ضبط الذهن على طريق التقرب (المحاضرة3)
يقول الدين: أمسك زمام ذهنك بيدك!
لماذا ينبغي لعامل خارجي أن يجذب انتباهك؟!
مهارتان أساسيتان لضبط الذهن هما "الذكر" "والفكر"
أيقظ ما في داخلك من خير بمعونة "الفكر والذكر"!
مع كل ما نحمله من ميول صالحة تتدهور – في العادة - أحوالنا ولا ننتهي إلى الصلاح! لماذا؟ إنه بسبب "الذكر"! / لماذا الدنيا – كما في العادة - تجتذب الناسَ لكن الآخرة لا تفعل ذلك؟ ليس كون الدنيا نقداً هو ما يفسدك، بل ذكرُها والتفكير فيها هو الذي يفسدك! / عن الإمام الصادق(ع): «الطَّاعَةُ عَلامَةُ الْهِدَايَةِ وَالْمَعْصِيَةُ عَلامَةُ الضَّلالَةِ وَأَصْلُهُمَا مِنَ الذِّكْرِ وَالْغَفْلَة». / إذا أفلتَّ عنانَ فكرك انشغل في التُرّهات. / من يُسرف في شغل ذهنه في "ما لا يملك" تتولد لديه عقدة. / هناك في دواخلنا الكثير من الخير وعلينا إيقاظه وصقله بالفكر والذكر.
يقول علماء النفس: "الذي يُسرف في مشاهدة التلفاز يصاب بالخرَف". فاستماعك لحكاية من المذياع أفضل من مشاهدتك لمسلسل في التلفاز، لأن نشاطك الذهني (في الحالة الأولى) سيكون أكثر ولا يبقى ذهنك خاملاً إلى حد كبير! والذي يستخدم شبكة النت كثيراً يُصاب بما يشبه الإدمان!
لقد استُحدِثَت في عصرنا وسائل وعوامل كثيرة لجذب انتباه الناس، والحق إن في هذا إهانة لشخصية الإنسان! فهذه الوسائل تقول لك: "دعني أحدد لك ما يجب عليك الانتباه إليه الآن!" أساساً لماذا ينبغي لعامل خارجي أن يجذب انتباهك؟! فعلى الإنسان أن يسعى للإمساك بزمام ذهنه بيده، وأن لا يُكثر من الحضور في أجواء يجتذب الآخرون فيها انتباهَه، وإن كانت محاضرة دينية جيدة! بمعنى أنك إذا أحببتَ دوماً أن يقوم غيرُك باستقطاب انتباهك إلى الأمور الروحانية كي تَصلُحَ حالُك، فهذا أيضاً غير مُحبَّذ!
أفضل لحظات العبادة هي وقت السحر، حيث لا صلاة جماعة، ولا واعظ، ولا مجلس رثاء، ولا اجتماع دعاء، بل أنت ونفسُك ولا أحد غيرك! وهي لحظات حاسمة؛ فحاول أنت أن تجذب انتباهك إلى شيء ما. فإن استطعت التفكير في شيء معيّن، فهذا هو الصواب! وهذا واحد من أوجه قوة الإنسان، والله تعالى يحب الأقوياء.
يطالبنا الدين بالإمساك بزمام أذهاننا بأيدينا، وقد ورد فيه الكثير من التعابير المشيرة إلى "ضبط الذهن"، ومنها لفظ "الذكر"؛ فالذكر يعني التحكم بالذهن في مقابل "الغفلة" وهي عدم السيطرة على الذهن؛ أي عدم القدرة على الالتفات إلى شيء ما.
يقول الإمام الصادق(ع): «الطَّاعَةُ عَلامَةُ الْهِدَايَةِ وَالْمَعْصِيَةُ عَلامَةُ الضَّلالَةِ وَأَصْلُهُمَا مِنَ الذِّكْرِ وَالْغَفْلَة» (مصباح الشريعة/ ص55). الميول الصالحة فينا كثيرة، وميولنا السيئة ضعيفة، وفي تلبية ميولنا الصالحة لذة أعظم، أما تلبية ميولنا السيئة فتبعث على الانزعاج (وإن كان فيها شيء من اللذة أحياناً). فلماذا إذن تتدهور – في العادة - أحوالنا ولا ننتهي إلى الصلاح؟ إنه بسبب الذكر!
