الذهن، مثل الرياء. ففي ذهنك تقول: "فلان أُعجب بي!" وبمجرّد أن يخطر هذا الخاطر في ذهنك يذهب فعل الخير الذي أتيت به أدراج الرياح! وأسوأ من هذا الذنب هو العُجب بالنفس. فعن أبي عبد الله(ع) أنه قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَنْدَمُ عَلَيْهِ وَيَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيَسُرُّهُ ذَلِكَ فَيَتَرَاخَى عَنْ حَالِهِ تِلْكَ فَلأَنْ يَكُونَ عَلَى حَالِهِ تِلْكَ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا دَخَلَ فِيهِ» (الكافي/ ج2/ ص313)؛ أي إن الذنب أفضل من أن لا تذنب ثم تُعجَب بنفسك. والعُجب - في الحقيقة - شيء يحصل في الذهن؛ وهو أن ترى النصف الممتلئة من كأسك فيما يتصل بربك، ولا ترى النصف الممتلئة من كأس الله فيما يرتبط بك؛ فلا ترى مدى ما أسبغه الله تعالى عليك من النعم، وكم هو خليق بك أن تعمل لمرضاته!
- كما أن أكبر الذنوب موضعه الذهن، فإن أعظم الأجر محله الذهن أيضاً. "فالتوبة" في الحقيقة تمثل لحظة التفاتة حسنة. السعادة التي نالها "الحر" في كربلاء كانت بسبب تلك اللحظة التي خامرته فيها التفاتة حسنة. لقد قال له الإمام الحسين(ع): «ثكلتك أمُّك!» فلما هَمّ الحر بالردّ عليه التفتَ لحظةً لأم الحسين(ع) فاطمة الزهراء(س)..!
- من المهم جداً أن يتمكن الإنسان من التفكير في موضوع ما بعمق؛ كأن يفكر بعمق في الموت ولحظات نزع الروح مثلاً. فلو أمعَنتَ النظر لرأيت أن حلاوة جميع لذات الدنيا ستزول في تلك اللحظة، وعندها سوف لا تبقى لأي شيء تملكه في الدنيا أي قيمة. فانظر ما الذي سيبقى لك في تلك اللحظة؟ واشغل نفسك من الآن بهذا الشيء بالذات. يقول أمير المؤمنين علي(ع) في وصف المتّقين: «قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لا يَزُول» (نهج البلاغة/ الخطبة193).
- الناس بطبعهم إذا تمكنوا من التركيز على موضوع جيد للحظة فرَّت أذهانُهم بسرعة إلى شيء آخر، أي إنهم عاجزون عن حفظ تركيزهم على الموضوع الأول. لكن السيطرة على الذهن تمنح الإنسان القابلية على التركيز بعمق على موضوع جيد لمدة من الزمن.
- إذا امتلكتَ القابلية على ضبط الذهن فسوف لا تلتفت إلى توافه الأمور. يقول أمير المؤمنين(ع): «عَظِّمُوا أَقْدَارَكُمْ بِالتَّغَافُلِ عَنِ الدَّنِيِّ مِنَ الأُمُور» (تحف العقول/ ص224)؛ أي لا تلتفتوا إلى الأمور العديمة القيمة كي تعلو قيمتكم.
- الكثيرون يجلسون لمشاهدة الأفلام والمسلسلات، لكن إذا سألت أحدهم: "ما أثر هذا الفيلم فيك؟ وما الذي ستفعله فيك هذه الأمور التي تدخل إلى ذهنك؟" قال: "لا أدري!" يقول القرآن الكريم: «فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِه» (عبس/24)، ولا يختص هذا النظر بغذاء البدن، بل على المرء أن يدقق في كل ما يريد سماعه أو رؤيته وكل شيء يمكنه أن يؤثر على ذهنه.
- تعطي قابليةُ ضبط الذهن صاحبَها القدرة على تغيير رؤيته، أو إخراج فكرة من رأسه وعدم التفكير فيها، وخير محل للإفادة من هذه القابلية هو "الصلاة".
- عن النبي(ص) أنه قال: «إِذَا قَامَ الْعَبْدُ إِلَى الصَّلاةِ فَكَانَ هَوَاهُ وَقَلْبُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى انْصَرَفَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّه» (مستدرك الوسائل/ ج4/ ص102)؛ أي إذا وجّهَ الإنسان هواه وقلبه أثناء الصلاة إلى الله تعالى (وسيطر على ذهنه فيها) فسيرجع إذا انتهى من الصلاة كيوم ولدته أمه. إذن بركعتَي صلاة يستطيع الإنسان أن يلتفت إلى الله ويكتسب كل هذه النوارنية! غير أننا – مع الأسف – لا نلتفت عادةً إلى الله أثناء صلواتنا، لأننا لا نقوى على ذلك، وإن طيور أخيلتنا وأذهاننا لا تنفك تحلّق هاهنا وهاهناك.
- إن كان لأحد مشكلة فهل عليه أن لا يفكر فيها أثناء الصلاة؟ يقول آية الله الشيخ بهجت(ره): "إذا لم تفكر في مشكلتك أثناء الصلاة ستجد، إذا فرغتَ من الصلاة، أن حلها سيكون أسهل". البكاء على الأمور الدنيوية يُبطل الصلاة، لكنهم يقولون: "حاول أن تبكي في صلاة الليل ولو بمقدار جناح بعوضة!" وهذا هو "ضبط الذهن". فلماذا قالوا: "تضرّع في الدعاء؟" إنها السيطرة على الذهن. فإذا التفت الإنسان إلى دعائه جرَت دموعُه.
- "التوجّه إلى الله بحضور قلب كامل" هو شأن أمير المؤمنين(ع)، أما نحن فإن التفَتنا إلى الله ولو بجزء يسير من قلوبنا حظينا بحال معنوية وحصلنا على المراد. فقد سُئل آية الله بهجت(ره): "ماذا أصنع كي أُقبِل على الله أثناء الصلاة؟" فقال: "كلما تحوّلَ ذهنُك عن الصلاة أرجِعهُ إليها" (به سوى محبوب «نحو المحبوب»(بالفارسية)/ ص63).
- وعن الإمام الصادق(ع): «..فَلَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ فِي صَلاتِهِ إِلَى اللهِ إِلاّ أَقْبَلَ اللهُ إِلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَأَقْبَلَ بِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ لَهُ بَعْدَ حُبِّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّاه» (ثواب الأعمال/ ص135)، فإذا التفتَّ إلى الله تعالى أثناء الصلاة، التفتَ الله إليك وجعلك محبوبَه.
- فلنحاول قراءة سورة الحمد في صلواتنا بالتفات وحضور قلب. «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم»، ثم نعود فنقول ثانية: «الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم». إلهي، كم تصرّ على أن أراك رحمٰناً رحيماً! «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم» خُذني في صراط عليّ(ع) حيث أسبغتَ عليه كل تلك النعم. «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم»، ففي سورة الحمد رثاء أيضاً! تقول: إلهي، لا تأخذني في طريق من أنزلتَ عليهم غضبَك، مثل قَتَلة الإمام الحسين(ع)، وأمثالهم، فأنا أبغضهم.