يظن الكثيرون أن الدنيا إنما تجتذب الإنسان لكونها متوفرةً نقداً ولحلاوتها، وأن الآخرة لا تجتذبنا لكونها آجلة ولأننا لم نذق حلاوتها، وهؤلاء مخطئون كل الخطأ! لماذا؟ لأن نقديّة حلاوة الدنيا تثبت لك بأن الدنيا ليست حلوة! بل أنت الذي تخدع نفسك! كما أن الآخرة أكثر حلاوة لكونها آجلة؛ ذلك أنّ تخيُّل الحلاوة أحلى من الحلاوة ذاتها!
مع كل لذة من لذات الدنيا هناك ألم يجعلك تتقزز من هذه الدنيا! فلأن ذكر الدنيا أشد مثولاً في أذهاننا وأننا نذكرها أكثر فهي تجتذبنا. وكذا الحال بالنسبة للآخرة؛ فلأننا أقل ذكراً لها فإن قلوبنا أضعف مَيلاً إليها. بالطبع هذه حال الناس العاديين.
أما الصالحون فإن الآخرة هي بمثابة النقد لهم: «..فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُون» (نهج البلاغة/ الخطبة193). الصالحون يشاهدون باطن الدنيا وخُبث السيئات، فتراهم عازفين عن الدنيا كالذي ينظر إلى مواد متعفّنة. لقد جلب الاستغراق في الخيال لصاحبه الشقاء حتى حَلَت الدنيا في عينه لكثرة ما فكّر فيها، ولشدة ما لقّنَ نفسَه بحلاوتها.
ذكرُ الدنيا والغفلة عن الآخرة يفسدان الإنسان؛ إذن فالقضية قضية ذكرٍ وغفلة. فعن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: «إِذَا أَحْبَبْتَ شَيْئاً فَلا تُكْثِرْ مِنْ ذِكْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَهُدُّك» (الكافي/ ج6/ ص459) أي مما يحطّمك! فليس كون الدنيا نقداً هو ما يفسد ابن آدم، بل ذكرُها والتفكير فيها هو الذي يفسده! إذن فكيف تنتظر من الآخرة، وهي الآجلة، أن تعمُرَك دون أن تذكرها وتفكّر فيها؟!
من طبع الإنسان أنه إذا لم يملك شيئاً ما ازداد إصراراً على حيازته، بل ويتمادى في الأمر أحياناً إلى درجة أنه لا يعود يفكّر إلا بهذا الشيء، فتتولد عنده تدريجيا عقدة. فالذي يُسرف في التفكير في ما لا يملك ويركّز فكرَه على هذه الأمور كل تركيز تتولد عنده عقدة.
يقول الإمام الحسن المجتبى(ع): «اجْعَلْ مَا طَلَبْتَ مِنَ الدُّنْيَا فَلَمْ تَظْفَرْ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِك» (كشف الغمة/ ج1/ ص572)؛ أي إذا أردت من الدنيا شيئاً فلم تحصل عليه فتخيّل وكأن هذا الشيء لم يخطر في بالك على الإطلاق؛ أي حُلّ القضية في ذهنك. والله لو وضعتَ هذا الكلام الانثروبولوجي العميق بين يدي علماء النفس لسَكَروا جذلاً!
المهم هو أن نملك أزِمَّة أذهاننا. ولو فكّر الإنسان بالآخرة وانشغل بذِكْرِها لشعر بلذة لا يشعر بها في الدنيا. لكن أين هو الفكر؟! وأين هو الذكر؟! فلكي ننعم بفكر سليم وذكر قويم فلا بد من امتلاكنا القدرة على ضبط أذهاننا وأفكارنا. فهناك في دواخلنا الكثير من الخير وعلينا إيقاظه وصقله بالفكر والذكر السليمَين.
عن إمامنا الحسن المجتبى(ع) أنه قال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَإِدَامَةِ التَّفَكُّرِ فَإِنَّ التَّفَكُّرَ أَبُو كُلِّ خَيْرٍ وَأُمُّه» (مجموعة ورام/ ج1/ ص52)؛ وإدامة التفكّر تعني التفكير الطويل الأمد والعميق.
ويقول أمير المؤمنين(ع) في الإنسان المؤمن: «يُصْبِحُ وَشُغُلُهُ الذِّكْرُ وَيُمْسِي وَهَمُّهُ الْفِكْرُ» (أعلام الدين/ ص140) فاهتمامه إما هو من نوع الذكر أو من جنس الفكر، والذكر والفكر مهارتان لضبط الذهن.
«الْمُؤْمِنُ.. مَغْمُورٌ بِفِكْرَتِه» (نهج البلاغة/ الحكمة333) أي غارق في فكره. فكما يحتاج «الالتفات» إلى تمرين، فإن التفكير الرصين يتطلّب تمريناً أيضاً. بالطبع ليس هناك مَن لا يفكّر، لكنك إذا أفلَتَّ عنانَ فكرك انشغل في التُرَّهات. فالبعض إذا فكّر، فكّرَ في الحسرات والحسد والحرص، وراح ذهنه يفتش عن الخطط التي تزيده حطاماً إلى حطامه. فلا تنشغل أبداً بذكر ما لا تملك والتفكير فيه!
اللهم جنّبنا البلايا التي تشغل فكرنا وتستحوذ على ذكرنا فتقودنا إلى الغفلة عنك. وأغدق علينا بغزارة نعمَك التي تشغل فكرَنا وذكرَنا كي نملّها لروتينها فلا تعود بعد ذلك تشغل فكرنا وذكرنا! لا يريدك الله تعالى أن لا تلتذ بالدنيا، بل يريد لك المزيد من اللذة، وهذه اللذة العظيمة ليست في الدنيا؛ فأعظم اللذة هي أن تلتذ بالله نفسه. لا بد أن تبلغ من الثقافة والنفسيّة مرحلةً تشعر فيها بالإهانة إذا حاول أحدهم صَرفَ فكرك عن الله عز وجل.
هناك لضبط الذهن خمسةُ أوجه؛ بمعنى أن عليك أن تُحسن القيام بخمسة أمور لهذا الغرض: 1- أن تستطيع التفكير في، أو الالتفات إلى أي موضوع تريد أنت التفكير فيه أو الالتفات إليه، لا أي موضوع يجلب هو انتباهَك. 2- أن تتمكن من التفكير في، أو الالتفات إلى الموضوع الذي تحدّده أنت وبالمدة التي تشاء. 3- أن تَقدِر على التركيز على موضوع معيّن وبعمق، والتركيز العميق أمرٌ في غاية الصعوبة. 4- أن تستطيع صرف ذهنك عن التفكير في، والالتفات إلى الموضوع الذي تريد صرفَ ذهنك عنه؛ فإذا حاول الآخرون، مثلاً، لفت انتباهك إلى شيء ما استطعت أنت صرف ذهنك عنه وعدم التفكير فيه. 5- أن لا تسمح للأمور الباطلة والتافهة أن تلفت انتباهك وتستقطب تفكيرك كي لا تكون مُجبَراً على صرف ذهنك عنها، بل أن لا يُجذَب انتباهُك إلى شيء أبداً دونما إذن منك! وأن تتمكن من التأمّل بإسهاب في الأمور التي تجلب – عادة - الأفكار السيئة وتتسبب في الانتباه الفاسد، فتنظر إليها من زاوية جيدة، وهذه مهارة كان الأنبياء يمتلكونها!
«رُوِيَ أَنَّ عِيسَى(ع) مَرَّ وَالْحَوَارِيُّونَ عَلَى جِيفَةِ كَلْبٍ فَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ: مَا أَنْتَنَ رِيحَ هَذَا الْكَلْبِ! فَقَالَ عِيسَى(ع): مَا أَشَدَّ بَيَاضَ أَسْنَانِه» (مجموعة ورام/ ج1/ ص117). وهكذا هي نظرة صاحب الزمان(عج) إلينا، فهو لا ينظر إلى ما فسد وتهاوى من أرواحنا، بل يقول ما إن يرانا قادمين: "جاء الباكي على حبيبي الحسين..!"